اليمن بين القصف الإسرائيلي وتحوّلات موازين القوة

د. احمد عدنان الميالي

2025-09-11 03:59

تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من تشرين اول ٢٠٢٣ تحولات جيوسياسية جذرية، لعل أبرزها انخراط حركة أنصار الله في اليمن بشكل مباشر في الصراع مع إسرائيل، وقد تصاعدت هذه المواجهة بشكل كبير في آب ٢٠٢٥، عندما قُتل ما لا يقل عن أربعة أشخاص وأُصيب ٦٧ آخرون في ضربات على العاصمة اليمنية صنعاء، جاءت رداً على إطلاق الحوثيين نوعاً جديداً من الصواريخ المزودة، بذخائر عنقودية نحو العمق الاسرائيلي.

هذا التصعيد ليس حدثاً معزولاً، بل يمثل ذروة سلسلة من المواجهات العسكرية التي بدأت منذ آيار ٢٠٢٥، وتحول البحر الأحمر إلى ساحة صراع مفتوحة بين محور المقاومة بقيادة إيران من جهة، وإسرائيل وحلفائها الغربيين من جهة أخرى. إن فهم هذا التطور يتطلب تحليلاً عميقاً للأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية والإقليمية للصراع، وتقييم السيناريوهات المحتملة لتطوره مستقبلاً.

اولاً: الخلفية التاريخية والسياق الإقليمي

١- جذور الأزمة: من الحرب على غزة إلى البحر الأحمر: 

بدأت أزمة البحر الأحمر في ١٩ تشرين اول ٢٠٢٣، عندما أطلقت حركة أنصار الله صواريخ وطائرات مسيرة مسلحة باتجاه إسرائيل، مطالبين بإنهاء الغزو على قطاع غزة. هذا التحرك لم يكن مجرد موقف تضامني، بل استراتيجية محسوبة لتوسيع نطاق الصراع وإجبار إسرائيل على القتال على جبهات متعددة.

منذ ذلك التاريخ، استولت الحركة وقصفت عشرات السفن التجارية والحربية في البحر الأحمر، مما أدى إلى تلقيها مئات الضربات الجوية الانتقامية من قبل القوات الأمريكية وقوات التحالف. هذه الديناميكية حولت اليمن من ساحة صراع محلي إلى نقطة تقاطع للصراعات الإقليمية الكبرى.

٢- تطور القدرات العسكرية لحركة أنصار الله

على مدى السنوات العشر الماضية، تطورت القدرات العسكرية للحركة من جماعة محلية تعتمد على الأسلحة الخفيفة إلى قوة إقليمية تمتلك ترسانة متطورة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والألغام البحرية. هذا التطور لم يأتِ من فراغ، بل تشير الوقائع الى وجود دعم إيراني مستمر ومنهجي شمل:

أ‌- التدريب والاستشارة والتسليح، وإرسال خبراء من الحرس الثوري الإيراني لتدريب مقاتلي الحركة على تقنيات القتال المتقدمة، وخاصة في مجال الحرب البحرية والصاروخية.

ب‌- نقل التكنولوجيا اللازمة لتصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة محلياً، مما قلل الاعتماد على خطوط الإمداد الخارجية وزاد من صعوبة استهداف هذه القدرات. 

ج‌- تعزيز التمويل والإمداد، وتوفير التمويل اللازم والمواد الخام المطلوبة لاستمرار العمليات العسكرية والتوسع في البرامج التسليحية.

٣- اليمن كورقة ضغط إقليمية

تنظر إيران إلى اليمن كجزء من استراتيجيتها الأوسع، والذي يضم حزب الله في لبنان والفصائل المسلحة في العراق، وحركة حماس في غزة.

هذه الاستراتيجية تهدف الى:

أ‌- تطويق إسرائيل وخلق جبهات متعددة حولها، ما يجبرها على توزيع قواتها ومواردها، ويقلل من فعاليتها في أي مواجهة مباشرة مع إيران.

ب‌- التحكم والسيطرة على المضائق كمضيق باب المندب، أحد أهم الممرات المائية في العالم، كورقة ضغط مهمة ضد الاقتصاد العالمي.

ج‌- جعل الحركة غطاءً للردع الاستراتيجي على أي عدوان إسرائيلي أو أمريكي ضد إيران أو مصالحها الإقليمية.

ثانياً: تحليل الضربات الإسرائيلية الأخيرة

١- التوقيت والأهداف:

ان تنفيذ إسرائيل غارات جوية في صنعاء كان رداً على إطلاق الحركة صاروخاً يوم الجمعة الماضي باتجاه الأراضي الإسرائيلية. هذه الضربات، التي وقعت في أواخر آب ٢٠٢٥، استهدفت موقعاً عسكرياً حيث يقع القصر الرئاسي، بالإضافة إلى محطتي طاقة وموقع لتخزين الوقود.

ما يميز هذه الضربات عن سابقاتها هو توقيتها المدروس ودقة أهدافها وكثافتها النارية. فبدلاً من الضربات العشوائية، ركزت إسرائيل على مواقع استراتيجية تهدف إلى شل القدرة التشغيلية للحركة دون إحداث خسائر مدنية كبيرة قد تؤجج الرأي العام ضدها.

٢- التحليل التكتيكي للعمليات:

من الناحية التكتيكية، تكشف الضربات الإسرائيلية عن تطور في نهج التعامل مع تهديد حركة أنصار الله لتل ابيب. فبدلاً من الاعتماد على القوة الجوية فقط، شنت البحرية الإسرائيلية الأحد الماضي ضربات ضد محطة طاقة جنوب العاصمة اليمنية صنعاء التي يسيطر عليها الحركة.

هذا التنويع في منصات الإطلاق يحقق عدة أهداف اهمها:

أ- المفاجأة التكتيكية: اذ ان استخدام القوة البحرية مع القوة الجوية يقلل من قدرة الحركة على توقع التوقيت والمسار المحتمل للضربات.

ب- تقليل المخاطر: العمل من البحر يقلل من خطر فقدان طائرات أو طيارين، خاصة مع تطور منظومات الدفاع الجوي لحركة أنصار الله.

ج- الرسائل الاستراتيجية: إظهار القدرة على الوصول إلى أي نقطة في اليمن من منصات متعددة يعزز من قوة الردع الإسرائيلية.

٣- فعالية الضربات ومحدوديتها:

رغم الدقة التكتيكية للضربات الإسرائيلية، فإنها تواجه قيوداً هيكلية في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. الحوثيون، كحركة مقاومة متمترسة، لا يعتمدون على بنية عسكرية مركزية يمكن تدميرها بضربات جوية. بدلاً من ذلك، يعتمدون على:

أ- التشتت والانتشار: توزيع القدرات العسكرية على مساحة جغرافية واسعة وفي مواقع محمية طبيعياً.

ب- العمق الشعبي: الاندماج في النسيج الاجتماعي المحلي، مما يجعل استهدافهم دون إحداث خسائر مدنية أمراً بالغ الصعوبة.

ج- التكيف السريع: القدرة على إعادة بناء القدرات المدمرة في فترات قصيرة نسبياً، وتطوير تكتيكات جديدة للتعامل مع التهديدات.

ثالثاً- الابعاد السياسية والدعائية للضربات

١- انصار الله كحركة مقاومة إقليمية:

إحدى النتائج غير المقصودة للضربات الإسرائيلية انها عززت صورة حركة أنصار الله كحركة مقاومة اقليمية في الوعي الشعبي العربي والإسلامي. هذا التحول في الصورة العامة له أبعاد مهمة منها:

أ- الشرعية الداخلية: داخل اليمن، تمكن الحوثيون من تصوير أنفسهم كقوة وحيدة قادرة على الدفاع عن السيادة الوطنية ضد العدوان الخارجي.

ب- التأييد الإقليمي: على مستوى المنطقة، نجحوا في ربط صراعهم بالقضية الفلسطينية، مما أكسبهم تعاطفاً واسعاً حتى من قطاعات لم تكن تؤيدهم سابقاً.

ج- الاستقطاب الدولي: على المستوى الدولي، ساهمت الضربات في تعميق الانقسام بين من يرى الحوثيين كوكلاء إيرانيين، ومن يعتبرهم حركة تحرر مقاومة للهيمنة الغربية.

٢- الآلة الدعائية لحركة أنصار الله:

تمكنت الحركة من بناء آلة دعائية متطورة تستفيد بشكل مثالي من كل ضربة إسرائيلية لتعزيز روايتهم. هذه الآلة تعمل على عدة محاور:

أ- إعلام استغلال الأزمة: استغلال الضحايا المدنيين لإبراز إسرائيل كقوة معتدية تستهدف الشعب اليمني الأعزل.

ب- الخطاب الديني: ربط المقاومة بالواجب الديني والجهاد المقدس، مما يضفي بعداً روحانياً على الصراع.

ج- التاريخ والهوية: استحضار التاريخ اليمني العريق في مقاومة الغزاة، من الأحباش إلى العثمانيين إلى البريطانيين.

٣- التأثير على معادلة القوة الداخلية:

الضربات الإسرائيلية لها تأثير عميق على توازن القوى الداخلي في اليمن. فبينما كانت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً تحاول استعادة الشرعية من خلال الدعم السعودي والإماراتي، نجح الحوثيون في تصوير أنفسهم قوة وحيدة تقاوم المشروع الصهيوني.

هذا التطور له تداعيات خطيرة على مستقبل اليمن السياسي وفق مايلي:

أ- تآكل شرعية الحكومة في الجنوب: صعوبة تبرير تحالف حكومة الجنوب مع دول تدعم أو تتفهم الموقف الإسرائيلي في ظل تصاعد المشاعر المؤيدة للمقاومة.

ب- تعقيد عملية السلام: زيادة صعوبة التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في ظل تنامي النفوذ الحوثي وارتباطه بقضايا إقليمية أوسع.

ج- انقسام المجتمع: تعميق الانقسامات الطائفية والإقليمية في المجتمع اليمني بين مؤيدي ومعارضي التدخل في الصراع مع إسرائيل.

رابعاً: التداعيات الاقتصادية والإنسانية للتصعيد

١- التداعيات الاقتصادية:

يمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب حوالي ١٢% من التجارة العالمية، مما يجعل أي اضطراب في هذا الممر المائي له تداعيات اقتصادية عالمية. منذ بداية الأزمة، اذ شهدت المنطقة:

أ- ارتفاع تكاليف التأمين: زيادة أقساط التأمين البحري للسفن العابرة للمنطقة بنسب تصل إلى ٣٠٠% في بعض الحالات.

ب- تحويل المسارات التجارية: اضطرار العديد من الشركات لتحويل شحناتها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، مما يزيد المسافة والوقت والتكلفة.

ج- تقلبات أسعار النفط: تأثر أسواق النفط العالمية بالمخاوف من اضطراب الإمدادات، خاصة مع تزايد التهديدات لناقلات النفط، وسلايل التوريد.

٢- التداعيات الإنسانية:

الصراع المتصاعد يفاقم من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، فاليمن يعاني أساساً من:

أ- أزمة غذائية حادة: حوالي ١٧ مليون يمني يواجهون انعدام الأمن الغذائي، مع توقع تفاقم الوضع مع استمرار القصف.

ب- انهيار النظام الصحي: تدمير المستشفيات ونقص الأدوية والمعدات الطبية، مما يزيد من معاناة المدنيين.

ج- أزمة الوقود والكهرباء: استهداف محطات الطاقة يعمق من أزمة انقطاع الكهرباء والوقود، مما يؤثر على كافة جوانب الحياة اليمنية.

٣- التكلفة الاجتماعية:

الحرب المستمرة ستترك آثاراً عميقة على النسيج الاجتماعي اليمني من خلال مايلي:

أ- تدهور التعليم: تم إغلاق آلاف المدارس وتسريح المعلمين، مما يحرم جيلاً كاملاً من التعليم ولهذا تداعيات اجتماعية خطيرة.

ب- التفكك الأُسري: نزوح ملايين الأشخاص وفقدان العائل، يؤدي إلى تفكك البنية الأسرية التقليدية، ويضف من الترابط الاجتماعي.

ج- انتشار العنف: اعتماد العنف كوسيلة لحل النزاعات، وانتشار الأسلحة بين المدنيين يزيد من التطرف والعنف الاجتماعي، وفي مرحلة.

خامساً السيناريوهات المستقبلية والتوقعات الاستراتيجية للتصعيد

١- التصعيد المحدود:

هذا السيناريو يفترض استمرار الوضع الحالي من التصعيد المحدود والقصف المتبادل، حيث توجد عدة اعتبارات ترجح هذا الاحتمال:

أ- الخطوط الحمراء: كلا الطرفان يحرص على عدم تجاوز خطوط حمراء معينة قد تؤدي إلى تصعيد خارج عن السيطرة.

ب- الضربات المحسوبة: إسرائيل تركز على أهداف عسكرية واستراتيجية محددة، بينما يركز الحوثيون على إظهار القدرة دون إحداث خسائر كبيرة (السيطرة على النزاع).

ج- التأثير الإقليمي: استمرار التوتر في المنطقة دون انفجار شامل، مع تكيف الأسواق العالمية مع الوضع الجديد في حدود قابلة للاستيعاب.

٢- التصعيد الشامل:

يرتبط مع الوضع الإقليمي بكل ساحات ما يعرف بالمقاومة من حيث التصعيد والمواجهة المباشرة بين اسرائيل وايران. هذا السيناريو قد يخرج الصراع عن السيطرة ويضع اليمن وباقي الساحات تحت نهج الاستهداف الشامل، او نتيجة للاعتبارات التالية بخصوص اليمن وتحديداً حركة أنصار الله:

أ- خطأ في الحسابات: قيام أحد الطرفين بعمل يعتبره الآخر تجاوزاً للخطوط الحمراء، مثل استهداف قيادات رفيعة أو مواقع حساسة.

ب- دخول أطراف إضافية: انخراط إيران بشكل مباشر أو دخول أطراف أخرى من محور المقاومة في الصراع.

ج- توسع جغرافي: امتداد الصراع ليشمل مناطق أخرى في منطقة الخليج أو شرق المتوسط.

٣- التهدئة والتسوية غير المباشرة:

رغم صعوبة تحقيقه في الظروف الحالية، لكن مؤشرات حصوله قد تحدث من خلال:

أ- الوساطة الإقليمية: قيام دول مثل عُمان أو قطر، او الأمم المتحدة بدور الوسيط لتهدئة التوتر بسبب كلفة التصعيد وأهمية المنطقة التي تتحكم فيها الجماعة في البحر الأحمر.

ب- التغيرات الجيوسياسية: تطورات في الصراع الروسي-الأوكراني والعلاقات الأمريكية – الصينية، قد تؤثر على ديناميكيات الصراع الإقليمي بما يعزز فرضية التهدئة في اليمن، وتزايد الضغوطات الدولية على اسرائيل لعدم التصعيد. 

 في النهاية، يؤشر الصراع بين إسرائيل وحركة أنصار الله في اليمن تحولاً جذرياً في ديناميكيات الصراع الشرق أوسطي. فللمرة الأولى منذ عقود، تواجه إسرائيل تهديداً مباشراً من قوة غير قابلة للمواجهة المباشرة والاستهداف، وتراجع فرضيات التدخل البري فيها بما في ذلك حليفتها الولايات المتحدة، فاليمن تقع على بُعد آلاف الكيلومترات من حدودها، وتتمتع بعمق استراتيجي واسع ودعم إقليمي قوي، وشرعية خطاب وتأييد شعبي، وموقع جيبولوتيكي مميز يسهم في تصاعد قدرات هذه الجماعة على التكيف والمناورة والقدرة على استدامة الردع وادارة الصراع واستيعاب الضربات الاسرائيلية والامريكية دون شلل واسع انما بضرر مؤقت.

ان الضربات الإسرائيلية الأخيرة، رغم دقتها التكتيكية، تبدو أقرب إلى إدارة الأزمة منها إلى حلها. فبينما تحقق إرباكاً مؤقتاً في القدرات العسكرية الحوثية، فإنها منحت الجماعة مكاسب سياسية ودعائية قد تفوق في قيمتها الاستراتيجية الخسائر المادية المحققة.

في ضوء ذلك يجب على المجتمع الدولي والعربي ضرورة التحرك العاجل لمنع تحول اليمن إلى ساحة حرب إقليمية شاملة، لان مستقبل المنطقة وخاصة البحر الأحمر، مرهون بإيجاد صيغة توازن جديدة تأخذ في الاعتبار التغيرات الجيوسياسية الجذرية التي شهدتها السنوات الأخيرة. فالاستمرار في نهج القوة العسكرية المحدودة دون رؤية استراتيجية شاملة لن يؤدي إلا لتعميق الأزمات وتفاقم المعاناة الإنسانية، وقد يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وإيقاف الحرب على غزة او إيجاد حل للقضية الفلسطينية، والبحث عن اتفاق نووي جديد مع إيران، يعتبر المدخل الرئيس لهذه المقاربة وتسرع وتيرة الاستقرار الإقليمي في المنطقة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

ذات صلة

في ذكرى ولادة النبي محمد (ص): إقامةُ أمثل دولةٍ في الوجودالمكر والاحتيال في الحكومة والمجتمعالنبي محمد رحمة للعالمين.. ومخالفته هو الخسران المبينإسرائيل تضرب في قلب الخليج.. والأنظمة تُراكم التنديدالصين وورقة ترمب