متى نصل لمرحلة يصوّت فيها العراقيون للأكفاء والنزهاء؟

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-11-10 12:49

يطرح السؤال نفسه بقوة في كل دورة انتخابية عراقية: لماذا لا يصوّت الناخب العراقي للأكفأ والأكثر نزاهة وكفاءة، بعيدًا عن الاعتبارات الطائفية أو القومية أو المناطقية أو العشائرية؟ ولماذا تُهدر فرص بناء دولة عادلة وفاعلة بسبب هذه الاصطفافات الجزئية؟ الجواب لا يكمن في لحظة انتخابية واحدة، بل في البنية العميقة للوعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع، أي في نمط الوعي الحضاري السائد.

لقد عاش العراق خلال العقود الماضية تحولات عاصفة، من دولة مركزية صارمة، إلى فراغ سلطوي، إلى تعددية حزبية هشة، إلى نظام محاصصة يكرّس الانتماءات الجزئية بدل الانتماء الوطني العام. وفي ظلّ غياب دولة حضارية عادلة وفاعلة، أصبح المواطن يبحث عن حمايةٍ قبل أن يبحث عن خدمة، وعن انتماءٍ صغير قبل أن يبحث عن انتماءٍ كبير، وعن الزعيم الذي يشبهه قبل القائد الذي يخدمه. وهكذا تجد الطائفة نفسها تحمي نفسها من الطائفة الأخرى، والقبيلة من القبيلة، والمنطقة من المنطقة، فينكمش الولاء من الوطن إلى الهوية الفرعية، ومن الدولة إلى الجماعة.

أما الانتقال إلى مرحلةٍ يصوّت فيها العراقي للأكفأ والنزيه، فهو تحوّل في بنية الوعي، لا مجرد تغيير في إجراءات الانتخابات. فحتى لو تم تعديل القوانين، وتغيير آليات العد والفرز، واعتماد الدوائر الفردية، فإن الناخب الذي يحمل وعيًا فرعيًا سيعيد إنتاج نفس النتائج، لأن الخلل لم يكن قانونياً فقط، بل كان وعيًا وثقافةً وتخطيطًا حضارياً غائبًا.

إن الوصول إلى اللحظة التي يكون فيها معيار التصويت هو الكفاءة والنزاهة والرؤية لا يتحقق إلا عبر أربع مراحل متكاملة:

 1. وجود دولة حضارية حديثة تقوم على القيم العليا الإثني عشر: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، الإبداع. في هذه الدولة يشعر الفرد بالأمان من الدولة لا من الطائفة أو القبيلة، فيتحرر من الخوف الذي يولد الانغلاق.

 2. تعليم حضاري قيمي يربط الفرد بالمصلحة الوطنية الشاملة، ويؤسس لمفهوم المواطن المنتج للخير العام، لا المواطن الباحث عن حمايةٍ من انتماء صغير. فالتعليم هو مصنع الوعي ونمط التفكير.

 3. نهضة اقتصادية إنتاجية تخلق فرص عمل، وتحرر المواطن من الحاجة للوظيفة السياسية أو الولائية، إذ إن المحتاج هشّ، والهشّ يتشبث بالهويات الفرعية بحثًا عن ضمان.

 4. بناء رأي عام حضاري يدافع عن النزاهة والكفاءة كقيمة عليا، ويرفض الفاسد حتى لو كان من عشيرته أو طائفته أو منطقته. وهنا يصبح المجتمع نفسه رقيبًا أعلى من السلطة.

عندما تتحقق هذه العناصر، يصبح التصويت فعلًا واعياً لا غريزياً، واعيًا مبنيًا على إدراك المصالح الكبرى، لا على الخوف من فقدان مصالح صغيرة. عندها يتحول الناخب من تابع إلى مواطن، ومن مفعول به إلى فاعل، ومن ابن جماعة إلى ابن دولة.

إذن، لن نصل إلى مرحلة التصويت للأكفاء والنزهاء صدفةً أو تلقائيًا، بل عبر مشروع حضاري يغيّر وعي الإنسان، ويحرر إرادته، ويعيد بناء علاقته بالدولة والوطن.

وهذا بالضبط ما يعمل عليه مشروع الدولة الحضارية الحديثة؛ لأنه مشروع يعالج جذر المشكلة لا أعراضها، وينتقل بالإنسان من الانتماء الفرعي إلى المواطنة الحضارية الكاملة.

خلاصة الجواب: نصل إلى تلك المرحلة عندما ننتقل من مجتمع يبحث عن الحماية داخل الجماعة إلى مجتمع يوفر الحماية للجميع عبر الدولة، وعندما يتحول الولاء من الطائفة إلى الوطن، ومن الزعيم إلى المبدأ، ومن الشخص إلى الفكرة. وهذا ممكن، لكنه يحتاج إلى وعي حضاري، وتعليم قيمي، ودولة عادلة، واقتصاد منتج.

ذات صلة

النضج الاجتماعي وحق الانتخابالتصويت العقابي وتغيير قواعد اللعبة الانتخابيةمركز آدم ناقش.. الناخب الواعي وصناعة المسؤول النزيهالعراق احوج لممداني من نيويوركمِن أَسبابِ العزوفِ الانتخابي!