الحركة النسوية: تأملات في الوعي والنشاط
د. لطيف القصاب
2025-09-18 04:53
قبل أكثر من عشرين عامًا سنحت لي الفرصة للعمل في شركة أجنبية تقدّم خدمات أمنية وطبية، وقد كنتُ خلال أوقات الفراغ أشترك بحوارات ثقافية شتى مع بعض هؤلاء الأجانب، وكان معظمهم من أصول أوربية ولاتينية، وقد دُهشت حين عرفت من بعضهم أنهم يتمنون لو أن حياتهم الاجتماعية كانت على غرار حياتنا نحن الشرقيين، لاسيما العلاقة بين الأزواج، فلدى هؤلاء -كما يبدو- حنين طاغ لتقاليد أسلافهم التي لم تكن في مجملها مختلفة عن الروابط التي تشيع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بوجه من الوجوه.
أكثر ما يجعل الرجل الأجنبي متبرّما من الزواج هو عدم قدرته على ممارسة (قوامته) إن جاز التعبير على شريكة حياته مثلما كان شائعا قبل عقود، فضلا عن نقمته على بعض القوانين التي يرى فيها الرجال جورًا عليهم أو تعسفًا في أقل تقدير، من ذلك مثلا أن القانون لديهم يلزم الزوج أن يعطي نصف ما يملك لزوجته إذا حدث الطلاق بينهما بصرف النظر عن مقدار ما يملك الزوج، وحتى لو بلغت ثروته بالمليارات، وهذا الحال نقيض ما عليه الأمر في الإسلام الذي أوجب على الزوج إعالة زوجته، والإنفاق عليها، حتى لو كانت من ذوي الغنى والثراء...
لستُ هنا في سياق إثبات أن قوانينا الاجتماعية تحوز درجات الكمال والتمام، فهي مثلها مثل غيرها بحاجة مستدامة للتعديل، والتطوير بما يواكب متطلبات الحياة العصرية ما عدا ما يدخل في باب الثوابت بطبيعة الحال، وغاية ما أرمي إليه هو لفت النظر إلى النواحي الإيجابية التي توجد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هذه التي يُنظر إليها بدونية من طرف ما يعرف بقادة الحركات النسوية في بلداننا، وبعض التجمعات التي ترفع شعارات الانتصار للمرأة العربية والمسلمة، ولكنها لم تستطع حتى الآن أن تجلب للمرأة حقًا حقيقيًا.
إن النساء حالهن من حال الرجال يكابدن مصاعب ومتاعب جمة، فثمة فئة كبيرة منهن يعانين من أزمات اقتصادية خانقة خاصة فاقدات المعيل، والمصابات بأمراض خطيرة...الخ، ومنهن من يقاسين العنف داخل أسرهن، لاسيما من جانب الأزواج، وربما الآباء والأخوان أيضًا، ومنهن المحرومات من حق التعليم، والمشردات...الخ، ولو تأملنا في هذه الأوبئة الاجتماعية لوجدنا ما يناظرها في مجتمع الرجال أيضًا! وجملة القول إن أفراد المجتمع الإنساني برمته في عصرنا الحاضر يحتاج إلى منصات باسلة للدفاع عنه، وتخفيف الضغط عن كاهله سواء أكان الفرد ذكرا أم أنثى أو حدثا أو بالغا، ولكن هذه المنصات ينبغي أن تضع في حساباتها طبيعة الإنسان، وما يمتاز به كلّ جنس من خصائص فريدة. فليس من الإنصاف أبدا أن يكون مبدأ المساواة المطلق حاضرا بين الرجل والمرأة؛ لأن في المساواة المطلقة ظلمًا للمرأة تارة، وللرجل تارةً أخرى، ويمكن القياس على مبدأ المساواة المطلق هذا مبادئ أخرى...
إن المطالبة بـ (حقّ التعرّي للمرأة) مثلا ليس من طبيعة الحق في شيء كما أن الإعلاء من قيمة التحلل، والإباحية كما تظهر في وسائل الإعلام الغربية، والأمريكية منها بوجه خاص ليس أكثر من حيلة رخيصة لاستعباد المرأة وإرجاعها إلى عصور ما قبل الحضارة! فأي قيمة، وأي ربح ستجنيه النساء من بيع أجسادهن، وأي اعتبار أخلاقي ستحصل عليه المرأة من هذا (العمل) حتى لو وهبتها بعض المنظمات المشبوهة جوائز نوبل والأوسكار!
إن الدعوة للعزوف عن الزواج في أمريكا قد يكون له ما يسوّغه بملاحظة ما ذكرناه من نظام قانوني هناك، ولكن أي مسوّغ لهذه الدعوة الغريبة في مجتمعاتنا نحن...
إن المراة بحسب قوانينا الاجتماعية لاسيما الإسلامية محطّ عناية، ورعاية، وتقدير، وتوقير ابتداءًا من مراسم الخطوبة وليس انتهاءًا بالزواج، وكينونتها أمًّا. ولو تتبعنا موارد التكريم والحفاوة التي تتمتع بها النساء عموما سواء أكانت أمًا أم زوجةً أو أختًا أو بنتًا في ضوء هذه الشريحة السمحة لضاق بنا الإحصاء، وتعذّر الاستقصاء، أو كاد.
إن مناصرة المرأة على مستوى تأمين العيش الكريم، والتعليم، واختيار الزوج المناسب...الخ مطالب تقف على رأس هرم الشرعية والأولوية، ولن تجد شخصًا سويًا يأخذ موقفًا مضادًا لذلك كله، ولكن الغلو في مطالبة المرأة بما ليس لها ينبغي أن يكون مرفوضًا من طرف المرأة نفسها، وهو ما بات ملاحظًا في صفوف بعض الناشطات الواعيات في الآونة الأخيرة، والأمل أن يغدو هذا النشاط الواعي ظاهرة اجتماعية إنسانية وأن يمتدّ من سوح مجتمعاتنا إلى سائر المجتمعات الإنسانية الأخرى، وما ذلك على المرأة العربية، والمرأة المسلمة بمستحيل...