المعنى العميق في انتصار اللاعنف
مرتضى معاش
2025-10-14 04:11
ان جميع الادلة القرآنية تشير الى اللاعنف على اعتباره هو الاصل وليس استثناء، بل اكثر من ذلك ان الشرعية تصطف مطلقا مع اللاعنف، وأي فعل خارج اطار ممارسة اللاعنف يحتاج الى دليل او برهان، لأنه حينذاك سيدخل في كونه تصرفا في الغير بالأموال والانفس والاعراض، فيحتاج الى دليل خاص اذا أصبح استثناء.
وهي ليست قضية شرعية فحسب، بل هي ذات ابعاد قانونية وفطرية، وتمس حالة الحق والباطل، ففي جميع الجهات ترى اللاعنف هو الحاكم في الشرعية وعدمها ومن حيث نجاعة النتائج:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة208.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء107.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله:
(ما وضع الرفق على شيء إلا زانه ولا وضع الخرق على شيء إلا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة ومن حرمه حرم خير الدنيا والآخرة).
كذلك الامر بالنسبة للدين في غاياته وفلسفته، يقوم هو على شيء اساسي وهو الهداية والرحمة، بالتالي ان العنف هو نقيض الدين في جوهره:
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة256.
فعلى هذا الاساس رفع المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي رحمه الله شعار اللاعنف المطلق بدلالة آيات قرآنية منها:
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)النور22.
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)الحجر85.
فالعفو يعني ان يسامح ويغفر لمن آذاه، والصفح ان يقتلع من قلبه ونفسه أية آثار للضغينة والعتب، حيث يقول الامام الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فاصفح الصفح الجميل) العفو من غير عتاب.
مع العلم ان العتب هو ابسط الأمور في التعامل مع أخطاء الآخرين، لكن المطلوب هو افراغ القلب من أي رمزية للعنف تجاه الآخر، وهذا هو معنى العفو المطلق أو اللاعنف المطلق.
وكذلك فان العنف والاستبداد هما وجهان لعملة واحدة، فالمستبد والديكتاتور والطاغية يتغذى بالعنف حين يستغل العنف المضاد للتلبس بالشرعية، وهذا ما لمسناه الان في حالة الصراع الفلسطيني مع العدو الإسرائيلي والذي يبدو انه كسب اليوم معركة ربما، وما نعتقد به ان سيخسر الحرب في النهاية ان شاء الله، حيث ربحوا المعركة باستغلال العنف المضاد لكسب الشرعية في تدمير غزة ولبنان، لذلك فإن العنف هو معركة خاسرة في كل الاحوال ومهما كانت التبريرات.
الى جانب هذا وذاك فان العنف في طبيعته يهدم المبادئ والقيم العليا، لان العنف يتضمن في متلازماته وتداعياته الظلم، فهل يمكن ان يتم ضمان استخدام العنف دون ان يؤدي الى ظلم الآخرين من انتهاكات وتكاليف وتبعات تؤدي الى الاضرار بالضحايا والابرياء.
وفي كل الاحوال فإن العنف معركة خاسرة ولن يؤدي الى تحقيق نتيجة، فالعنف بطبيعته العامة يتغذى على الباطل، وحتى الذي ينتصر بالعنف فهو خاسر لانه يفتح مسيرة جديدة من العنف المضاد المستمر الذي لا يتوقف عند حد، فكل من رسخ دولته ونظامه باستخدام العنف وإن نجح لفترة معينة سيؤدي الى سقوطه ونهايته، وقد شهدنا سقوط جميع تلك الأنظمة وبنفس الأساليب التي مارسوها ضد الناس، بينما اللاعنف في مضامينه الانسانية الفطرية ينتصر لانه يؤدي الى انتصار المبادئ والحقيقة والفضيلة، وانتصار العقل على الغريزة، وانتصار الصبر على الانفعالات، فاللاعنف هو شجاعة التحمل والبقاء صامدا في ان لا يمارس القوة الغاشمة تجاه الآخرين.
والآيات القرآنية تشير الى المعنى العميق في انتصار اللاعنف:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران159.
بما تحمله من تأكيدات على نبذ العنف والغلطة وسلوك منهج الرحمة واللين والعفو والاحترام والالتزام والعزم الاستشاري المنضبط والتوكل المسبوق بالحكمة.
وهذا يؤكد على اصالة منهج اللاعنف واهميته في عملية الهداية التي تقود الامة والانسان نحو الصلاح والفلاح والاستقرار والامان.
لذلك فإن الشعوب التي وقعت ضحايا العنف خسرت كثيرا بسبب انفراد مجموعات بقرارات الامة، وهي قرارات لاتحمل الشرعية اللازمة، لانه لم يتم استشارة الامة في قرارات الحرب وممارسات العنف بدلالة الآيات القرآنية.
وبالاضافة الى القتلى والشهداء الذين ذهبوا ضحية حرب وعنف لا نتيجة فيها، فإن الآثار غير المادية من تحطم نفسي واجتماعي وعقائدي يخلف جروحا عميقة ستحملها الاجيال لعقود مديدة، بما يؤدي الى أن يفقد الناس ثقتهم وايمانهم وايجابيتهم وتماسكهم.
وعن امير المؤمنين الامام علي (عليه السلام):
(الْزَمُوا الْأَرْضَ وَاصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مُدَّةً وَأَجَلًا).
فلا تأخذنا الانفعالات والشعارات الثورية ونستعجل بالحركة في تحصيل الاهداف والمكاسب، فالدين قائم على الصبر البعيد المدى، حتى يهتدي الناس ويتم بناء الامة بناء معرفيا عميقا يحمل آثار إيجابية للأجيال المقبلة، ويؤدي الى ترسيخ الثقة والفضيلة والايمان والاستقامة.