بعد الهجوم على قطر: نحو نظريَّة للأمن الإقليمي الشامل
ابراهيم العبادي
2025-09-15 07:38
تتغير أنماط الأمن والتحالفات بين الدول كلما تبدلت طبيعة التهديدات وتجدّدت المصالح واختلّت موازين القوى. وفي منطقة الشرق الأوسط، التي تُوصف غالبًا بأنها “منطقة الرمال المتحركة”، لا يكاد شيء يرسخ طويلًا.
فالمتغيرات أسرع من قدرة الدول والمجتمعات على التكيف أو التخطيط بعيد المدى. ويعود ذلك إلى وجود ثغرات بنيوية مزمنة في منظومة الأمن الإقليمي، من أخطرها الحسابات الضيقة للنخب الحاكمة، وتوظيف الأيديولوجيا السياسية بما يعصف بأمن المنطقة ويمنعها من بناء تفاهمات استراتيجية طويلة الأمد .في قلب الشرق الأوسط برز مجلس التعاون الخليجي كإطار إقليمي استثنائي في عمره النسبي الطويل.
فقد سعت دول الخليج منذ تأسيس المجلس (1981) إلى ضمان أمنها واستقرارها في مواجهة قطبين إقليميين: إيران الجمهورية، وعراق نظام صدام حسين. ورغم تماثل البنى السياسية والأنظمة الاجتماعية، والاستناد إلى تحالفات تاريخية مع بريطانيا ثم الولايات المتحدة، فإن المجلس تعرض لهزتين عنيفتين: غزو الكويت عام 1990، ثم الأزمة الخليجية (2017–2021) التي عمّقت الشرخ بين قطر من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى.
اعتمدت دول الخليج منذ البداية على معادلة تقوم على التحالف الوثيق مع الغرب، تجنب الراديكالية السياسية، ضبط تأثير الأيديولوجيا، والانفتاح على الشراكات الاقتصادية – وهو ما منحها استقرارًا نسبيًا، لكنه ظل هشًا أمام الأزمات الكبرى.
الهجوم الإسرائيلي على قطر مساء التاسع من أيلول/سبتمبر 2025، عبر قصف جوي وصاروخي استهدف وفدًا تفاوضيًا لحركة حماس، شكّل محطة فارقة. فالكيان الصهيوني ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لم يعد كما قبلها؛ إذ تخلّى عن استراتيجيات الردع والحسم السريع، واتجه نحو رؤية أمنية جديدة قوامها إلغاء احتمالات التهديد قبل وقوعها، ولو عبر خرق سيادات الدول وتجاوز القانون الدولي.
بهذا المعنى، تسعى إسرائيل إلى فرض “سلام بالقوة”، أي معادلة “الأمن مقابل الأمن”: من يريد الاستقرار عليه القبول بالمطالب الأمنية الإسرائيلية، وإلا تعرّض للعقاب عبر تقويض استقراره وسيادته. وقد انعكس ذلك في تفاوت خيارات دول الخليج: الإمارات اندفعت إلى “تطبيع ساخن”، قطر اختارت الاحتماء بالتحالف الأميركي، السعودية انتهجت مقاربة قائمة على تنويع الشراكات، فيما تمسكت عُمان بسياسة الحياد والدبلوماسية الهادئة.
أظهر الهجوم على قطر – الحليف الوثيق لواشنطن والوسيط النشط في ملفات المنطقة – هشاشة التحالفات التقليدية. لم يعد التحالف مع الولايات المتحدة كافيًا لردع الهجمات، ولا الخطاب الأيديولوجي المقاوم قادرًا على موازنة التفوق الإسرائيلي، خصوصًا بعد إنهاك الفصائل المسلحة وتراجع الدور الإيراني بفعل العقوبات والتحديات الداخلية .باتت إسرائيل تسعى لاستنساخ مبدأ “مونرو” الأميركي (1823) في الشرق الأوسط، عبر منع أي قوة إقليمية من منافستها أو تهديد هيمنتها. وهو ما يفرض على دول المنطقة التفكير في صيغ جديدة للتعاون الأمني، شبيهة بما قامت به أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حين أدركت أن السلام المستدام لا يتحقق إلا ببناء منظومة أمنية شاملة قائمة على التعاون لا التنافس.
إن مواجهة الاستعلاء الصهيوني تتطلب الانتقال من أمن التجزئة إلى أمن التكامل، بحيث تُبنى رؤية مشتركة لا تستثني تركيا، إيران، باكستان، والدول العربية كافة – بما فيها تلك التي اختارت التطبيع. فالأمن الإقليمي لا يمكن أن يقوم على الاستقطاب أو الإقصاء، بل على إدماج مختلف الفاعلين في شبكة مصالح متبادلة .إن مشروعًا كهذا لا بد أن يوازن بين ضرورات الأمن القومي للدول وحق الشعوب في السيادة والتنمية، وأن يستند إلى معادلة توازن قوى متعددة الأطراف تمنع الاحتكار والهيمنة.
بالنسبة الى العراق، فإن مفتاح الاندماج في معادلة الأمن الإقليمي يكمن في إنهاء الانقسام السياسي والإعلامي الذي يُقدّمه للعالم بصورتين متناقضتين: رؤية الدولة، التي تنطلق من مسؤولياتها في احتكار السلاح وضمان الأمن وإدارة التوازنات، ورؤية الفصائل، التي تنتمي لمحور المقاومة وتسعى إلى فرض أجندتها. لن يستطيع العراق أن يكون مؤثرا محوريًا في الأمن الإقليمي إلا إذا رجّح كفة الدولة وتوحدت الخطابات السياسية داخله، وبنى استراتيجيته على المصالح الوطنية ومتطلبات العلاقات الدولية الحديثة.