حين يتحول الموت إلى حياة
صباح الصافي
2025-10-15 04:20
ينفر كثيرون من مجرَّد ذكر الموت، ويثقل على أسماع بعضهم سماع اسمه، بينما يدعونا الإسلام إلى النَّظر إليه بعين مختلفة؛ فهو ليس نهاية مطلقة، وإنَّما بداية طريق جديد، وفناء يعقبه لقاء، وخسارة ظاهرها الدُّنيا وباطنها فوز عظيم لمن استعدَّ وأحسن الزَّاد. إنَّ الموقف من الموت يعكس عمق الإيمان وقوَّة الادراك، فكلَّما ازداد اليقين في القلب واتَّضح معنى الآخرة في الوعي، تحول الخوف إلى طمأنينة، وأصبح الموت في نظر المؤمن جسرًا مضيئًا يصل به إلى خالقه (جلَّ شأنه) وأحبّته، لا شبحًا مخيفًا يثقل قلبه ويعكِّر صفوه.
المحور الأوَّل: المعنى الحقيقي للموت.
الموت من النَّاحية اللغوية: "هو عبارة عن فقدان آثار الحياة ولوازمها وآثارها" (1). وهو حقيقة وجوديَّة لا يمكن إنكارها، ومآل محتوم يشترك فيه جميع البشر مهما اختلفت طبقاتهم وهيئاتهم؛ إذ لا يفرّق بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، أو مؤمن وكافر، فهو سنَّة كونية ثابتة تجري على كلِّ نفس. وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه السنَّة في مواضع عدَّة، منها قوله (تعالى): (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (2)، وقوله (سبحانه): (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (3). وتُظهر هذه الآيات شمولية الموت وكونه ملازمًا للوجود الإنساني، ولا يُستثنى منه أحد، كما تؤكِّد أنَّ الحياة الدُّنيا بطبيعتها زائلة، ومهما بلغ الإنسان من القوَّة أو التَّحصين فلن يُفلِت من لحظة النِّهاية المكتوبة.
وقد عبَّر الإمام الحسين (عليه السلام) عن هشاشة الحياة الدُّنيا وزوالها الحتمي؛ إذ يصوّر الدُّنيا على أنَّها مجرَّد ظلٍّ زائل لا ثبات له، ويستدعي عبر التَّساؤل مصير أصحاب السَّرايا، ومالكي الإبل والخيل، وأرباب السُّلطة والقوَّة، ومن عُرفوا بالبأس أو المكانة العالية، مشيرًا إلى أنَّ الجميع قد طواهم الزَّمن ولم يبقَ من آثارهم سوى الذِّكرى، وكأنَّهم لم يُخلقوا أصلًا؛ يقول (عليه السلام):
هَلِ الدُّنيا وما فيها جَميعاً * سِوى ظِلٍّ يَزولُ مَعَ النَّهارِ
تَفَكَّر أينَ أصحابُ السَّرايا (4) * وأربابُ الصَّوافِنِ وَالعِشارِ (5)
وأينَ الأَعظَمونَ يَداً وبَأساً * وأينَ السَّابِقونَ لَدَى الفَخارِ
وأينَ القَرنُ مِنهُم بَعدَ قَرنٍ * مِنَ الخُلَفاءِ وَالشُّمِّ الكِبارِ
كَأَن لَم يُخلَقوا ولَم يَكونوا * وهَل حَيٌّ يُصانُ عَنِ البَوارِ (6)" (7).
تُعبِّر هذه الأبيات بعمقٍ عن الرُّؤية الإسلاميَّة لطبيعة الدُّنيا، فهي تضع الإنسان أمام حقيقتها الزَّائلة التي لا خلود فيها، وتدعوه إلى تأمّل مصير الماضين الذين كانوا يومًا أصحاب سلطانٍ وجاهٍ وقوَّة. إنَّها لوحة وعظيَّة تذكِّر بأنَّ مجد الدُّنيا سرعان ما يطويه النِّسيان، وأنَّ ما يبقى هو العمل الصَّالح والرِّباط الوثيق بالآخرة، في دعوةٍ رحيمةٍ إلى التَّعلُّق بما هو أبقى وأدوم من زخارف الفناء.
والموت مخلوق من مخلوقات الله (تعالى)، شأنه في ذلك شأن الحياة؛ فهما مظهران من مظاهر القدرة الإلهيَّة التي تتجلَّى في تدبير شؤون الخلق. وقد ورد عن الإمام محمَّد الباقر (عليه السلام) قوله: "الحَيَاةُ وَالمَوْتُ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ الله، فَإِذَا جَاءَ المَوْتُ، فَدَخَلَ فِي الْإِنْسَانِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ إِلَّا وَخَرَجَتْ مِنْهُ الحَيَاةُ" (8). وهو نصٌّ يوضِّح البُعد الغيبي للموت، باعتباره كيانًا مخلوقًا يؤدِّي وظيفة محددة في دورة الوجود.
وتُفهم هذه الرِّواية في ضوء الرُّؤية العقائديَّة التي لا تنظر إلى الموت على أنَّه فناءٌ محض أو انعدام؛ بل ترى فيه فعلًا وجوديًا قائماً بذاته، يتحقّق بأمر الله (تعالى)، ويُمثِّل مرحلة انتقاليَّة من طور الحياة الدُّنيا إلى طورٍ آخر من الوجود، لا أنَّه نهاية مطلقة للإنسان.
ولعلَّ التَّعبير عن الموت بأنَّه "يدخل"، وأنَّ الحياة "تخرج" عند دخوله، يُشير بوضوح إلى استقلال كلٍّ من الحياة والموت في وجودهما، فهما ليسا حالتين متضادتين فحسب؛ وإنَّما مخلوقان يجريان وفق مشيئة الله (جلَّ جلاله) وسُننه التَّكوينية، يُزاول كلٌّ منهما دوره في حركة الخلق والانتقال بين العوالم.
المحور الثَّاني: من آثار ذكر الموت.
إنَّ تذكُّر الموت والتَّدبر في حقيقته من الوسائل المؤثِّرة في تهذيب النَّفس وضبط السُّلوك، لما يتركه من آثار عميقة في وعي الإنسان اتِّجاه الدُّنيا ومتاعها الزَّائل. وقد ورد في الأحاديث الشَّريفة تأكيدٌ متكرر على أثر هذا التذكُّر في توليد الزُّهد، وتهذيب التَّعلُّق بالماديات، والاستعداد للقاء الآخرة.
سُئل النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ (9)؟
فَقَالَ (صلَّى الله عليه وآله): أَكْثَرُهُمْ ذِكْراً لِلْمَوْتِ وأَشَدُّهُمْ لَه اسْتِعْدَاداً" (10).
وهو بيان يُظهر العلاقة بين الإيمان الحقيقي وبين وعي الإنسان بمحدودية وجوده الدُّنيوي؛ فالمؤمن "الأكيَس" يملك الفطنة العقليَّة، ويستثمر وعيه بهذا المصير الحتمي ليُعيد ترتيب أولوياته في الحياة.
وعَنْ أبى عُبَيدَةَ قالَ: قُلْتُ لأبى جَعْفَرٍ (عليه السلام): جُعِلْتُ فِداكَ، حَدِّثْنى بِما أنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: "يا أباعُبَيْدَةَ! أكثِر ذِكْرَ الْمَوْتِ فَما أكثَرَ ذِكْرَ المَوْتِ إنْسانٌ إلَّازَهَدَ فِى الدُّنْيا" (11). وهو توجيه يُجسِّد أثر التَّذكير بالموت في بناء الشَّخصيَّة الزَّاهدة، التي تنظر إلى الدُّنيا نظر العابر لا المُستقر، وتتعامل معها كوسيلة لا غاية.
إنَّ الإكثار من ذكر الموت لا يُقصد منه إشاعة الحزن أو التَّشاؤم؛ وإنَّما هو تدريب أخلاقي يوجّه الإنسان لتصحيح بوصلة سلوكه ويشجعه على السَّير بوعي نحو الغايات النِّهائية لوجوده وفق الرؤية الإسلامية للخلود والحساب. وفي هذا السِّياق، تختلف مشاعر النَّاس اتِّجاه الموت تبعًا لمدى إدراكهم لمعناه وحقيقة الحياة والمآل النِّهائي؛ فبينما يراه بعضهم نهاية مؤلمة ويخشون مواجهته، يراه آخرون منفذًا إلى راحة ونعيم أبدي. وهذا التَّباين يلفت النَّظر إلى ضرورة الوعي بالموت باعتباره جزءًا من التَّمرين الذي يدفع الإنسان إلى مواجهة حياته بصدق، وإعداد نفسه إعدادًا حقيقيًا للقاء الله (تعالى)، فيتحوَّل إدراكه لفناء الدُّنيا إلى حافزٍ للعمل الصَّالح والاستعداد للدَّار الباقية.
ولقد عبَّر الإمام الحسين (عليه السلام) عن هذا المفهوم بقوله: "لِيَرْغَبَ المُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللهِ وَإِنِّي لَا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً" (12)، في إشارة واضحة إلى أنَّ تقبّل الموت يتجذَّر ارتباطه الوثيق بحسن الظَّن بالله (تعالى)، وبمدى تقدير الإنسان لحياةٍ تتسم بالقيمة الأخلاقيَّة، حيث لا يُنظر إلى الموت باعتباره عائقًا أو نهاية؛ وإنَّما بوصفها مرحلة من مراحل الرِّحلة التي يكتمل بها المعنى الحقيقي للوجود.
ويشير أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى انسجام قلبه مع ذكر الموت، فيقول: "واللَّه لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه" (13). مشبِّهًا شعوره بالموت بالسَّكينة والاطمئنان الذي يشعر به الطفل عند حنان والدته، ليظهر أنَّ مواجهة الموت قد تكون هادئة وآمنة حين يكتسب الإنسان الإيمان والعمل الصَّالح.
ويصف (عليه السلام) المتقين بقوله: "ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ" (14). ممَّا يدل على أنَّ الوعي بالجزاء الإلهي هو ما يُثبت الإنسان في الحياة ويجعله يصبر على ابتلاءاتها، على الرَّغم من شوقه إلى لقاء الله (سبحانه).
المحور الثَّالث: الجهل بحقيقة الموت.
إنَّ الفهم الخاطئ للموت يثير في النَّفس خوفًا ورهبة لا مبرر لها، بينما الحقيقة تكمن في أنَّ الموت هو انتقال من حالة نقص إلى حالة كمال، ومن فناء مؤقت إلى بقاء دائم. فقد بدأ الإنسان متكوّنًا من التُّراب، ثمَّ تخلَّق في رحم أمه، حتَّى أصبح كائنًا عاقلًا؛ وهذه الرِّحلة هي مسار من الارتقاء والتَّطور. وبالمثل، فإنَّ الموت هو مرحلة انتقالية نحو دار أبقى، حيث يكتمل فيها معنى الوجود الحقيقي. وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا المعنى في قوله:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْمَوْتَ خَيْراً فَإِنَّهُ * أَبَرُّ بِنَا مِنْ وَالِدَيْنَا وَأَرْأَفُ
يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الْأَذَى * وَيُدْنِي مِنَ الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ (15).
وهذان البيتان يصوّران الموت بوجهه المشرق، وليس فناءً مفزعًا، وإنَّما رحمة إلهيَّة تحنو على النُّفوس وتقرِّبها من دار الخلود. تخلِّص النَّفس من عناء الدُّنيا وأثقالها، وتقرِّبها من دار البقاء التي تسمو على هذه الحياة قدرًا وخلودًا. ومن هذا المنظور يغدو الموت معبرًا رحيمًا، وخطوةً حتميَّة في طريق الخلود. وفي السِّياق نفسه روي أنَّه "دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) عَلَى مَرِيضٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَجْزَعُ منِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: "يَا عَبْدَ اللهِ! تَخَافُ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّكَ لَا تَعْرِفُهُ، أَرَأَيْتَكَ إِذَا اتَّسَخْتَ وَتَقَذَّرْتَ وَتَأَذَّيْتَ بِما عليكَ كَثْرَةِ الْقَذَرِ وَالْوَسَخِ، وَأَصَابَكَ قُرُوحٌ وَجَرَبٌ، وَعَلِمْتَ أَنَّ الْغَسْلَ فِي الحمَّامِ يُزِيلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَهُ فَتَغْسِلَ ذَلِكَ عَنْكَ، أَوْ تَكْرَهُ أَنْ تَدْخُلَهُ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَلَيْكَ؟
قَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ!
قَالَ: فَذَلِكَ الْمَوْتُ هُوَ ذَلِكَ الْحَمَّامُ، وَهُوَ آخِرُ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ تَمْحِيصِ ذُنُوبِكَ وَتَنْقِيَتِكَ عنْ سَيِّئَاتِكَ، فَإذَا أَنْتَ وَرَدْتَ عَلَيْهِ وَجَاوَرْتَهُ فَقَدْ نَجَوْتَ مِنْ كُلِّ غَمٍّ وَهَمٍّ وَأَذًى، وَوَصَلْتَ إِلَى كُلِّ سُرُورٍ وَفَرَحٍ؛ فَسَكَنَ الرَّجُلُ، وَنَشِطَ، وَاسْتَسْلَمَ، وَغَمَّضَ عَيْنَ نَفْسِهِ، وَمَضَى لِسَبِيلِهِ" (16). وهكذا يتحوَّل الموت من حدث مروع إلى تجربة تحرريَّة تنهي المعاناة وتفتح أبواب السَّعادة والسَّكينة الأبديَّة، ممَّا يمنح الإنسان الطَّمأنينة التي قد فقدها في حياته.
وهكذا، يظهر الموت – في ضوء هذا التَّصور– مرحلة تطهيريَّة تنقل الإنسان من عالم المعاناة إلى فضاء الحريَّة والسَّكينة. وقد عبَّر الشِّعر العربي عن هذا المعنى ببلاغة، كما قال أحد الشُّعراء:
منْ كانَ يرجو أن يعيشَ فإنني * أصبحتُ أرجو أنْ أموتَ لأُعتقَا
في الموتِ ألفُ فضيلةٍ لو أنَّها * عرفت لكان سبيلُهُ أن يُعشَقا (17).
وهذا التَّصوير الشِّعري يؤكِّد أنَّ الموت، متى أُدرك بحقيقته، يصبح انتقالًا مرغوبًا لا رهبةً، ومحررًا للرُّوح من قيود الدُّنيا إلى نعيم أبدي.
ومن أبرز ما يُستفاد من هذا الفهم للموت أنَّه لحظة فاصلة تُحدد بها مآلات الوجود الإنساني؛ فالموت في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) هو بداية اللقاء بالله (سبحانه وتعالى)، وهو المآل الذي يتطلع إليه المؤمن، ويجد فيه سعادته؛ لأنَّه يؤمن بأنَّ هذا اللقاء هو غاية الوجود، وتحقيق لوعد الله (تبارك وتعالى) بالرَّحمة والجزاء.
قال الشاعر:
قد قلتُ إذ مدَحُوا الحياةَ فأسرفُوا * في الموتِ ألفُ فضيلةٍ لا تعرفُ
منها أمانُ لقائه بلقائهِ * وفراق كلّ معاشر لا ينصفُ (18).
أمَّا غير المؤمن، فإنَّ رؤيته للموت تبقى محكومة بالخوف والقلق؛ لأنَّه يدرك داخليًا – ولو من دون وعيٍ صريح – أنَّه مفترق طريق؛ لكنَّه يفتقر إلى اليقين الذي يسكِّن النِّفس، فيُعرض عن التَّفكير فيه أو يتهرَّب من مواجهته، وهو ما يضاعف من ألمه.
وتتجلى أسمى معاني اللقاء بالله (سبحانه وتعالى) في ما رُوي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حين نقل حوارًا بليغًا بين نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وملك الموت "لمَّا أرادَ اللهُ تبارَكَ وتعالى قَبضَ رُوحِ إبراهيمَ (عليه السلام) أهبَطَ إلَيهِ مَلَكَ المَوتِ، فقالَ: السَّلامُ علَيكَ يا إبراهيمُ.
قالَ: وعلَيكَ السَّلامُ يا مَلَكَ المَوتِ، أداعٍ أم ناعٍ؟
قالَ: بَل داعٍ يا إبراهيمُ، فأجِبْ!
قالَ إبراهيمُ (عليه السلام): فهَل رأيتَ خليلًا يُمِيتُ خَليلَهُ؟!
قال: فرجع ملك الموت حتَّى وقف بين يدي الله (جلَّ جلاله)، فقال:
إلهي قد سمعتَ ما قال خليلُك إبراهيم.
فقال الله (جلَّ جلاله): يا ملك الموت اذهب اليه وقل له: هَلْ رَأيْتَ حَبِيبَاً يَكْرَهُ لِقَاء حَبِيبِهِ؟
إنَّ الْحَبِيبَ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبِيبِهِ" (19). وهكذا، يتضح أنَّ حقيقة الموت في المنظور الإسلامي لا تنفصل عن حقيقة القرب من الله (سبحانه)؛ بل هي ذروته؛ وكلَّما كان الإنسان أكثر تعلقًا بالله (تعالى)، كان الموت عنده أحبّ، وأيسر، وأجمل.
ويؤكّد ما تقدَّم من حقائق ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قصّة نبي الله سليمان (عليه السلام)؛ إذ قال: "إنَّ سُلَيمانَ بنَ داوودَ (عليه السلام) قالَ ذاتَ يَومٍ لأصحابِهِ: إنَّ اللهَ (تباركَ وتعالى) قد وَهَبَ لِي مُلكاً لا يَنبَغي لأحَدٍ مِن بَعدي، سَخَّرَ لِي الرِّيحَ والإنسَ والجِنَّ والطَّيرَ والوُحوشَ، وعَلَّمَني مَنطِقَ الطَّيرِ، وآتاني مِن كلِّ شيءٍ، ومَعَ جَميعِ ما اوتِيتُ مِن المُلكِ ما تَمَّ لِي سُروري يَوم إلَى اللّيلِ، وقد أحبَبتُ أن أدخُلَ قَصري في غَدٍ فأصعَدَ أعلاهُ وأنظُرَ إلى مَمالِكي، فلا تَأذَنوا لأحَدٍ علَيَّ لِئلَّا يَرِدَ علَيَّ ما يُنَغِّصُ علَيَّ يَومي.
فقالوا: نَعَم.
فلَمَّا كانَ مِن الغَدِ أخَذَ عَصاهُ بيَدِهِ وصَعِدَ إلى أعلى مَوضِعٍ مِن قَصرِهِ، ووَقَفَ مُتَّكِئاً على عَصاهُ يَنظُرُ إلى مَمالِكِهِ مَسروراً بِما اوتِيَ فَرِحاً بِما أعطِيَ، إذ نَظَرَ إلى شابٍّ حَسَنِ الوَجهِ واللِّباسِ قَد خَرَجَ علَيهِ مِن بَعضِ زَوايا قَصرِهِ، فلَمَّا أبصَرَهُ سُلَيمانُ قالَ لَهُ: مَن أدخَلَكَ إلى هذا القَصرِ، وقد أرَدتُ أن أخلُوَ فيهِ اليَومَ؟! وبإذنِ مَن دَخَلتَ؟!
فقالَ الشابُّ: أدخَلَني هذا القَصرَ رَبُّهُ وبإذنِهِ دَخَلتُ.
فقالَ: ربُّهُ أحَقُّ بهِ مِنِّي، فمَن أنتَ؟
قالَ: أنا مَلَكُ المَوتِ، قالَ: وفيما جِئتَ؟
قالَ: جِئتُ لأقبِضَ رُوحَكَ.
قالَ: إمضِ لِما أمِرتَ بهِ فهذا يَومُ سُروري، وأبَى اللهُ (عَزَّوجلَّ) أن يكونَ لِي سُرورٌ دُونَ لِقائهِ. فقَبَضَ مَلَكُ المَوتِ رُوحَهُ وهُو مُتَّكئٌ على عَصاهُ" (20).
وهذا المشهد يحمل دلالة بليغة: فحتَّى أعظم ملكٍ في التَّاريخ لم يكتمل له السُّرور إلَّا بلحظة اللقاء مع الله (عزَّ وجلَّ)، ممَّا يكشف أنَّ السَّعادة الدنيويَّة مهما بلغت تظل ناقصة، وأنَّ كمال السُّرور لا يتحقق إلَّا في الانتقال إلى الحياة الأخرى، حيث القرب من الله (سبحانه) ودوام النَّعيم.
ولا يكتمل الحديث عن لذة اللقاء بالله (تعالى) عند الموت إلَّا بالإشارة إلى بُعد آخر شديد الأثر في النُّفوس المؤمنة، وهو اللقاء بأحبّ خلق الله (سبحانه)؛ الرسول الأعظم محمَّد وآله الطَّيبين الطَّاهرين (صلوات الله عليهم). فكما أنَّ الموت يمثِّل لحظة الوصال بين العبد وربِّه (سبحانه)، فإنَّه كذلك لحظة اللقاء مع أولياء الله (تعالى) الذين طالما أحبّهم المؤمن ووالاهم في الدُّنيا، وها هو يراهم الآن في لحظة مفارقته للجسد، فينقلب الجزع أمنًا، والخوف طمأنينة؛ عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ هَلْ يُكْرَه الْمُؤْمِنُ عَلَى قَبْضِ رُوحِه؟
قَالَ: لَا واللهِ إِنَّه إِذَا أَتَاه مَلَكُ المَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِه جَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ.
فَيَقُولُ لَه مَلَكُ الْمَوْتِ: يَا وَلِيَّ اللهِ لَا تَجْزَعْ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) لأَنَا أَبَرُّ بِكَ وأَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنْ وَالِدٍ رَحِيمٍ لَوْ حَضَرَكَ. افْتَحْ عَيْنَكَ فَانْظُرْ.
قَالَ: ويُمَثَّلُ لَه رَسُولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ والأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ (عليهم السلام) فَيُقَالُ لَه: هَذَا رَسُولُ اللهِ وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام) رُفَقَاؤُكَ. قَالَ: فَيَفْتَحُ عَيْنَه فَيَنْظُرُ فَيُنَادِي رُوحَه مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَيَقُولُ:(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إِلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِه:(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً) بِالْوَلَايَةِ (مَرْضِيَّةً) بِالثَّوَابِ (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) يَعْنِي مُحَمَّداً وأَهْلَ بَيْتِه (وادْخُلِي جَنَّتِي) فَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْه مِنِ اسْتِلَالِ رُوحِه واللُّحُوقِ بِالْمُنَادِي" (21)؛ وهكذا، تصبح لحظة الموت لحظة فرحٍ صادق، يبدأ فيها عهد اللقاء الذي طالما انتظره القلب المؤمن. وليس أحب إلى المؤمن من أن تُنتزع روحه وهو يرى أمامه الوجوه التي أحبَّها ووالاها، فيطمئن قلبه، ويهون عليه كلّ ما يُسمّى موتًا.
قال الشَّاعر:
إذَا أمسَى فراشِي منْ تُراب * وصرتُ مجاورَ الرَّب الرَّحِيم
فهنونِي أحبَابي [أصحابي] وقولوا * لكَ البُشرى قدمتَ علَى الكَرِيم (22).
المحور الرَّابع: عدم الاستعداد للموت.
غياب الاستعداد للموت من أبرز الأسباب التي تجعل الإنسان يكره هذه المرحلة ويخشاها؛ فبينما يرى المؤمن المستعدّ في الموت لحظة لقاء وجزاء، فإنَّ غير المستعدّ يراه بابًا مظلمًا إلى المجهول، ومصدرًا للقلق والاضطراب. وهذا القلق ينبع من الشُّعور بعدم الجاهزية للموقف، والجهل بمصير النَّفس بعد مفارقتها للجسد.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة النَّفسيَّة بدقَّة؛ قال الله (تعالى): (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (23)؛ فهنا يربط النَّص الإلهي بين رفض التَّمني للموت وبين سوء العمل السَّابق، ممَّا يكشف أنَّ النُّفور من الموت هو نتيجة لتراكم الذُّنوب أو ضعف اليقين أو فساد العلاقة بالله (سبحانه وتعالى). ويُضاف إلى ذلك قوله (تعالى): (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (24). وهو تأكيد قرآني على أنَّ الهروب من الموت لا يُغني عنه شيئًا، فهو آتٍ لا محالة، وأنَّ لحظة المواجهة القادمة هي كشف لما قدَّمه الإنسان في حياته. وهنا يظهر البعد التَّربوي للنص؛ إذ يدفع الإنسان إلى مراجعة سلوكه وسيرته، ويحفّزه على الاستعداد للموت لا الخوف منه.
وبذلك يمكن القول: إنَّ كراهية الموت هي نتاج ضعف الإيمان، أو فساد العمل، أو غياب التَّصوّر الصَّحيح للآخرة. وأمَّا من أعدَّ نفسه بالعقيدة السَّليمة والعمل الصَّالح، فإنَّ الموت عنده تتمة طبيعيَّة لمسارٍ واضحٍ ومطمئن.
وفي السِّياق نفسه، يُضاف إلى البعد القرآني بُعدٌ تربويّ عميق ورد في كلمات أهل البيت (عليهم السلام)، يكشف السَّبب الجوهري وراء كراهية الموت عند كثير من النَّاس، وهو اختلال ميزان التَّعلق بين الدُّنيا والآخرة. فقد سُئل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): "مَا بَالُنَا نَكْرَهُ المَوْتَ وَلَا نُحِبُّهُ؟
قَالَ: "إِنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النَّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ" (25).
وبهذا الجواب، يُحدد الإمام (عليه السلام) أنَّ النُّفور من الموت نابع من طبيعة العلاقة التي بناها الإنسان مع الحياة الدُّنيا مقابل علاقته بالآخرة. فحين يُفرّغ الإنسان حياته في بناء دنياه، ويُهمل عمارة آخرته، تصبح الآخرة بالنسبة له خرابًا مجهولًا، والموت وسيلة انتقال إلى ذلك الخراب. بينما لو كان قد بنى للآخرة كما بنى للدُّنيا، لتغيَّر شعوره، ولأحبّ الانتقال إلى ما أعده لنفسه من الطَّمأنينة والخلود.
ومن الأحاديث الشَّريفة التي تُفسِّر كراهية الموت من زاوية واقعية عمليَّة، ما رواه الإمام الباقر (عليه السلام) عن جدّه النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)؛ فقَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا لِي لَا أُحِبُّ الْمَوْتَ؟
فَقَالَ لَهُ: "أَلَكَ مَالٌ؟".
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: "فَقَدَّمْتَهُ؟".
قَالَ: لَا.
قَالَ: "فَمِنْ ثَمَّ لَا تُحِبُّ الْمَوْتَ" (26).
وفي هذا الحديث يُبيّن النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بوضوح أنَّ النُّفور من الموت؛ لأنَّه لم يُقدّم شيئًا للآخرة ليحبَّ الانتقال إليها. فمن كان كلّ رصيده في الدُّنيا، سيخاف من مغادرتها. وأمَّا من عمل وقدَّم واستثمر في الآخرة، فسيحبّ لقاء الله (تعالى) كما يحبّ أحدنا الرُّجوع إلى ماله وأهله.
وبذلك، يتبيَّن أنَّ محبَّة الموت أو كراهيته إنعكاس مباشر لنمط الحياة والاختيارات اليومية، ولمدى وعي الإنسان بوظيفته وأداء التَّكاليف المطلوبة منه.
المحور الخامس: الاستعداد للموت طريق الطمأنينة.
إذا كان منشأ الخوف من الموت راجعًا إلى غياب الاستعداد له، فإنَّ العلاج الطَّبيعي والوحيد لتخطّي هذه الرَّهبة يكمن في تهيئة النَّفس واستعدادها لملاقاته؛ فالمسافر الذي جهَّز زاده ورتَّب شأنه لا يهاب الرَّحيل. وهكذا الموت؛ متى ما أعدّ الإنسان له عدَّته من عملٍ صالحٍ ونفسٍ مطمئنة، انقلب من هاجسٍ مرعب إلى موعدٍ منتظر ولقاءٍ مبهج. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله (تعالى): (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (27).
وقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى حقيقة الاستعداد للموت في كلمات جامعة حين سئل عن ذلك فقال: "أداءُ الفَرائِضِ، واجْتِنابُ المَحارِم، وَالْاشتِمالُ عَلَى الْمَكارِمِ، ثمَّ لا يُبالى أوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيهِ، وَاللهِ ما يُبالِي ابْنُ أبي طالِبٍ أوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أمْ وَقَعَ المَوتُ عَلَيهِ" (28).
وفي هذه الكلمات تتضح ملامح الطَّريق إلى الطَّمأنينة في مواجهة الموت، وهي تقوم على ثلاثة أركان:
1. أداء الفرائض.
أداء الفرائض والتَّكاليف الشَّرعية الرَّكيزة الأولى في بناء الاستعداد للموت؛ لأنَّها تُشكّل الصلة بين العبد وربِّه (سبحانه)، وهي بمثابة الوفاء بالعهد الإلهي الذي خُلق الإنسان من أجله؛ فالفرائض ـ كالصَّلاة، والصَّوم، والزَّكاة، والحج، والتَّولي، والتَّبري، وغيرها من الواجبات ـ تُجدد في القلب الإيمان، وتُرسِّخ في النَّفس السَّكينة، وتبني علاقة مستقرة مع الله (تعالى)، وهذه العلاقة هي التي تمنح الإنسان الثَّبات عند مواجهة الموت، وتُبدِّد عنه الخوف من الرَّحيل.
2. اجتناب المحارم.
يمثِّل اجتناب المحارم والابتعاد عن المعاصي جانبًا جوهريًا في الاستعداد النَّفسي للموت؛ إذ إنَّ الذنوب تترك أثرًا وجوديًا عميقًا في النَّفس، وتُنتج شعورًا بالخوف والقلق عند التَّفكير في لحظة الرَّحيل والمساءلة. فكلّ معصية تُراكم على القلب حجابًا، وتزيد من رهبة المصير المنتظر.
ومن هذا المنطلق، فإنّ اجتناب المحارم هو شكل من أشكال حماية النَّفس من التَّردي في حالة الفزع من الموت؛ لأنَّه يُحرّر الإنسان من ثقل الشُّعور بالذَّنب، ويؤهله نفسيًا لاستقبال الموت بثبات. فالإنسان الذي يعيش في معصية، يعلم في قرارة نفسه أنَّه سيلقى ربَّه (تعالى) وهو مُحمّلٌ بالتبعات، ولذا تجده يكره الموت، ويتجنَّب التَّفكير فيه؛ لأنَّه يرى فيه كشفًا لما يريد نسيانه. وقد عبَّرت النُّصوص الشَّريفة عن هذا المعنى بصور متعددة، حيث أُشير إلى أنَّ الذُّنوب هي التي تجعل الإنسان يخاف من لقاء الله (سبحانه)، لا الموت ذاته، كما في قوله (تعالى): (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (29)؛ أي أنّ أعمالهم السَّيئة هي التي حجبت عنهم رغبة التمنِّي في الموت واللقاء مع الله (سبحانه).
3. الاشتمال على المكارم.
التحلِّي بالأخلاق الفاضلة والإحسان إلى الآخرين ركيزة محوريَّة في الاستعداد للموت، إذ المكارم من أعظم زاد الآخرة الذي يرفد الرُّوح بالقوَّة والطَّمأنينة في مواجهة الرَّحيل. فالعمل الصَّالح، والتَّسامح، والرَّحمة، والصِّدق، والعدل، وغيرها من الفضائل الأخلاقية تُزكي النَّفس وتُهيئها لقبول الموت باعتباره خطوة طبيعيَّة في رحلة تتوج حياة العبد.
وعلاوة على ذلك، فإنها تُكوّن ذخيرةً ثمينة وزادًا للنفس، فكل عمل حسن يُحسب لصاحبه ويُرفع مكانه عند الله (تعالى)، وهو ما يُشعر الإنسان بالأمان عند لحظة الفراق.
فالمستعدُّ حقاً للموت يُسارع إلى أعمال البرِّ والخيرات، ويغتنم الفرص في الطَّاعات ومكارم الأخلاق؛ قال الرَّسول الأكرم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): "مَنِ ارتَقَبَ المَوتَ سارَعَ في الخَيراتِ" (30).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إِنَّمَا الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ تَجَنُّبُ الحَرَامِ وَبَذْلُ النَّدَى والخَيْرِ" (31).
وهكذا يظهر أنَّ الموت ليس حدثًا عابرًا ولا قدرًا مظلمًا؛ بل هو صفحة أخرى من كتاب الخلق الإلهي. ومتى أدرك الإنسان هذه الحقيقة بعين الإيمان، تغيَّر موقفه منه جذريًا؛ فبدلًا من الخوف يصبح فيه طمأنينة، وبدلًا من الجزع يُولد فيه الشَّوق، وبدلًا من كراهية الموت تتفتح نفسه على محبَّة لقاء الله (تعالى). وكلّ ما يزرعه المرء في حياته من أعمال صالحات وأخلاق كريمات يتحوَّل إلى زادٍ يؤنسه عند الرَّحيل، ويبدِّد عنه الوحشة والرَّهبة.