مؤسـسات العصـر والعـمق التاريخي
محمد محفوظ
2025-06-16 02:46
كل التكوينات الاجتماعية والثقافية والسياسية والروحية، بحاجة إلى السند التاريخي الذي يدعمها، ويوفر لها أسباب الفعالية، ويمنع تكلسها وجمودها ويباسها.
وأي خلل جوهري، يصيب علاقة التكوينات المجتمعية بسندها أو عمقها التاريخي يؤدي إلى بداية الانحلال والتآكل على مستوى الثقة ومقدار فعالية الأنماط على قاعدة تلك التكوينات. وبهذا يرتبط العمق التاريخي بمؤسسات العصر وتشكيلاته المجتمعية، وأي تخفيض لمستوى العمق التاريخي في علاقته مع هذه التشكيلات والتكوينات، يؤدي بشكل أو بآخر إلى بروز ظواهر تزيد من تصحر هذه التكوينات وانفصالها البنيوي عن واقعها المجتمعي.
ومن خلال هذا المنظور، ينبغي أن ننظر إلى التشكيلات المجتمعية الحديثة في الفضاء المعرفي والاجتماعي العربي الإسلامي، إذ أن الكثير من المؤسسات والتكوينات الحديثة، أي المؤسسات التي برزت في العالمين العربي والإسلامي، من جراء احتكاك وتفاعل العرب والمسلمين أفرادا أو جماعات مع الحضارة الحديثة.
قد لا تجد في الواقع العربي والإسلامي، بيئة صالحة لنموها وتطورها، وذلك من جراء الإسقاط العفوي، أو التقليد الأبله إلى المجتمعات المتقدمة. بينما من الأهمية النظر إلى مؤسسات العصر، باعتبارها نتاجا مجتمعيا وتاريخيا لبيئة وحضارة معينة، وإغفال العوامل التاريخية والمجتمعية لبروزها وتطورها، لا يؤدي إلى تبيئتها وغرسها الطبيعي في الواقع العربي والإسلامي، بقدر ما يؤدي إلى غربتها وشكلانيتها في الفعل والتأثير.
لذلك نجد أن العالمين العربي والإسلامي، يمتلئان بتلك المؤسسات والتشكيلات التي تنتمي إلى العصر وتطوراته المذهلة، إلا أن عمل وتأثير هذه المؤسسات في فضائنا العربي والإسلامي لا يزال محدودا ولا ينسجم والجهود التي بذلت في جميع الاتجاهات في سبيل نقل هذه المؤسسات إلى الواقع العربي والإسلامي.
ومحدودية العمل والتأثير، ليست ناتجة من طبيعة هذه المؤسسات، بقدر ماهي ناتجة من جراء آليات استخدامنا لها، والظروف الموضوعية لعملية النقل والاستيراد، إذ أن المؤسسة الحديثة التي لا تحتضن مجتمعيا، بمعنى لا تجد لها عمقا في التكوين المجتمعي، فإنها ستصبح مؤسسة شكلية وبعيدة عن دورها الطبيعي، إن لم تمارس دورا معكوسا في هذا الاتجاه.
وذلك لأن إستراتيجيات التهميش المتواصلة للمؤسسات الأصلية في الواقع العربي، وتغييب تاريخيتها، وتشكيك أبنائها في دورها وفعاليتها، لا يؤدي إلى زراعة الرغبة الحقيقية عند هؤلاء الناس للتشبث بإستراتيجيات استيراد المؤسسات الحديثة، وإنما يؤدي على العكس من ذلك تماما، إذ تزيد من الاغتراب النفسي والاجتماعي، وتحول دون غرس الوعي الضروري لاستيعاب مؤسسات العصر في الفضاء العربي والإسلامي.
بمعنى أن تهميش مدنية المجتمع الذاتية، وإقصاء مؤسساته الأهلية، يؤدي إلى الانكفاء والهروب النفسي والعملي، وتوفر الحواجز المجتمعية، التي تحول دون الاستمرار التاريخي.
فتقويض الوقائع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية القائمة، وذات السند والعمق التاريخي، يؤدي لا محالة إلى تراجع مستوى الفعل والمبادرة الإستراتيجية عند المجتمع، مما يجعله غير قادر على امتصاص الخبرات الحديثة، واستيعاب مؤسسات العصر، وبالتالي يكون المجتمع بمثابة ساحة مفتوحة للتأثيرات المختلفة والمتناقضة القادمة من الخارج.
وهذا ما حصل بالفعل في نهايات الدولة العثمانية، وبداية تأسيس الدول العربية والإسلامية المستقلة.
إذ قامت النخب السياسية، بتقويض الوقائع والحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية القائمة، بدعوى تخلفها وعدم مواءمتها إلى العصر، وقد استخدمت في سبيل التقويض وسائل قسرية وتعسفية، مما أدى إلى غياب المبادرة الإستراتيجية عند المجتمع، وعدم قدرته الفعلية على التحكم بمصيره، فأصبح عرضة لتأثيرات الخارج المتناقضة.
والقارئ والباحث في تلك الحقبة التاريخية، يكتشف أن العالمين العربي والإسلامي، أصبحا ساحة مكشوفة لكل التيارات والاجتهادات والسياسات والإستراتيجيات، دون أن تكون لديهما القدرة على التمييز والاختيار المناسب.
فتبيئة المؤسسات الحديثة في الواقع العربي والإسلامي، لا يتأتى بتقويض المدنيات والمؤسسات الأهلية القائمة، لأن هذا التقويض ومتوالياته المتعددة، يؤسس في المجتمع حالة من الانكفاء وعدم التفاعل الخلاق مع هذه المؤسسات.
كما أن فعل التقويض، يعني تواصل واستمرار التهميش التاريخي والمجتمعي، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال، أن يستوعب مؤسسات العصر مجتمعا يعاني من التهميش المتواصل.
وإن ما يحصل بفعل التقويض والتهميش هو تراجع قوى الإبداع والفعالية الخلاقة في المجتمع، وبذلك يفقد المجتمع القدرة على حماية نفسه، وأي مجتمع يصل إلى هذا المستوى، فهو يتهالك ويسير بخطى حثيثة نحو الانحدار الشامل.
فتغييب المدنيات الأهلية، هو الخطيئة الكبرى في أغلب إستراتيجيات التعامل مع التكنولوجيا الحديثة ومؤسسات العصر.
لأن هذا التغييب القسري قضى على البنية التحتية للمجتمع، وبالتالي فقد الأهلية التامة لحماية نفسه، واستيعاب التقنية الحديثة. من هنا تنبع أهمية رعاية وتفعيل العمق والسند التاريخي لمؤسسات المجتمع، حتى تباشر دورها في عملية تبيئة مؤسسات العصر، وأي فصل بين عملية التبيئة والعمق التاريخي، لا يؤدي إلا إلى نتائج عكسية.
ونقصد بالعمق والسند التاريخي الآتي:
1) ضرورة إعادة الحياة إلى المدنيات والمؤسسات الأهلية، ويخطئ من يعتقد أن طريق تبيئة المؤسسات الحديثة، هو القضاء على المؤسسات التقليدية، لأن في هذا الفضاء إنهاء لفعالية المجتمع وحيويته. ومن خلال إعادة الحياة والحيوية لهذه المؤسسات تتوفر كل الأسباب الضرورية، لامتلاك القدرة على تبيئة واستيعاب مؤسسات العصر. ولا يخفى على أحد أن البلدان التي مارست أعمالا تعسفية، بحق المدنيات والمؤسسات الأهلية كمدخل لتوطين مؤسسات العصر، لم تجن من هذه العملية، إلا المزيد من التدهور، وضياع الإمكانية الحقيقية للتطور والتقدم.
2) إن العمق التاريخي لا مضمون حضاريا له، إلا في المجتمع الحي، الذي يمارس عملية الإنعتاق والتحرر، من كل معوقات التأخر والتخلف، لذلك فلا يمكننا أن نفصل بين مفهوم العمق التاريخي والمجتمع الحي. إذ أن حيوية المجتمع وفعاليته ونشاطه المتواصل، في سبيل الارتقاء والتقدم، هي التي تعطي لمفهوم العمق التاريخي المضمون الحضاري.
وبدون حيوية المجتمع وفعاليته، يبقى العمق التاريخي كجزء من الفلكلور الشعبي، الذي يتغنى به الناس، دون أن يكون له دور في عملية التعبئة والحركة.
فالمجتمع الجامد والميت لا يمكنه مهما كانت إمكاناته المادية، من تبيئة واستيعاب مؤسسات العصر.
وحده المجتمع الحي هو القادر على استيعاب مؤسسات العصر.