المتفرج السياسي: حين يصبح الفرد جزءا من مشهد لم يكتبه
مصطفى ملا هذال
2025-12-30 05:25
في قاعة السينما، يجلس المشاهد على مقعده الوثير، يحدّق في شاشة ضخمة تعرض أحداثًا صيغت بعناية مسبقة، حبكة مكتوبة، أدوار موزعة، تصوير متقن، وتوقيت محسوب للنهاية.
لا يستطيع المتفرج أن يغير شيئا، البدايات وُضعت قبل وصوله، والنهاية تقررت دون علمه، يمكنه أن يتفاعل مع اللقطات، أن يحزن أو يفرح أو يصفق، لكنه في النهاية مجرد متفرج.
السياسة في بلدنا وفي دول كثيرة لا تختلف كثيرا عن هذا المشهد السينمائي، فالفرد الذي يُفترض أن يكون أساس وجود الدولة وسبب تشكل مؤسساتها، يجد نفسه في كثير من الأحيان مجرد مشاهد يجلس في الصفوف الخلفية، يراقب قرارات تُتخذ باسمه، وسياسات تُعلن وكأن الجميع وافق عليها، رغم أن أحدا لم يستشره يوما في تفاصيلها.
المخرج في السياسة هو من يصوغ المشهد، وهنا يمكن ان نعطي هذه الصفة او المهمة للقيادات السياسية والحزبية التي تمتلك أدوات التأثير والخطاب الجماهيري، فبما تمتلك من قدرات مالية ونفوذ سياسي تكون قادرة على رسم السياسات وفق مصالحها وأولوياتها.
أما الممثلون فهم الوجوه التي تظهر على الشاشة وهم المشاركين في إدارة المشهد السياسي من وزراء ووكلائهم وغيرهم من الحواشي الذين يؤدون الدور دون الخروج عن رؤية المنتج، فبعضهم محترف في لعب دور القائد القريب من الناس، وبعضهم يجيد التمثيل فقط حين تكون الكاميرا موجهة إليه، وفي الخلف يقف المنتج صانع القرار الفعلي الذي يمول العمل ويحركه، وقد لا يظهر اسمه في مقدمة الفيلم، لكنه صاحب النفوذ الحقيقي.
كل هذه العملية تجري دون علم من المتفرج الحقيقي -المواطن- يُقال له إن صوته مهم، وإن الديمقراطية تُمارس من خلال الانتخابات، لكنه يشعر بأن مشاركته مهما تكررت لا تغيّر شيئا في جوهر الفيلم، تمامًا كما اختيار قناة تلفزيونية من خلال الريمونت، يمتلك لحظة وهمية من السيطرة، بينما خُطط كل شيء مسبقا!
وهكذا الحال في كل دورة سياسية مع وجود فارق بسيط وهو تغير الوجوه أحيانا، لكن السيناريو يبقى هو نفسه، وعود تتكرر كل أربع سنوات، حديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد، احتفالات بالفوز ثم صمت طويل حتى موعد الموسم التالي، أما المواطن فيُطلب منه أن يتفاعل ويشجع، وقد يتطلب الامر اجباره على التهجم، لكن دون أن يُسمح له بالمشاركة في كتابة السيناريو.
وحين يريد المواطن العزوف عن المشاركة في الانتخاب او الانزواء بعيدا عن العلمية السياسية، يُقال له إن الوطن يحتاجه كي يرفع صوته، لكن في اللحظة التي يحاول فيها قول ما لا يناسب السيناريو، يُتهم بأنه خرج عن النص. يُقال له إن السياسة شأن الجميع، لكن حين يسأل: كيف أتدخل؟ يقال له: هذا لا يخصك!
يبدو المشهد وكأن السياسة خُلقت من أجل أن تُرى لا من أجل أن تُشارك، وطالما بقي المواطن في موقع المتفرج، فإن المخرج سيواصل تقديم العمل ذاته دون تغيير، فالمنتج لا يعنيه شيء بقدر أن تبقى الصالة ممتلئة، وأن تُباع التذاكر في كل مرة، وإن كانت التذكرة هنا ليست سوى صوت انتخابي يُستغل مرة كل بضع سنوات.
لكن السؤال الجوهري هو: هل نحن مجبرون على البقاء في مقعد المتفرج؟
الوعي السياسي وليس الحماسة العاطفية هو الخطوة الأولى للخروج من هذا المقعد، فالتأثر بأحداث الفيلم وحده لا يكفي، ولا يمكن للمواطن أن يغير واقعه ما دام ينظر إلى السياسة كعرض خارق لا يطال حياته اليومية. المشاركة الحقيقية تبدأ حين يفهم الفرد ما يجري خلف الكواليس: من يكتب؟ من يخرج؟ ومن يمول؟ والأهم: لمصلحة من يتم هذا كله؟
وفي النهاية فالتحول من متفرج إلى مشارك لا يحدث في لحظة، لكنه يبدأ من فكرة أن السياسة ليست مشهدا خارجيا، بل هي تفاصيل التعليم الذي نتلقاه، والخدمات التي نفتقدها، والفرص التي تُمنح أو تُحجب، والقرارات التي تحدد شكل حياة كل واحد منا.