موت الآيدلوجية القومية: القوميتان العربية والكردية نموذجًا

د. لطيف القصاب

2025-10-19 03:21

من أكثر العلاقات تعقيدًا في منطقة الشرق الأوسط لاسيما في العراق هي علاقة الأكراد أو (الكورد) بالعرب. هذه العلاقة تشابكت فيها - على نحو متوتر- المصالح القومية مع الصراعات السياسية والإقليمية، وذلك منذ انهيار حكومة بني عثمان ، وقد زادت التوتر بعد الحرب العالمية الأولى حين أحبطت بريطانيا طموحات الأكراد في إقامة دولة مستقلة على خلفية دعمهم لدول المحور (ألمانيا والدولة العثمانية.. الخ).

تاريخيًا عاش الأكراد والعرب قروناً طويلة تحت راية الأتراك من دون وجود حدود سياسية واضحة تفصل بين ما هو كردي وما هو عربي، على أن الأكراد كانوا يتمتعون بشبه استقلال ذاتي في مناطقهم الجبلية، وكان ولاؤهم للسلطان العثماني ولاءً دينيا أكثر منه قوميًا، أمّا العرب فقد تزايد حسّهم القومي ابتداءًا من القرن التاسع عشر حتى قيام الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين مطالع القرن العشرين.

إن الوعي القومي العربي كما تشكّل في تلك الحقبة لم يكن له صدًى مماثل لدى الأكراد، هؤلاء الذين ظلوا متمسكين بانتمائهم العشائري والإقليمي إلى أن بدأ الفكر القومي الكردي بالتبلور في ما بعد، وذلك مع ظهور الجمعيات الكردية في إسطنبول.

وأثناء الحرب العالمية الأولى (1914–1918) وجد الأكراد أنفسهم منقسمين بين الولاء للدولة العثمانية والتعاون مع الحلفاء(بريطانيا وروسيا وفرنسا...الخ)، وعلى الرغم من هذا الانقسام فقد وقفت غالبية الزعامات الكردية إلى جانب الأتراك والألمان ضد الحلفاء بأمل أن يضمن لهم هذا الدعم اعترافاً باستقلالهم ( كأمّة موحدة) بعد الحرب...

لكن حسابات الأكراد لم تكن موفقة أبدا فمع هزيمة ألمانيا والدولة العثمانية صارت أراضي الأكراد تحت السيطرة البريطانية والفرنسية، وجرى تجاهل أي وعود باستقلال كردي مأمول... لقد رأت بريطانيا في الأكراد عنصراً غير موثوق به، وبهذا المقتضى سارت سياساتها لاحقًا.

وباختصار شعر الأكراد بالهزيمة، والخذلان والسخط؛ إذ كانت معاهدة سيفر عام 1920 قد منحتهم أملاً بإقامة دولة كردية مستقلة لكن معاهدة لوزان عام 1923 نسفت هذا الحلم تماماً.

وامتعاظًا من موقف الحلفاء لاسيما الإنكليز فقد ردّ الأكراد بسلسلة من الثورات والانتفاضات ضد الحكم البريطاني كان أبرزها ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية (1919–1923)، هذه الثورة التي رفعت شعار الاستقلال عن بريطانيا وتأسيس مملكة كردية لكنها جوبهت بقمع بريطاني ناجز وسريع، ومنذ ذلك الحين، نشأت لدى الأكراد نقمة تاريخية على بريطانيا بوصفها القوة التي لم تكتفِ بحرمانهم من دولتهم، بل أيضاً قمعت حركاتهم الوطنية بعنف مفرط، وكانت مسؤولة مسؤولية مباشرة عن دمجهم قسراً في دولة العراق (العربية)، وهكذا فقد ولد شعورٌ كردي مضاد للـ (عراقيين) أو لحكومات بغداد سواء منها الملكية أو الجمهورية، وفي المقابل نظر بعض العرب العراقيين إلى المطالب الكردية بالاستقلال أو الحكم الذاتي بوصفها تهديدا لوحدة الدولة الناشئة العراق. 

وهذا الشك المتبادل بين الأكراد والعرب أرسى أساس العلاقة العربية الكردية لعقود طويلة قادمة حتى بعد انتهاء الانتداب البريطاني واستقلال العراق عام 1932، وما تلا ذلك من أحداث سياسية في الساحة العراقية، وتدريجيا تخلى الأكراد عن عقيدتهم السابقة حيث الولاء للدين الإسلامي لا للقومية الكردية إلى ما يخالفها ، وما يعاكس واقع الحال لدى إخوانهم أو (أعدائهم) العرب على الرغم من أن الأكراد في تركيا وإيران والعراق وسوريا متقاربون مذهبياً (سُنّة شافعية) في حين أن العرب في العالم العربي منقسمون مذهبياً إلى سُنّة وشيعة وبمذاهب متعددة...

لقد أردتُ من السطور السابقة أن أمهد إلى ما أنا بصدد الحديث عنه حديثا مقتضبا اعتقادًا منّي بأن الجذر التاريخي يحمل في طيّاته عادة صورة المستقبل على أن هذه الصورة تظل خاضعة لموازين المنطق الواقعي، وتتشكّل بحسبه لا بحسب الرغبات والتطلعات العاطفية، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأشقاء الأكراد لا بدّ أن ينتبهوا عاجلًا أو آجلًا لحقيقة أن الآيدلوجيا القومية كانت قد دُفنت منذ أمدٍ بعيد، ولا سبيل لإعادة الروح لإشلائها واقعيا، ويكفي أن يتطلع الأكراد لنظرائهم العرب في الوقت الحاضر ليدركوا بأن الغالبية العظمى منهم تخلّوا إلى الأبد عن حلم الوحدة العربية بعد أن أيقنوا أنها استحالت إلى مستحيل كامل أو إلى صنم جامد في أقل تقدير، فما هي نسبة العرب الآن في دول كمصر أو الجزائر مثلا من الذين ما يزالون يفكرون بالاتحاد مع سوريا والعراق والخليج! على نحو ما كان شائعا قبل بضعة عقود في العقل العربي؟

إن المظلة الوطنية هي نموذج الحكم الأكثر نجاحًا في عالم اليوم لاسيما في الدول الأكثر رفاهية ورخاء، ولا غنى للأكراد والعرب أن يقبلوا مختارين العيش (الوطني) المشترك، وأن ينهجوا نهج التوحّد والانسجام بدلا من منهج التشرذم والانقسام. 

إن هذا هو الحلّ الذي ينبغي أن ينظر إليه جميع سكّان العراق نظرة تقدير واحترام لا نظرة تهكّم واستهجان... 

ذات صلة

تمكين الحوكمة ودور الثقافة الاجتماعيةالتكنولوجيا الرقمية وتأثيرها على السيادة الوطنية للدولالاستثمار الأمثل للتقنية الحديثة في خدمة الإنسان والقيمالنفط والسياسة: من يسيطر على من؟الحرب على غزة.. انتهت ولم تنتهِ