الكوت تحترق: فمن يحرس السوق؟
بين الحرية الاقتصادية ومسؤولية الدولة: رؤية حضارية لحماية الإنسان
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-07-23 05:18
الحريق المفجع الذي أودى بحياة العشرات في أحد مراكز التسوق في مدينة الكوت، لم يكن مجرد خلل تقني أو حادث عارض يمكن تجاوزه بالأسف والمواساة. إنه كارثة إنسانية تكشف خللًا أعمق في الفلسفة التي تحكم العلاقة بين الحرية الاقتصادية وواجب الدولة في حماية المواطنين.
لسنا أمام سؤال تقني فقط: هل كانت مخارج الطوارئ كافية؟ هل كانت منظومة الإطفاء فعالة؟ بل نحن أمام سؤال فلسفي–سياسي من العيار الثقيل:
إلى أي مدى يمكن أن نطلق العنان للسوق؟ وإلى أي مدى يجب أن تتدخل الدولة لضمان سلامة الناس؟
السوق في الدولة الحضارية الحديثة: حرية مشروطة بالقيم
في أدبيات الدولة الحضارية الحديثة، يُعد الإنسان العنصر الأول في المركب الحضاري، ولا يجوز أن يُضحّى به على مذبح الربح أو المنافسة. نعم، السوق يجب أن يكون حرًا، والمبادرة الفردية محمية، والاستثمار ميسورًا، لكن ضمن إطار قيمي صارم يضمن ألا تتحول الحرية إلى فوضى، ولا تتحول المنافسة إلى جريمة غير معلنة.
فحرية السوق في هذا الإطار ليست حرية متوحشة كما في النماذج النيوليبرالية، كما نظّر لها هايك، بل هي حرية حضارية، أي مشروطة بالقيم العليا: الكرامة، العدالة، السلامة، الحياة.
دور الدولة: من التفرج إلى الحراسة القيمية
الدولة، كما تتصورها الرؤية الحضارية، ليست خصمًا للسوق ولا غائبًا عن المشهد. إنها الحارس القيمي الذي:
يضع التشريعات الصارمة لضمان السلامة في البناء والتشغيل.
يراقب الالتزام بتلك القوانين ويحاسب المخالفين.
يوازن بين حرية المستثمر وحق المواطن في الحياة الكريمة الآمنة.
هذه ليست دولة متغوّلة، بل دولة راعية بالقيم. إنها تتدخل ليس لتقييد السوق، بل لتوجيهه نحو خدمة الإنسان لا استغلاله.
مسؤولية ثلاثية: الدولة، المستثمر، المجتمع
المأساة التي وقعت في الكوت تكشف أن هناك فراغًا في الرقابة وثغرات في التشريع، وربما تهاونًا في الالتزام. وهذا يعني أن المسؤولية موزعة بين ثلاثة أطراف:
1. الدولة التي لم تفعّل الرقابة الكافية.
2. المستثمر الذي لم يلتزم بأقصى معايير السلامة.
3. المجتمع الذي اعتاد على التجاوز وسكت عنه طويلًا.
من فلسفة السوق إلى فلسفة الحياة
التحول المطلوب اليوم ليس فقط في البنية التحتية أو في الأجهزة الرقابية، بل في الفلسفة التي تحكم الاقتصاد. نحن بحاجة إلى نقلة من السوق بوصفه مجالًا للربح فقط، إلى السوق بوصفه جزءًا من منظومة حضارية أوسع، تحكمها القيم وتديرها المؤسسات وتخدم الإنسان.
إن الدولة الحضارية الحديثة تقف عند هذه النقطة لتعلن:
نعم لحرية السوق،
ولكن لا حرية تبرر الموت،
ولا استثمار يُبنى على أنقاض أرواح البشر.
الخاتمة: الكوت تناديكم
الكوت، اليوم، ليست مجرد مدينة منكوبة. إنها جرس إنذار حضاري. إما أن نعيد بناء علاقتنا بالسوق والدولة على أساس من الكرامة والسلامة والمسؤولية، أو ننتظر الكارثة القادمة في مكان آخر.
في الدولة الحضارية الحديثة، لا تعني التنمية أن نزيد الأرباح فقط، بل أن نحمي الإنسان أولًا، ونصوغ اقتصادًا يحمل في قلبه القيم، لا النيران.