في معنى المصلحة.. برغماتية الحقيقة وواقعية الاخلاق

مرتضى معاش

2025-11-06 05:18

المصالح هي ما تؤدي إلى الصلاح، وما يصلح الامور يؤدي إلى الصلاح، وهذا هو المقصود من المصالح وأي أمر يؤدي إلى الفساد فهو ليس من المصالح وإن كان ظاهره المصلحة او يتلبس بها، فهو لا يعتبر من المصالح الواقعية حيث لايكون مؤداه الصلاح. 

وهذا الإطلاق يشمل كل ما يرتبط بالبشر ولا يمكن لأي دولة أو حكومة تدعي أن مصلحتها اهم من مصلحة الدول الأخرى أو الشعوب الأخرى فهذه ليست مصلحة وليست من الصلاح والإصلاح بل هو من الفساد والافساد، هذا أولا.

النسبية شرعنة للشر والفساد

 والامر الثاني للأخلاق قيم مطلقة ولا يمكن أن تكون الأخلاق قيم نسبية فالصدق مطلق، والكذب مطلق، والعدل مطلق، كما انه ليس هنالك عدل نسبي ولا كذب نسبي ولا مفاهيم نسبية مائعة، والا فما فائدة قواعد اللعب النظيف التي يمكن ان يلعبها الإنسان بصدق في الحياة، فإذا كانت الأمور نسبية سيصبح كل إنسان له قواعده الخاصة في الحياة، فمعنى النسبية هو انه ليس هناك اتفاق على أي قاعدة، فتصبح النسبية منشطرة الى مليارات من الحقائق المفتوحة على أي تأويل. 

فالنسبية هي من احابيل الشيطان التي يتم استخدامها من اجل تبرير الشر والفساد وأي أمر ليس فيه صلاح. لذلك فان الحقيقة مطلقة وإذا لم تكن الحقيقة مطلقة معناها لا يوجد أي شيء حقيقي على أرض الواقع، وهذه سفسطة تؤطر بلفظ ملتبس وضلل وهو النسبية كما يقول بعض الفلاسفة، فالسفسطة تعني أن كل شيء ليس له حقيقة لأنه ليس له واقع بل هو من اختراع الخيال البشري والذهن الانساني.

الواقعية تحريف للواقع

 وهذا الكلام ينطبق على البراغماتية التي تسمي نفسها بـ الواقعية ولكنها ذرائعية خلاف الواقع ولا تستهدف تطبيق الواقع أو الوصول للواقع، بل هدفها الالتفاف على الواقع وتحريفه، وبهذا هذا المعنى فإن الواقعية والبراغماتية كمصطلحات مختلقة هدفها تحقيق نتائج سريعة وتحصيل منفعة خاصة وفوائد عاجلة والارتشاف من لذات آنية، وتنظر الى ما قد تحققه من نتائج حسية دون النظر الى المبادئ التي انطلقت منها والوسائل التي قامت عليها.

البرغماتية وتدمير المستقبل

ومن هنا فإن أزمة الرأسمالية ومرضها الداخلي المزمن هو براغماتيتها وواقعيتها، فهي تريد تحقيق أرباح قائمة على المنافسة والنمو الاقتصادي وارتفاع أسعار الأسهم، دون أن تنظر إلى نتائج المستقبل وتداعيات سلوكيات الشركات النفعية، فلا تكترث الى التلوث التي تقوم به المصانع ورمي النفايات الكيمياوية في الأنهر والبحار وزيادة ثاني أكسيد الكربون وأزمة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية.

 ومن الأمثلة على البرغماتية الرأسمالية هو مشكلة الشركات الأمريكية التي نقلت مصانعها إلى الصين من أجل تعظيم الأرباح من خلال تخفيض التكاليف عبر الاستفادة من العمالة الاسيوية الرخيصة جدا، لكن هذا التفكير النفعي ذو النتائج السريعة أدى الى خلق ازمة كبيرة داخل الولايات المتحدة نفسها ظهرت نتائجها بعد 30 سنة، وهو تردي مستوى العمالة الامريكية والعجز التجاري في ميزان الصادرات لصالح الواردات، مما حقق تفوقا صينيا على أمريكا في التجارة والتكنولوجيا والمهارات، فقد عظموا أرباحهم ولكن ذلك أدى الى تدمير مجتمعهم وارتفاع في مستوى الايدلوجية الشعبوية التي اخذت تنادي برجوع الشركات الامريكية الى معاقلها الوطنية.

برغماتية حافة الهاوية

 ومن الأمثلة السياسية القنبلة النووية التي ضربت اليابان حيث ادى هذا الامر الى إطلاق سباق تسلح نووي لا مثيل له خطير جدا وضع العالم على حافة صدام نووي، الذي يقترب قليلا فقليلا من الانفجار بسبب الذرائعية التي لا تفكر في المصالح الإنسانية الكبرى، مما يعني يوجد تلاعب بالقواعد والقوانين بحسب نسبية المصالح التي تحكم البراغماتية والواقعية، حيث كل جهة تنظر إلى العالم من زاويتها الضيقة وقواعدها الخاصة حتى لو أدى ذلك الى أن يقف العالم على حافة الهاوية واقترب نحو الصدام والحرب الشاملة، والحروب العالمية الأولى والثانية شاهد على ذلك.

البرغماتية الشيطانية

 اما ‏التلاعب الموجود عند بعض السياسيين وخصوصا بعض الإسلاميين الذين يدعون ان هدفهم هو تطبيق المبادئ الإسلامية ولكنهم يطبقونها بحسب قواعدهم الخاصة، حتى لو أدى ذلك الى التناقض مع حقيقة المبادئ الإسلامية، وهذا يشمل كل تفكير يتمحور حول السلطة، وهذا التلاعب يسمونه ذكاء سياسي، ولكنه في واقعه هذا ذكاء شيطاني وليس عقلا، حيث سأل الامام الصادق (عليه ‌السلام)، مَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: (مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمنُ، وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ). قَالَ: قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: «تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ).

فالعقل يدل على قواعد ومبادئ ثابتة وغير متغيرة، وبالتالي يدرك معنى المصالح ومقاصدها وغاياتها. لذلك فإن البراغماتية نقيض المصالح لأنها تؤدي إلى تدمير المصلحة تدريجيا إلى أن تصل إلى ان مصلحته الحزبية فوق مصلحة الشعب، وبعدها تتضيق فتكون المصلحة الفردية الشخصية فوق المصالح الأخرى، وقد تؤدي للدكتاتورية المطلقة المتمحورة حول طاغية فرد فتكون مدمرة. 

غرائزية البرغماتية واخلاقية العقل

كذلك تعتمد البرغماتية على الغرائز وليس على الحكمة والعقل فتكون منفلتة وجامحة وليس لها حدود مثلما نراه في استغلال شبكات التواصل الاجتماعي للأطفال والمراهقين وايصالهم الى مرحلة الإدمان الخطير، وهذا سببه ان النظام الرأسمالي يتمحور حول مصالح الشركات وأصحاب الأسهم فحسب.

اما كيف يمكن أن تستفيد السياسة من الأخلاق لتحقيق المصالح، فإن الاخلاق هي قواعد إنسانية مشتركة يمكن من خلالها ممارسة قواعد اللعب النظيف، حيث يمكن ضمان الثقة في تحقيق المصالح العامة، التي تنبعث من التفكير العقلاني وليس الغرائزي، فالمستقلات العقلية مثل حسن العدل والصدق والأمانة، وقبح الظلم والكذب والخيانة هي قيم فطرية مطلقة لاتصبح نسبية في أي مجتمع كان، وان تحولت نسبية فهي غرائزية تتبع المصالح الخاصة وتتحول تدريجيا الى مصالح تدميرية.

* مداخلة بتصرف في الجلسة الحوارية التي عقدها مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية تحت عنوان (السياسة بين المصالح البرغماتية والأخلاق الإنسانية)

ذات صلة

العقل الرادع للشهواتانتخابات العراق.. كيف تُحصد الأصوات، وماذا تعني النتائج لاستقرار العراق الهش؟الانتخابات العراقية.. اثنا عشر سؤالاً وإجابات الخبراءلا تعطني أفكار وتذهبالسودان: الجرح المفتوح والغد المجهول