تيانجين 2025: شرق يتقدم.. وغرب يتراجع
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-09-03 05:22
اختُتمت في الصين قمة منظمة شنغهاي للتعاون بمدينة تيانجين (31 آب – 1 أيلول 2025) بحضور زعماء الصين وروسيا والهند وإيران وتركيا، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. لم تكن القمة مجرد اجتماع بروتوكولي، بل محطة فارقة في التحولات الجارية على الخريطة الدولية.
الرئيس الصيني شي جين بينغ دعا إلى نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية و”الديمقراطية الدولية”، فيما شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أهمية التخلي عن هيمنة الدولار واعتماد العملات الوطنية في التبادلات. أما رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي فركّز على الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب كشرط أساسي للنمو.
بهذه الرسائل، بدت قمة تيانجين كأنها إعلان غير مباشر عن نهاية مرحلة الأحادية الأميركية. صحيح أن منظمة شنغهاي لم تتحول إلى “ناتو شرقي”، لكنها تعمل بخطوات واثقة على بناء بدائل مالية، وتكنولوجية، وأمنية تعزز استقلالية دولها عن النظام الغربي.
ومع ذلك، يبقى المشهد معقدًا: فالهند مثلًا شريك لواشنطن في “الرباعية” ضد الصين، وتركيا عضو في الناتو، بينما إيران غارقة في العقوبات. هذه التناقضات تجعل المنظمة أقرب إلى تحالف مرن للمصالح المشتركة منها إلى جبهة موحدة.
لكن، ورغم كل التباينات، فإن مغزى القمة واضح: العالم يتغير، وتوازن القوى يتحرك ببطء لكن بثبات نحو شرق أوراسيا. الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد، وعلى الجميع الاستعداد لزمن تتقاسم فيه القوى الكبرى ــ الصين، روسيا، الهند ــ صياغة مستقبل النظام الدولي.
من زاويتي، أرى أن قمة تيانجين ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل مؤشر على نهاية عصر وبداية آخر. العالم الذي تشكل بعد الحرب الباردة لم يعد قائمًا. التعددية التي ترفعها الصين وروسيا والهند قد تكون فرصة لدول منطقتنا أيضًا لتتحرر من أسر الاستقطاب، وتبني خياراتها وفقًا لمصالح شعوبها، لا وفقًا لإملاءات القوى العظمى.
إن ما حدث في تيانجين يتجاوز حدود السياسة والاقتصاد إلى ما هو أعمق من ذلك. إنه مؤشر على تراجع "الليبرالية الغربية" كنموذج وحيد للعالم. فبعد عقود من الهيمنة الفكرية والثقافية، بدأت أصوات من الشرق تطالب بنموذج يراعي خصوصياتها ويحترم سيادتها. هذا التراجع ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمي لأزمات متعددة: من الأزمة المالية في 2008، إلى الفشل في إدارة الصراعات الدولية، وصولًا إلى الانسحاب من أفغانستان. كل هذه الأحداث أضعفت الثقة في النموذج الغربي، وفتحت الباب لبروز بدائل.
القمة كشفت عن رغبة متنامية في "تفكيك منظومة الدولار"، وهو ما يمثل تحديًا استراتيجيًا للهيمنة الأمريكية. الانتقال إلى التبادل بالعملات المحلية ليس مجرد قرار اقتصادي، بل هو عمل سيادي يهدف إلى تحصين اقتصادات هذه الدول من العقوبات الغربية. هذا التوجه، إذا استمر وتوسع، قد يعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية ويقلل من نفوذ المؤسسات المالية الدولية التي تقودها واشنطن.
ورغم التناقضات الظاهرة داخل المنظمة، إلا أن ما يجمعها أقوى مما يفرقها. المصلحة المشتركة في مواجهة الهيمنة الغربية، والرغبة في بناء نظام عالمي أكثر توازناً، هي الخيط الذي يربط هذه الدول ببعضها. الهند، على سبيل المثال، قد تكون شريكًا لواشنطن، لكنها لن تضحي بعلاقاتها التجارية الضخمة مع الصين وروسيا. تركيا، عضو الناتو، تبحث عن دور أوسع في محور أوراسيا لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية. هذه المرونة في العلاقات هي السمة الأبرز للنظام الدولي الجديد.
باختصار، قمة تيانجين لم تكن نهاية المطاف، بل كانت بداية واضحة لمرحلة جديدة. إنها دعوة للجميع، خصوصًا دول منطقتنا، إلى قراءة المشهد بوعي، والتحرر من الأوهام القديمة، والعمل على صياغة استراتيجيات وطنية تستفيد من التحولات المتسارعة، بدلًا من البقاء أسيرة لقوى لم تعد قادرة على حكم العالم بمفردها.