لبنان وتحديات العودة إلى سياقات الدولة

ابراهيم العبادي

2025-08-18 05:25

لم يجد حزب الله نفسه يومًا أمام خيارات وجودية صعبة كما هو الحال اليوم. صحيح أن قيادة الحزب كانت مستعدة لسيناريوهات سيئة، بما فيها المواجهة المسلحة دفاعًا عن سلاحه وبنيته العسكرية والتنظيمية، مستندة إلى سردية عقائدية وأيديولوجية راسخة، وعلاقات تحالف وإسناد متبادل مع دولة ولاية الفقيه في إيران، ومع قوى سياسية واجتماعية لبنانية وإقليمية عربية.

على امتداد مسيرته، كان الحزب يختبر خياراته باستمرار، ويضع في حساباته احتمال المواجهة مع القرارات الأممية مثل القرار 1559 والقرار 1701، ومقررات اتفاق الطائف (1991)، التي نصت على حلّ الميليشيات المسلحة وإلزام فرقاء الحرب الأهلية اللبنانية بالتخلي عن الأذرع العسكرية والعودة إلى العمل السياسي المدني، في إطار توازنات دقيقة تحفظ الكيان اللبناني.

لكن ما لم يحسبه الحزب بدقة، أن مكاسب الانتصارات التي راكمها خلال 40 عامًا لم تحصّنه من دفع ضريبة قد تساوي شطب قوته السياسية والعسكرية دفعة واحدة، وإعادته إلى مصاف الأحزاب اللبنانية الأخرى. فقرار مجلس الوزراء اللبناني في 12 آب الجاري بتسليم سلاح الحزب، يساوي – في نظره – إلغاء فلسفة وجوده وتطوره وتحوله إلى لاعب إقليمي، بعد أن تجاوز دوره المحلي كتنظيم مسلح يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، ليس في لبنان فحسب، بل خارجه أيضًا.

بهذا الموقف الرسمي، أُلغيت الشرعية السياسية والقانونية الضمنية التي سمحت للحزب بأن ينوب عن الدولة في مواجهة إسرائيل، وترسيخ معادلة ردع عسكري ونفسي منذ انسحاب جيش الاحتلال عام 2000. لقد استمد الحزب قيمته السياسية والعسكرية والإعلامية من سردية المقاومة ونصرة القضية الفلسطينية، وجعلها قضية مركزية للعرب والمسلمين. ولو لم يتبنَّ هذه القضية، لاكتفى بالمكاسب التي تحققت له بعد الانتصار الأول، لكن الاستثمار في فلسطين لم يكن بلا أثمان ولا حتى دون اخطاء .

فالمواجهة مع المشروع العسكري والسياسي الصهيوني تعني دخول صراع مفتوح مع إسرائيل وحلفائها وداعميها. وهذا ما حصل بعد عملية “طوفان الأقصى” ودعمه المباشر لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ جاءت الكلفة باهظة ومؤلمة، ليس فقط في قياداته وكوادره، إنما في الضغط على حاضنته الاجتماعية وتقليص قدراته العسكرية، بل في محاصرته بخيارات ضيقة تتعلق بوجوده المسلح وبقدرته على الدفاع عن لبنان وردع أي مغامرة إسرائيلية جديدة.

نتيجة إخفاق رهانه على شعار “وحدة الساحات”، بات ثمن الخسارة هو إعادة رسم قواعد الاشتباك بين لبنان وإسرائيل، وتنفيذ القرارات الأممية التي تتمسك بها الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما العرب والغربيون، إلى جانب شريحة واسعة من اللبنانيين.

تدرك الدولة اللبنانية أن هامش الصمود والمناورة أمام الشروط والإملاءات الأميركية والإسرائيلية والفرنسية والعربية محدود للغاية. فالهدف المركزي لهذه القوى اليوم هو استعادة لبنان من النفوذ الإيراني، أو بالأحرى إخراج إيران نهائيًا من ساحة الصراع، وحرمانها من عمق استراتيجي كان يشكل “حزام نار” يطوّق إسرائيل ويمنح طهران قدرة ردع ومناورة في استراتيجيتها الدفاعية المتقدمة.

خسارة إيران لمساحات واسعة من نفوذها في سوريا تدفعها للتشبث بما تبقى لها في لبنان، فيما يسعى خصومها إلى تجريدها من آخر قلاعها على ساحل المتوسط. السعودية من جهتها ترى في المشهد فرصة تاريخية لاستعادة نفوذها، عبر إعادة ضبط سلاح حزب الله وإنهاء معادلة الردع الشيعي اللبناني تجاه إسرائيل.

الجهد السعودي في لبنان يبدو مكثفا بتعيين الامير يزيد بن فرحان مبعوثا خاصا وفي تحركات السفير وليد بخاري، لكن ما يستدرك على هذا الجهد انه اعطى ظهره لشيعة لبنان ولم يعبأ بمخاوفهم واحتياجاتهم، ولو ذهبت الرياض إلى الموازنة في تحركها على جميع اللبنانيين واخذت مصالح ومخاوف طائفة كبيرة كالشيعة لجاءت سياستها حكيمة ومفيدة لجهة منع تصاعد الأزمة وبلوغها حد التهديد واحتمال اللجوء إلى السلاح بضغط مخاوف البقاء، أما غالبية المسيحيين والسنة والدروز، فقد مالوا إلى تسليم قرار الحرب والسلم للدولة وجيشها، انسجامًا مع رغبة قديمة للخلاص من قوة الشيعة طائفيا وانسجاما مع مطلب أميركي-إسرائيلي-عربي راهن يريد طي صفحة المحور الشيعي المقاوم بقيادة ايران، بدلًا من تحمل كلفة المقاومة عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا .

شيعة لبنان اليوم أمام معضلة قاسية. فهم الطائفة التي حققت مكاسب سياسية واجتماعية مهمة تحت راية المقاومة، وهم اليوم الطائفة الجريحة، التي حمّلت نفسها تكليف الدفاع عن قضية قومية اسلامية ولم يُحفظ لها هذا الموقف المبدأي وتكاليفه الباهظة كأن الآخرين يقولون للشيعة تحملوا وزر خياراتكم وقراراتكم!، غالبية شيعة لبنان يشعرون أن مطالبتهم بتسليم السلاح سيجردهم من قدرات دفاعية ضرورية لمواجهة اسرائيل خارجيا ولمعادلة الديناميكيات الطائفية داخليا في بلد شديد الهشاشة، وفي ظل حالة سيولة إقليمية ومشهد ضبابي وعربدة إسرائيلية. كما إن إيران ترى أن خسارتها لحليف بحجم حزب الله في لبنان سيحدث ثغرة خطيرة في استراتيجيتها الدفاعية وفي المشهد الاقليمي برمته الذي انفقت لأجله 43 عاما من الرعاية والجهد المكثف .

حلفاء الحزب في العراق والمنطقة يتوجسون من مسار يستهدف تغيير صورة الشرق الأوسط على حساب محور المقاومة. فالمحور بات في وضع دفاعي، يسعى بكل وسيلة لمنع خصومه من تحقيق مكاسب استراتيجية في مقدمتها تجريد حزب الله من سلاحه. وفي خضم هذا الصراع السياسي والإعلامي، تتضخم كرة الثلج في ظل التباسات عميقة بين مفاهيم المقاومة وسيادة الدولة، وحق الدفاع المشروع واحتكار الدولة لقرار الحرب والسلم، وأولوية العيش بسلام مقابل نصرة القضايا الكبرى.

نجح حزب الله على مدى أربعة عقود في جعل المقاومة أولوية اجتماعية وسياسية، مستفيدًا من توافق أغلبية واسعة على التصدي لعدوانية المشروع الإسرائيلي. لكن الأولويات تبدلت؛ كثير من اللبنانيين باتوا يرون أن البقاء والعيش الكريم أهم من الانخراط في حرب طويلة، وأن المطلوب الحفاظ على الدولة ولو بحدها الأدنى، حتى وإن كانت ضعيفة ومفلسة، طالما أن “الجزرة” الدولية مغرية و”العصا” غليظة.

التنازل عن السلاح يحمل كلفة سياسية ومعنوية باهظة، في ظل استمرار تهديدات إسرائيل، لكن التمسك به قد يعني استمرار الحصار المالي والسياسي والإعلامي، وتعطيل الإعمار، ومنع عودة النازحين، وإبقاء البلاد في دائرة الضغط المستمر وقد يقود ذلك إلى الانفجار الداخلي وتجدد الحرب الاهلية، وهو ما حذر منه بصراحة امين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطابه بذكرى الاربعين الحسيني وبعد يوم من مغادرة علي لاريجاني أمين عام مجلس الامن القومي الايراني لبيروت .

لبنان اليوم عند مفترق طرق خطير، وتجربته ستكون قابلة للاستنساخ في ساحات أخرى، منها العراق. إنها محنة التيه وضياع البوصلة، حين تُكلَّف الدول بما لا تطيق. فالأحزاب تستطيع اختيار القتال حتى بلوغ الموت المقدس، أما الدول فعقلها السياسي يختار البقاء دائما بالشروط الممكنة.

ذات صلة

ما بعد الأربعين: كيف نُجسّد أهداف النهضة الحسينية في واقعنا؟كيف نصنع عقلًا قويًا في زمن التشتت؟المعنى الحقيقي لفشل بوتين في الشرق الأوسطمن أجل مركز خليجي للدراسات الأمريكية‏إسرائيل الكبرى.. مشروع يبتلع فلسطين وجوارها