مدى كفاية القيم القانونية في مواجهة التطرف الثقافي
-قراءة تحليلية في العلاقة بين القانون والثقافة-
د. جمانة جاسم الاسدي
2025-07-13 03:27
في ظل تصاعد ظواهر التطرف الثقافي في العديد من المجتمعات، خاصة تلك التي تمر بتحولات سياسية واقتصادية حادة، تبرز إشكالية جوهرية تتعلق بمدى قدرة القيم القانونية على التصدي لهذا التطرف وضبط تداعياته، فبينما يفترض أن تقوم القوانين على مبادئ عامة كالمساواة، والكرامة، والحرية، نجد أن بعض أشكال الخطاب الثقافي المتشدد تتحدى هذه القيم أو تسعى إلى تجاوزها باسم التقاليد أو الدين أو الهوية، ولأجله تهدف هذه المقالة إلى تحليل مدى كفاية القيم القانونية في التصدي للتطرف الثقافي، وبيان نقاط القوة والقصور، مع اقتراح آليات لتفعيل التكامل بين القانون والثقافة في بناء مجتمعات آمنة ومتسامحة.
أن القيم القانونية هي المبادئ العليا التي يرتكز عليها النظام القانوني، مثل سيادة القانون، احترام حقوق الإنسان، المساواة أمام القانون، حرية الفكر والمعتقد، والعدالة والإنصاف، أما التطرف الثقافي فهو النقيض المتشدد كونه يعني التمسك أو المتعصب بمجموعة من القيم الثقافية أو الدينية أو القومية، ورفض القيم أو الأنماط المخالفة لها، غالبًا بطريقة تؤدي إلى الإقصاء أو العنف أو التمييز.
أما في معرض الحديث عن العلاقة بين القانون والثقافة، فالثقافة هي الحاضنة الاجتماعية التي تؤثر على تقبل أو رفض القانون، والقيم القانونية قد تكون مستمدة من الثقافة، ولكنها تسعى إلى تهذيبها وضبطها وفق مبدأ المصلحة العامة، إلا أنه عند تعارض القيم الثقافية السائدة مع القيم القانونية، تحدث فجوة تتطلب تدخلًا تشريعيًا وتربويًا.
ومظاهر التطرف الثقافي لها تأثير على المجتمع تتجسد في رفض التنوع والتعددية حيث التطرف الثقافي يُعادي المختلف دينيًا أو فكريًا، ويعزز منطق "نحن/هم"، والتمييز ضد النساء والأقليات عبر تبريرات "ثقافية" تمنع المرأة من حقوقها أو تهمش أقليات دينية وقومية، وفي تقديس العنف الرمزي أو الفعلي حيث يظهر في تبرير العنف ضد المخالفين باسم "النقاء الثقافي" أو "الدفاع عن الهوية"، كذلك تبدو مظاهر التطرف الثقافي في تشويه صورة القانون فيتم تصوير القانون كأداة "غربية" أو "مستوردة" تعارض قيم المجتمع الأصيلة.
ولدى البحث والتقصي في مدى كفاية القيم القانونية في مواجهة التطرف الثقافي يتضح لنا أن هنالك نقاط قوة في القيم القانونية تتمثل في الطابع الإلزامي بخلاف الثقافة، حيث يملك القانون قوة ملزمة تقف ضد التجاوزات، كذلك المساواة المجردة فيه لان القانون يعامل الجميع على قدم المساواة بغض النظر عن الخلفية الثقافية، بالإضافة إلى مرجعية حقوق الإنسان الدولية حيث تُمكن من ضبط الانتهاكات باسم الخصوصية الثقافية، كما لاحظنا أن هنالك أوجه قصور في التفعيل مثلًا ضعف في إنفاذ القوانين المتعلقة بالتمييز وخطاب الكراهية، وفي المواءمة السياسية فأحيانًا تتردد الدولة في فرض القيم القانونية خشية الصدام مع القوى الثقافية المتطرفة، وفي الخطاب القانوني النخبوي القيم القانونية لا تصل دائمًا إلى عامة الناس بسبب تعقيد الخطاب أو غيابه.
ولكن توجد العديد من آليات تفعيل القيم القانونية لمواجهة التطرف الثقافي تتضمن التثقيف القانوني للمجتمع في إدماج مفاهيم حقوق الإنسان والعدالة في التعليم والإعلام الموجه إليهم، ومراجعة التشريعات الوطنية لتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتجريم خطاب الكراهية بوضوح، وفي إشراك الفاعلين الثقافيين كالدين والفن والإعلام في الترويج للقيم القانونية لا مواجهتها، كذلك في تحصين القضاء والاستقلال القانوني ليكون القانون فعليًا فوق الاعتبارات الثقافية أو السياسية.
ختامًا- تُعد القيم القانونية ضرورة استراتيجية لمواجهة التطرف الثقافي، ولكنها لا تكفي وحدها ما لم تتكامل مع الخطاب الثقافي والتربوي والإعلامي الموجه، فالقانون يمكن أن يردع، لكنه لا يقنع أو يغيّر القناعات الراسخة دون دعم ثقافي ينهض على قيم التسامح والانفتاح، ومن هنا، فإن معركة مواجهة التطرف هي معركة ثقافية بقدر ما هي قانونية، ولا يمكن حسمها إلا بتحالف العقل القانوني مع الضمير الثقافي للمجتمع.