إنسانية المسؤول الرقمية: مثالية الشاشة ودكتاتورية الواقع

مصطفى ملا هذال

2025-11-02 04:08

في زمن التحول الرقمي الذي ضرب الحياة المدنية والسياسية، لم تعد صورة المسؤول تُصنع في أروقة المؤسسات ولا في صفحات الجرائد، بل على الشاشات الصغيرة في يد المواطن. 

فالمسؤول اليوم لم يعد بحاجة إلى خطاب رسمي ليؤكد إنسانيته التي كثيرا ما تكون غير موجودة، بل يكفيه مقطع مصور يوزع فيه الابتسامات، أو يصافح أحد العمال في الشارع، أو يشارك في مبادرة رمزية ليتحول في نظر الجمهور إلى نموذج للإنسانية الحديثة التي اخذت بالانتشار الواسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

غير أن هذه الإنسانية الرقمية التي تُبث عبر الهواتف لا تعكس في الغالب حقيقة الواقع الإداري والسياسي، بقدر ما تكشف عن صناعة متقنة لصورة افتراضية تخفي وراءها ممارسات مناقضة في العمق.

ويتخذ المسؤول من هذه الطريقة المثالية في التعامل مع الآخرين، كأداة دعائية، كذلك يمكن النظر اليها من الناحية الاتصالية، بانها ظاهرة برزت او جاءت ضمن أدوات التحول الديمقراطي وتغيير الخطاب السياسي، إذ لم يعد المسؤول يعتمد على الخطب الطويلة أو البيانات الرسمية، بل على اللغة البصرية التي تثير العاطفة وتخلق تواصلا نفسيا سريعا مع المتلقي. 

فحين يحتضن المسؤول طفلا يتيما او يزور مريضا او يشارك في تنظيف شارع لا تكسبه هذه التصرفات او الافعال بعدا إنسانيا، طالما الجمهور يعرف الدوافع الحقيقية وراء هذه الممارسات التي تخلق في العادة رضى مزيف وبشكل وقتي، مع تغليف صورته بوشاح البساطة والتواضع.

وقد يظن بعض الاخوة القراء ان هذه المقاطع اخرجت بشكل عفوي، لكن الحقيقية مختلفة تماما، فهي -المقاطع- لا تُنتج عفويا، بل ضمن منظومة إعلامية مدروسة تسعى إلى إعادة تعريف المسؤول في المخيلة الجمعية باعتباره قريباً من الناس، دون أن يترتب على ذلك أي التزام واقعي حقيقي بتحسين حياة أولئك الناس.

ومثل هذه التصرفات المتناقضة من قبل المسؤول، تجعل المواطن يعيش حالة من الإرباك بين ما يراه في الشاشة وما يعيشه في الواقع، فالمسؤول الذي يبدو إنسانيا على الإنترنت قد يتحول في مكتبه إلى نموذج مصغر من الدكتاتور، لا يسمح بالاختلاف، ويحيط نفسه بهالة من الخوف والولاء.

 هذا التناقض لا يصنعه الخطأ الفردي، بل يعكس ثقافة سياسية متجذرة ترى في الصورة أداة للبقاء، وفي التلميع وسيلة لإخفاء الفشل.

نحن اليوم امام مشهد مزدوج لأغلب المسؤولين في الحكومة العراقية، وهو وجه رقمي مبتسم، وواقع إداري متجهم، فالوجه الأخير يجعل هذه الظاهرة أكثر خطورة هو تحولها إلى دكتاتورية ناعمة، لا تُمارس عبر القمع المباشر، بل عبر التحكم بالصورة والوعي.

وهنا يحاول المسؤول الرقمي، وبعد تمكنه من تقديم روايته الإعلامية بشكل متقن، يحاول منع تشكل أي رواية موازية تنتقده أو تكشف تناقضه، ومثل هذه السيطرة لا يمكن وصفها بالدكتاتورية المموهة، أي التي تستبدل الصرامة القديمة بابتسامة مصطنعة. 

معتمدا بذلك على مواقع التواصل الاجتماعي عبر تحويلها إلى مسرح للتمثيل السياسي، إذ تُدار الحسابات الرسمية بعناية مفرطة، تُترك التعليقات المادحة، وتُحذف الردود القادحة، ويُنتقى الجمهور الذي يُسمح له بالظهور في المقاطع، كل شيء محسوب ليبدو عفويا.

وهنا تتجلى المعضلة الأخلاقية الكبرى، كيف يمكن لمجتمع أن يثق بمسؤول يختار أن يكون إنسانيا أمام الكاميرا فقط؟

التحدي الأكبر لا يكمن في سلوك المسؤول فحسب، بل في قابلية الجمهور للتأثر بالصورة دون تمحيص، والمطلوب اليوم ليس فقط مساءلة الأداء الإداري، بل أيضا تفكيك الخطاب البصري الذي يصنع الانبهار الزائف.

ويحصل ذلك حين يدرك المواطن أن الإنسانية الحقيقية تُقاس بقرارات عادلة لا بمقاطع مصورة، عندها فقط يمكننا الحديث عن نضج رقمي يقوّض سلطة الصورة ويعيد الاعتبار للفعل الواقعي.

إن المسؤول الذي يتعامل مع التكنولوجيا كأداة للتواصل الحقيقي لا للتجميل السياسي، سيبقى في الذاكرة أكثر من أولئك الذين بنوا صورتهم على مقاطع معدّة بإتقان. فـ”الإنسانية الرقمية” لا تُقاس بعدد المتابعين أو الابتسامات، بل بقدرة المسؤول على تحويل ما يظهره في العلن إلى ممارسة ملموسة في الواقع.

المسؤول الحقيقي هو من تتطابق إنسانيته الرقمية مع إنسانيته الواقعية، ومن يرى في الكاميرا وسيلة للمحاسبة لا للتمثيل

ذات صلة

السلوك التنظيمي لموظفي المفوضية وتأثيره في نجاح الانتخاباتهل من حربٍ جديدة وشيكة على لبنان؟تركيا والطريق والتنمية والماءإدارة الصراع في عالم يزداد تعقيدًافرانسيسكو والعدالة المفقودة