الاستثمار الأمثل للتقنية الحديثة في خدمة الإنسان والقيم

صباح الصافي

2025-10-19 03:23

لقد أصبحت الآلات والتقنيات الحديثة جزءًا لا ينفصل عن حياة الإنسان المعاصر، فغزت كلَّ جوانب وجوده وأصبحت تمثِّل ركيزة ضروريَّة في طريقة تفكيره وعمله وتواصله. من الروبوتات الدَّقيقة التي تحاكي الوظائف البشريَّة، إلى الذَّكاء الاصطناعي المتقدِّم القادر على تحليل كميات هائلة من المعلومات، ومن الحواسيب العملاقة التي تفتح آفاقًا غير مسبوقة في البحث العلمي، إلى الأنظمة الرَّقميَّة التي تسهِّل التَّواصل والإنتاج وتسرِّع عجلة التَّقدم الصِّناعي والاجتماعي، وهذه الأدوات منحت البشريَّة قدرات هائلة على الابتكار والتَّفكير، ما جعلها تحقق قفزات غير مسبوقة في شتَّى المجالات، وأعادت تعريف مفهوم الإمكانات البشريَّة بطريقة لم يكن يمكن تصورها من قبل.

 وهنا يظهر تساؤل محوري: متى يستطيع الإنسان أن يستثمر هذه الآلات بشكلٍ صحيح، بحيث تتحوَّل إلى قوَّة مسخرة لخدمة الإنسان وارتقائه، وليس مجرَّد وسيلة للإنجاز المادِّي أو الانبهار بالأداء التّقني؟

 إنَّ جواب هذا التَّساؤل يكمن في مدى وعي الإنسان بذاته، وإدراكه العميق لمكانته في هذا الوجود؛ فمتى أشرق نور المعرفة في نفسه، انكشفت له غايته، وتبيَّن له موقعه بين الخلق. وقد لخَّص أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقيقة بقوله: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَهُوَ لِغَيْرِهِ أَعْرَفُ" (1)، وقال (عليه السلام): "مَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ لَمْ يُهِنْهَا بِالْفَانِيَاتِ" (2). فمَن استبصر بحقيقة ذاته، أدرك سرَّ وجوده، وانكشفت له الغاية التي لأجلها خُلق.

 وبعبارة أخرى: المفتاح الحقيقي لنجاح التَّعامل مع التقنيات الحديثة هو أن يربط الإنسان استخدام التقنيَّة بما هو أسمى من الأداء المادِّي والإنجاز السَّريع، وأن يجعلها خادمةً للقيم والفضائل لا حاكمةً عليها. فالتكنولوجيا تمنح القوَّة والدقَّة والسُّرعة؛ ولكنَّها تبقى بلا معنى ما لم يُضف الإنسان إليها بصمته الأخلاقيَّة. وبقدر ما يزرع الإنسان في الآلة من وعيٍ ونُبل، تُثمر له حضارةً راقيةً تُغذِّي الجسد والعقل والرُّوح معًا.

 وعليه، فإنَّ جوهر التَّعامل مع التكنولوجيا لا يُقاس بمدى التَّقدُّم التقني؛ وإنَّما القيمة الحقيقيَّة تكمن في عمق الوعي الذي يحمله الإنسان وهو يستخدمها. والاستخدام الحكيم لها يعكس إنسانًا أدرك رسالته، وأقام توازنًا ممدوحًا بين العقل والرُّوح، وبين ما تمنحه الآلة من قدرة وما تزرعه القيم من بصيرة. 

 وحين يبلغ الإنسان هذا الوعي، تتحوَّل التقنيَّة من أداة ميكانيكيَّة إلى وسيلة للارتقاء الإنساني، فيغدو التَّطور العلمي طريقًا إلى تهذيب النَّفس لا إلى استعبادها، ويصبح العمران الخارجي انعكاسًا لعمرانٍ داخليٍّ يقوم على الفكر، والبصيرة، والقيم الأخلاقيَّة الرَّاسخة. وبهذا التَّوازن فقط تُبنى الحضارة التي تجمع بين القوَّة والمعنى، وبين التَّقدُّم والرُّشد، وبين الإبداع والإيمان.

 ولعلَّ أجمل ما يُعبِّر عن هذا المقام ما ورد عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) في دعائه الشَّريف: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجعَلنا مِنَ الَّذينَ عَرَفوا أنفُسَهُم، وأَيقَنوا بِمُستَقَرِّهِم، فَكانَت أعمارُهُم في طاعَتِكَ تَفنى..." (3). فمن عرف نفسه، وعرف غايته، لم تَسْتَعبده الوسائل، وجعل كلَّ ما بين يديه سلَّمًا يقوده نحو معرفة الله (تعالى)، وتزكية نفسه، وخدمة خلقه.

المحور الأوَّل: طبيعة الآلة وحدودها

لقد استطاع الإنسان أن يصنع الآلة، وأن يعلِّمها كيف تُفكِّر وتحسب وتُجيب، حتَّى غدت تؤدِّي أعمالًا كان يُظنُّ يومًا أنَّها حكرٌ على العقل البشري. غير أنَّ هذا التَّقدُّم المذهل لا يُلغي الفارق الجوهري بين (الفاعل الآلي) و(الفاعل الإنساني)؛ لأنَّ جوهر المسألة لا يكمن في الكفاءة أو السُّرعة أو الدِّقة؛ وإنَّما في الوعي والمعنى والإرادة؛ فالآلة تنفذ ما أُمرَت به، بينما الإنسان يختار ما يفعله، ويدرك لماذا يفعله.

 وهذا الوعي الذي يميِّز الإنسان هو منحة ربَّانية، دلَّ عليها القرآن الكريم، حين قال الله (تبارك وتعالى):

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (4). فالنَّفخة الإلهيَّة هي التي جعلت من الطِّين كائنًا حيًّا قادرًا على الإدراك والشُّعور، وأودعت فيه بعدًا روحيًا لا يمكن لأي آلة أن تناله؛ لأنَّها لا تحمل (روحًا)؛ بل (رموزًا)، ولا تتنفس (معنىً)؛ بل (تُعيد إنتاج البيانات). وهنا موضع الفجوة التي لا تُردم بين الإنسان والآلة: الأولى وُجدت لتعرف الله (سبحانه)، والثَّانية وُجدت لتخدم الإنسان.

 ثمَّ إنَّ القرآن الكريم لا يُعرِّف الإنسان بما يملك من قوَّة أو بما يُظهره من قدرة، فحقيقته تتجلَّى في وعيه وحرَّيته في الاختيار. فهو الكائن المكلَّف بأن يسلك طريقه عن بصيرة وإدراك، لا عن انقيادٍ أعمى. وقد لخَّص الله (تعالى) هذه الحقيقة بقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(5). 

 فهو الكائن الذي يُخيَّر بين الشُّكر والكفر، بين الطَّاعة والمعصية؛ لأنَّه يمتلك إرادة وضميرًا. وأمَّا الآلة، فلا تختار ولا تُحاسَب؛ تعمل ببرمجتها مهما كان أثرها، وهي خالية من بُعد المسؤوليَّة الذي تقوم عليه كرامة الإنسان وتكليفه.

 وحين يقول الله (جلَّ جلاله): (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(6). 

فإنَّ هذا التَّكريم يعود إلى الوعي القيميّ الذي به يعرف الإنسان الخير والشَّر، والجمال والقبح، والحقيقة والزَّيف، وليس إلى قوّةٍ عضليَّة أو ذكاءٍ حسابي؛ فالآلة قد تُقلِّد التَّفكير؛ لكنَّها لا تُدرك المعنى لفعلها، ولا تعرف لماذا ينبغي أن تفعل الخير أو تجتنب الشَّر.

 وفي هذا السِّياق يُبرز القرآن الكريم بوضوحٍ أنَّ قيمة الفعل الإنساني تقاس بنيّته وغايته: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (7). 

فالنيَّة هي روح العمل، والغاية هي التي تمنحه قيمته. وأمَّا الآلة فلا تنوي ولا تقصد، فهي تفعل من دون غايةٍ، ولهذا تبقى أعمالها مجرَّدة من القيمة المعنويَّة مهما بلغت من الإتقان.

 ولأنَّ الله (تعالى) قال: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (8)، فقد أودع الله (سبحانه) في الإنسان سرَّ المعرفة والقدرة على التَّعلُّم والاكتشاف والإبداع، ليكون كائنًا واعيًا مُلهَمًا، لا مقلِّدًا أو منفِّذًا فحسب. وأمَّا الآلة، فعلمها انعكاس لما زُوِّدت به من معلومات، فهي لا تتجاوز حدود برمجتها، ولا تُنتج جديدًا إلَّا من خلال ما أُدخل إليها.

 وهكذا يتبيَّن أنَّ الإنسان في الرؤية القرآنيَّة روحٌ عارفة، وأنَّ علاقته بالآلة يجب أن تبقى علاقة (سيادة وتوجيه)، لا (مساواة وذوبان)؛ فالآلة يمكن أن تُساعد الإنسان؛ لكنَّها لا يمكن أن تُعبِّر عنه؛ لأنَّها تفتقد جوهر الوعي الذي هو أساس وجوده.

المحور الثَّاني: شرط الاستثمار الصَّحيح

 إنَّ من أبرز شروط الاستثمار الواعي للآلة أن يُدرك الإنسان ذاته أوَّلًا، ويعرف موقعه الحقيقي في نظام الوجود، ويستحضر مسؤوليته الكبرى التي حملها حين قبِل الأمانة الإلهيَّة. فقبل أن يُحسن الإنسان توجيه التقنيَّة، عليه أن يُحسن تعريف نفسه؛ لأنَّ ضياع الوعي بالذَّات هو أوَّل طريقٍ لاستعباد الإنسان لما صنعته يداه.

 لقد أوضح القرآن الكريم أنَّ الإنسان لم يُخلق عبثًا، ولم يُوجَد في هذا الكون ليكون تابعًا للأدوات أو أسيرًا لها، خُلق ليكون خليفةً لله (تعالى) في الأرض، حاملًا رسالته في إعمارها بالحقِّ والعدل؛ قال (سبحانه): (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(9).

 وهذه الآية الكريمة تُجسِّد حقيقة الهوية الإنسانيَّة في أعمق صورها، فالإنسان مُكرَّم بروح الخلافة التي أودعها الله (جلَّ جلاله) فيه، تلك الرُّوح التي تمكِّنه من إدراك الخير والشَّر، ومن توجيه قوى الكون نحو مقاصد تنسجم مع إرادة الحقِّ. ومن هنا تظهر مأساة الإنسان حين ينسى مقامه، فينقلب من خليفةٍ مسؤولٍ إلى تابع مبهور، ومن سيّدٍ للأداة إلى عبدٍ لها، فيفقد بذلك جوهر تكريمه وغاية وجوده.

 ويُكمل القرآن الكريم هذا المعنى حين يقول الله (تعالى): (هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(10).

 أي دعاكم إلى إعمارها بالعلم والعدل والعمل، لا بإفسادها بالغرور أو الغفلة؛ فالإعمار هنا هو تكليفٌ مقدَّس، لا ترفٌ ماديّ، والمقصود أن يوظِّف الإنسان ما في الكون توظيفًا يحقِّق به مقاصد الخير والبناء، لا أن يجعله وسيلة للإنبهار العابر أو الاستهلاك السَّطحي الخالي من المعنى.

 ومن لطيف إشارات القرآن أيضًا قوله (سبحانه): (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (11). فكلُّ ما في هذا الكون من طاقةٍ وآلةٍ وابتكارٍ إنَّما وُجد ليكون في خدمة الإنسان، لا ليتحوَّل إلى سيدٍ عليه. 

 وبعبارة أوضح، فإنَّ (التسخير) في المنظور القرآني يعني التَّوجيه الهادف نحو الغاية العليا؛ أي أن تكون التقنية جسرًا يرفع الإنسان في مدارج الوعي والكرامة، لا أداةً تُبعده عن أهدافه التي خُلق لأجلها.

 وفي ضوء هذا الفهم العميق، يبيِّن أمير المؤمنين (عليه السلام) قيمة الوعي الذَّاتي بقوله:

"مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ وَخَبَطَ فِي الضَّلَالِ وَالْجَهَالاتِ" (12).

 فمن أدرك حقيقة نفسه، وعرف أصل خلقته وغاية مسيره، لم يجعل الدُّنيا والتقنيَّة همَّه الأكبر ولا غايته المنشودة، واتَّخذها وسيلةً تقرّبه إلى الله (سبحانه) وتخدم رسالته في الحياة. وحين تقع الآلة في يد إنسانٍ غافلٍ عن معنى وجوده، تُصبح وسيلةً للهدر واللهو والابتعاد عن الغاية، وأمَّا إذا أدارها عقلٌ مؤمنٌ مدركٌ لجوهر الخلافة، فإنَّها تتحوَّل إلى أداةٍ لبناء الوعي، ونشر العلم، وإعمار الأرض بالعدل والنُّور؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الْعَاقِلُ مَنْ وَضَعَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا وَالْجَاهِلُ ضِدُّ ذَلِكَ" (13).

 وما أسمى أن تُوضَع التقنيَّة في موضعها المناسب، أداةً لخدمة الإنسان وإصلاح الحياة، لا بديلًا عن الضَّمير أو العقل. فحين يكون الإنسان واعيًا لتكليفه الشَّرعي، يصبح قادرًا على تحويل كلِّ آلةٍ إلى وسيلةٍ للبناء، وكلِّ تقدُّمٍ ماديٍّ إلى خطوةٍ في طريق الكمال والارتقاء. 

 ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إنَّ استثمار الآلة بشكل صحيح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى وعي الإنسان بذاته، وبقدرته على ربط استخدام التقنية بما يرضي الله (تعالى)؛ فالآلة تمنح القوَّة، أمَّا الإنسان فهو الذي يحدد كيفية توجيه هذه القوَّة، ويحول الإمكانات الميكانيكيَّة إلى أدوات لخدمة المجتمع، وتعميق الفكر، وتحقيق العدالة، وتحقيق التَّوازن بين المادة والرُّوح. وبهذا الفهم يظهر الإنسان بوصفه المسؤول الأوَّل عن مسار التقدُّم التقني، الحارس لبوصلته، فلا يدع الآلة تتحوّل إلى غايةٍ قائمةٍ بذاتها أو إلى صنمٍ جديدٍ يُعبد بغير وعي؛ وإنَّما يُعيدها إلى موضعها الطَّبيعي وسيلةً في خدمة ارتقائه، تغني حياته بالمعرفة وتثريها بالمعنى، وتنشر في أرجائها قيم الخير والوعي، لتجعل من الحياة ساحةً متوازنةً يلتقي فيها العلم بالإيمان، والمادة بالرُّوح.

المحور الثَّالث: التقنية في رؤية عمليَّة

 إنَّ كلَّ ما في هذا الكون من قدرات وأدوات ووسائل قد جُعل في متناول الإنسان، ليكون معينًا له في أداء رسالته، شرط أن يُحسن استثماره في ما يحقق الخير والنَّفع؛ يقول الله (تعالى): (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (14). 

 ومن روعة هذا التَّسخير أنَّ الإنسان يستطيع أن يجعل من كلِّ اكتشافٍ أو وسيلةٍ بابًا جديدًا لخدمة الحياة: فالماء الذي يُسقي الأرض يمكن أن يكون مصدر طاقةٍ نظيفة، والنَّار التي أُخرجت من الحديد يمكن أن تصبح وسيلةَ إنقاذٍ أو دمارٍ بحسب من يُمسك بها، والتقنيَّة الحديثة التي تصل بين أطراف العالم يمكن أن تكون طريقًا لنشر الوعي والنُّور، أو وسيلةً لتعميم الغفلة والفراغ؛ فالقيمة لا تكمن في الوسائل ذاتها؛ وإنَّما في الوعي الذي يوجّهها، والنيَّة التي تُسيِّرها، والغاية التي تُستثمر من أجلها.

 ونورد هنا بعض النَّماذج المشرقة للاستثمار المثمر للتقنيَّة؛ حيث تتحوَّل الأدوات الحديثة إلى وسائطٍ فاعلة في خدمة الإنسان:

1. هداية البشريَّة.

 لقد أصبحت التقنيَّة الحديثة وسيلة فاعلة في نشر النُّور الإلهي إلى آفاقٍ لم تكن ممكنة من قبل، فبفضل المنصَّات الرقميَّة، والإعلام المرئي والمسموع، والتَّطبيقات التفاعليَّة، أصبح من اليسير إيصال تعاليم القرآن الكريم وسيرة المعصومين (عليهم السلام) إلى مختلف الشُّعوب والثَّقافات؛ فالمواقع التَّعليميَّة والمنصَّات القرآنيَّة، والمحاضرات المباشرة، والمكتبات الإلكترونيَّة، والمحتوى الرَّقمي الهادف، كلّها تشارك في تعريف النَّاس برسالة أهل البيت (عليهم السلام) القائمة على الرَّحمة والعدل. وهذا الاستثمار الواعي للتقنيَّة يحقِّق معنى قوله (تعالى): (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (15)؛ فتُصبح الوسائل الحديثة جسورًا للهداية، ومنابر لنشر العلم الإلهي، تفتح أمام الإنسان سبل الوعي والإيمان.

 ولذا يؤكِّد سماحة المرجع الدِّيني السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الوارف) على نشر ثقافة القرآن الكريم والعترة الطَّاهرة (صلوات الله عليهم) وخاصَّة ثقافة عاشوراء بالتقنيات والتكنلوجيا الحديثة، قائلًا:

"علينا أن نستفيد من التكنولوجيا الجديدة، المتيسّرة اليوم للجميع، أحسن وأفضل استفادة، في إيصال ثقافة عاشوراء إلى البشريَّة كافَّة، بمختلف لغاتهم، وعلينا أن لا ننسى بأنَّ العمل الإعلامي هو نصف القضيَّة، والنصف الآخر والمكمِّل لها؛ بل والأهم هو الدِّفاع والحماية"(16).

2. الطب والرِّعاية الصحيَّة.

 في مجال الطبّ والرِّعاية الصحيَّة، أسهمت التقنيات الحديثة في إحداث نقلة نوعيَّة في تشخيص الأمراض وعلاجها؛ فقد دخلت الروبوتات الجراحيَّة غرف العمليات لتمنح الأطباء دقَّة متناهية وتحكُّمًا يفوق القدرات البشريَّة، كما باتت أنظمة التَّشخيص المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي قادرة على تحليل الصُّور والبيانات الطبيَّة بسرعة وكفاءة، ممَّا يقلّل من نسبة الأخطاء ويُحسِّن من فرص الشِّفاء. وأمَّا الأجهزة القابلة للارتداء، فقد أصبحت شريكًا دائمًا للمريض، تراقب مؤشِّراته لحظةً بلحظة، وتنبهه عند ظهور أي علامة خطر، فتتيح له الوقاية المبكرة وإدارة حالته الصحيَّة بوعي ومعرفة.

3. التَّعليم وتنمية المعرفة.

 لقد أتاح الذكاء الاصطناعي ومعه المنصَّات التعليميَّة الذكيَّة آفاقًا جديدة في ميدان التعلُّم، وأصبح بإمكانها أن توفِّر لكلِّ طالب برنامجًا تعليميًّا مصمَّمًا وفق احتياجاته وقدراته، فتُسهم في صقل مهارات التَّفكير النَّقدي وتنمية الإبداع الذَّاتي. كما منحت تقنيات الواقع الافتراضي للطُّلاب فرصة خوض التَّجارب العلميَّة والرّحلات التاريخيَّة بصورة تفاعليَّة، تجعل التَّعلُّم أكثر قربًا من الواقع وأعمق أثرًا في الوعي. وهكذا تغدو التقنية وسيلةً راقية لترسيخ المعرفة وتنمية الإدراك، انسجامًا مع التَّوجُّه القرآني في قوله (جلَّ جلاله): (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (17)؛ حيث العلم والوعي هدف أسمى، والتقنيَّة وسيلة لدعمه.

4. البيئة والتنميَّة المستدامة.

 تلعب أنظمة المراقبة البيئية دورًا محوريًا في متابعة جودة الهواء وكشف مصادر التَّلوث بدقَّة، ممَّا يمكِّن المجتمعات من اتِّخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة. وفي الوقت نفسه، تساهم الزِّراعة الذكيَّة وأنظمة الطَّاقة المستدامة في الحفاظ على الموارد الطَّبيعيَّة وتقليل الخسائر، محقّقةً توازنًا بين التقدُّم التقني وحماية البيئة. وينعكس أثر ذلك في حماية البيئة وضمان استدامة الموارد للأجيال المقبلة، تماشيًا مع ما أمر الله (سبحانه) به في قوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)(18).

5. تحسين جودة الحياة.

 تعمل أنظمة إدارة المرور والتَّحليل البياني على تنظيم حركة المركبات بسلاسة، فتقلل من الازدحام وتعزز السَّلامة العامَّة على الطُّرق. وفي الوقت نفسه تسهم الخدمات الحكوميَّة الرَّقميَّة في تسريع إنجاز المعاملات وتقليل فرص الفساد، ما ينعكس إيجابًا على جودة حياة المواطنين ويزيد من كفاءة وكفاية الخدمات العامَّة، محققة بيئة أكثر انتظامًا وفاعليَّة.

6. الأمن والسَّلامة.

 تُمكِّن الكاميرات الذكيَّة وأنظمة الإنذار المبكر للكوارث الطبيعيَّة من زيادة حماية الأرواح والحدِّ من الخسائر الماديَّة، سواءً النَّاتجة عن الجرائم أو الكوارث مثل الفيضانات والزَّلازل والانزلاقات الأرضيَّة، فتشكِّل شبكة أمان متكاملة تشارك في سلامة المجتمعات واستقرارها.

المحور الرَّابع: وصايا للشَّباب والفتيات

 أصبحت التقنيَّة اليوم جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليوميَّة، وهي أداة قويَّة يمكن أن تكون جسرًا نحو العلم والوعي والقيم، أو فخًا يضيع فيه العمر والطَّاقة. ولكي يكون الإنسان مسيطرًا على أمره لا خاضعًا له، لا بدَّ من الالتزام بعدد من المبادئ العمليَّة:

أوَّلًا: الوعي والنيَّة الصَّادقة.

 قبل أن يلمس الإنسان أيَّ جهاز، أو يشغِّل أيَّ تطبيق، يجدر به أن يتوقَّف لحظةً مع ذاته متسائلًا: ما الغاية من استخدامي لهذه التقنيَّة؟

 أهي وسيلة لتنمية معرفتي وصقل مهاراتي، أم مجرَّد مهربٍ من الواقع وضياعٍ للوقت، أم – والعياذ بالله – طريقٌ للمعصية والانفصال عن قيم القرآن الكريم والعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم)؟

 إنَّ هذا الوعي بالسُّؤال هو ما يصنع الفارق بين من يجعل التقنية سلَّمًا للارتقاء، ومن يجعلها قيدًا يغلّ عقله وروحه؛ فإذا اتَّضح أنَّ الهدف هو الهروب، أو ضياع الوقت، أو المعصية، فإنَّ التَّأمل في العواقب المحتملة لهذا المسار يوضح حجم الضَّرر الذي قد يسببه الاستمرار فيه.

ثانيًا: الاستثمار الأمثل للوقت.

 الوقت أغلى من أي أداة، ومن الحكمة أن لا تمضي ساعاتك بين التسلية والفراغ الرَّقمي فحسب. ومن المفيد أن تخصِّص جزءًا من يومك للتعلُّم وتغذِية العقل، وتطوير المهارات الفكريَّة واليدويَّة، واكتساب الحِرف أو البرمجة أو أي عمل يخدمك ويخدم مجتمعك؛ فالآلة قد تسهِّل الإنجاز؛ لكنَّها لا تستطيع أن تزرع الإبداع أو الفضيلة في قلب الإنسان.

ثالثًا: الحد من الإدمان الرَّقمي.

 التقنيات الحديثة قادرة على جذب الانتباه وإحداث الإدمان بسهولة، ومن الحكمة أن يكون لديك حدود واضحة لاستخدام الأجهزة ووسائل التَّواصل. ومن الجميل أن تنسِّق وقتك بين العبادة والقراءة والتأمُّل والتَّفاعل الحقيقي مع النَّاس؛ فالمتوازن في حياته هو من يُخضع التقنيَّة لخدمته، لا من يخضع هو لسطوتها.

رابعًا: استخدام التقنيَّة في خدمة الآخرين.

 تغدو التقنيات وسيلةً لبثِّ الخير حين تُوظَّف في ميادين التَّعليم، والإرشاد الدِّيني، والمشاريع الاجتماعيَّة، وحماية البيئة. وبهذا الوعي تتحوَّل الأدوات الرَّقميَّة إلى منابر تنشر النَّفع والعلم والمعرفة بين النَّاس.

خامسًا: الموازنة بين المادة والرُّوح.

 إنَّ التقنيَّة تفقد قيمتها حين تُختزل في تلبية الحاجات الماديَّة أو تحقيق المتعة الحسيَّة؛ لأنَّ دورها الأعمق يكمن في خدمة نموّ الإنسان الشَّامل، المادِّي والمعنوي معًا؛ وحين يوظّف الإنسان وقته بين النَّشاط العملي، كالعمل اليدوي أو الرِّياضة، وبين النَّشاط العقلي والوجداني، كالقراءة والكتابة والإبداع، تنشأ حالة من الاتِّزان النَّفسي والمعرفي تُغذِّي الرُّوح كما تُنمِّي القدرات. وبهذا التَّوازن يصبح استخدام التقنيَّة وسيلةً لبناء الذَّات وتكاملها، لا سببًا لاستهلاكها أو استنزافها.

سادسًا: الإبداع والابتكار المهني.

 لا تكتفِ بالمشاهدة أو الاستهلاك الرَّقمي؛ واجعل التقنيَّة أداةً للإبداع المهني: تصميم التَّطبيقات، إنتاج المحتوى التَّعليمي، وابتكار الحلول العمليَّة في مجالات البيئة والصحة والتَّعليم، واعلم بأنَّ الإنسان الواعي برسالته في الأرض يوجّه التقنية لخدمة الحياة وبنائها، لا للهرب من الواقع أو التَّرف أو التَّقليد الأعمى.

 وخلاصة القول: إنَّ التقنيَّة أمانة بين يدي الإنسان، ووسيلة ليتحقق من خلالها غايته في الأرض. وعندما تُدار بوعي وفطنة، تتحوَّل إلى جسر يربط بين العلم والإيمان، والمادَّة بالمعنى، فتسهم في بناء حضارة تُعلي من شأن الإنسان وتكرِّمه، ولا تُفرغه من جوهره ومبادئه. وأمَّا إذا تُركت بلا بصيرة ولا ضمير، فإنَّها تنقلب إلى سلاح ذي حدين، يرفع مستوى المعيشة؛ لكنَّه يحيد بالإنسان عن مسار الإنسانيَّة والفضيلة.

 إنَّ الاستثمار الأمثل للتقنيَّة يكمن في أن نجعلها امتدادًا للعقل لا بديلًا عنه، وأداةً لخدمة الحياة وتطويرها، لا وسيلةً تبعد الإنسان عن واقعه أو تعزله عن إنسانيته وقيمه. وأن نُسخِّرها لنشر الفكر، وبناء الإنسان، وتثبيت القيم التي دعا إليها القرآن الكريم وأرساها المعصومون (عليهم السلام). وهكذا تتحوَّل الآلة إلى وسيلةٍ للخير، ويغدو التَّقدم العلمي طريقًا إلى معرفة الله (سبحانه)، وتربية النَّفس، وإعمار الأرض.

 وحين يعي الإنسان مسؤوليته في هذا الكون، ويضع التقنيَّة في موضعها الصَّحيح، تنبثق حضارةٌ متوازنةٌ تجمع بين القوَّة والرَّحمة، وبين الابتكار والإيمان، وتُعيد للإنسان مكانته التي أرادها الله (سبحانه) له: خليفةً في الأرض، صانعًا للخير، وساعيًا إلى الكمال.

........................................

الهوامش:

1. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص 233.

2. المصدر نفسه.

3. بحار الأنوار: ج ٩١، ص 128.

4. سورة ص/ الآية: 72.

5. سورة الإنسان/ الآية: 3.

6. سورة الإسراء/ الآية: 70.

7. سورة الشورى/ الآية: 20.

8. سورة البقرة/ الآية: 31-33.

9. سورة البقرة/ الآية: 30.

10. سورة هود/ الآية: 61.

11. سورة الجاثية/ الآية: 13.

12. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص 233.

13. المصدر نفسه: ص 54.

14. سورة إبراهيم/ الآية: 32.

15. سورة النحل/ الآية: 125.

16. https://annabaa.org/arabic/ashuraa16626

17. سورة طه/ الآية: 114.

18. سورة الأعراف/ الآية: 56

ذات صلة

تمكين الحوكمة ودور الثقافة الاجتماعيةالتكنولوجيا الرقمية وتأثيرها على السيادة الوطنية للدولموت الآيدلوجية القومية: القوميتان العربية والكردية نموذجًاالنفط والسياسة: من يسيطر على من؟الحرب على غزة.. انتهت ولم تنتهِ