التمييز الإتحادية وإنعدام العمل القضائي

احمد طلال عبد الحميد البدري

2024-07-06 05:24

اصدرت محكمة التمييز الاتحادية الموقرة قراراها بالعدد (2/الهيئة العامة / 2024) في 29/5/2024 حكماً يقضي باعتبار قرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (102/اتحادية /2024) الصادر في 15/4/2024 معدوماً كونه فقد ركناً من اركان وجوده ومنها عدم اختصاصها وانتفاء ولايتها المتعلق بتعديل نص قانوني ورد في قانون التقاعد الموحد ولصدور القرار خلافاً لقواعد الاختصاص.

وان الحكم المعدوم كأنه لم يكن ولايرتب اثر قانوني وغير قابل للتنفيذ مطلقاً ولايحوز حجية الامر المقضي به لانه ولد ميتاً، في قضية تتخلص وقائعها بانه سبق وان قدم قاضي محكمة تحقيق الشرقاط لرئيس مجلس القضاء الاعلى طلباً لاحالته على التقاعد استناداً لاحكام المادة (35/رابعاً/أ-4) من قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة2014 المعدل كون لديه خدمة تزيد عن (30) سنة في المحاماة والعمل القضائي وتم رفض طلب الموما اليه كون ان لديه خدمة في مجال عمل المحاماة بلغت (14) سنة تم اضافتها الى خدمته القضائية في حين ان نص المادة المذكورة اشترطت لاحالة القاضي وعضو الادعاء العام على التقاعد واستحقاقه نسبة (80 بالمئة) من اخر راتب ومخصصات تقاضاها هو قضاءة خدمة فعلية في مجال القضاء والادعاء العام لاتقل عن (30) سنة، كون النص المذكور صريح وان القاضي المذكور ليس لديه هذه المدة من الخدمة القضائية وان اضافة مدد اخرى غير قضائية لا تسعفه في الاستجابة لطلب الاحالة على التقاعد وفقاً للنص المذكور.

وقد طعن الموما اليه بقرار عدم قبول احالته الى التقاعد وفق النص المذكور امام لجنة شؤون القضاة واعضاء الادعاء العام مستنداً لقرار سابق صادر من المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (102/اتحادية /2024) في 15/4/2024 وهو يخص احالة قاضي المحكمة الاتحادية العليا الى التقاعد الذي اعلن استقالته من عضوية المحكمة في مؤتمر صحفي ظهر على شاشات التلفاز والقنوات الفضائية بسبب احتجاجه على بعض قرارات المحكمة الاتحادية العليا بخصوص اقليم كوردستان.

حيث قضى القرار المذكور بعدم دستورية عبارة (في القضاء او الادعاء العام) الواردة في المادة (35/رابعاً/أ-4) من قانون التقاعد الموحد سابق الذكر وبينت في قرارها بان النص سيكون (اذا احيل على التقاعد بناءً على طلبه وكانت لديه خدمة لا تقل عن (30) سنة) وبذلك تكون المحكمة الاتحادية العليا بتقريرها عدم دستورية العبارة المذكورة قد رفعت شرط الخدمة الفعلية في السلك القضائي لاستحقاق النسبة المذكورة في المادة سابقة الذكر من قانون التقاعد الموحد، وقد ردت هيئة شؤون القضاة والادعاء العام دعواه، مما دفعه لتمييز الحكم الصادر امام محكمة التمييز الاتحادية الموقرة ومن قراءة وتحليل الحكم المذكور ترشحت لدينا الملاحظات الاتية :

حيثيات قرار

ذهبت محكمة التمييز الاتحادية الى ان تمسك المدعي بقرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (102/اتحادية/2024) في 15/4/2024 جدل في غير محله، حيث جاء بحيثيات قرارها ( … اذ بعد الامعان والتأمل في قرار المحكمة الاتحادية العليا وجد بأن المدعي فيه هو احد قضاة المحكمة الاتحادية الاتحادية العليا الاصليين القاضي عبد الرحمن سليمان علي والذي اعلن استقالته من عضوية المحكمة من خلال مؤتمر صحفي ظهر فيه على شاشات التلفاز والقنوات الفضائية وتناقلته وسائل التواصل الاجتماعي وامام انظار الجميع وبهذا تحقق علم الكافة باستقالته لانه من الشؤون العامة (المادة 8 من قانون الاثبات ) وقد احتج في استقالته على قرارات المحكمة الاتحادية العليا متهماً اياها بمخالفه احكام الدستور.

 الا ان الذي جرى وحصل بعد ذلك هو احالته الى التقاعد بناءً على طلبه بموجب الامر القضائي الصادر من المحكمة الاتحادية العليا بالعدد /160/ت/2024 في 17/3/2024 ولوجود مانع قانوني يحول دون صرف راتب تقاعدي له مقداره 80 بالمئة من اخر راتب ومخصصات تقاضاها عند احالته الى التقاعد وهذا المانع هو عدم وجود خدمة قضائية له لاتقل عن ثلاثين سنه وفقاً لما تشترطه المادة (35/رابعاً/أ/4) من قانون التقاعد الموحد ولان رفع هذا الشرط والغاء حكمه يستلزم تعديله من السلطه التشريعية المتمثلة بمجلس النواب العراقي …..). 

كما جاء في موضع اخر من قرار محكمة التمييز الاتحادية ( … ولان العبرة في حجية الحكم القاضي تثبت لمنطوقه اي الفقرة الحكمية اعلاه والتي يجب ان تكون المحكمة التي تصدرها من ضمن اختصاصها وولايتها والفقره الحكمية اعلاه تعديل واضح لنص قانوني نافذ وبهذا فأن المحكمة الاتحادية العليا قد تجاوزت حدود صلاحياتها المنصوص عليها حصراً في المادة (93) من دستور جمهورية العراق، لان تعديل النص القانوني النافذ يقتضي صدور قانون بذلك من السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب العراقي لان مفهوم تعديل القانون يقصد به الاجراءات التشريعية التي تتخذ وفقاً لاحكام الدستور وهذه الاجراءات التشريعية تنتهي بصدور قانون جديد يلغي او يستبدل او يضيف محتويات التشريع الاصلي لتتوافق مع الاستحداث الجديد الذي ينطوي على الهدف من التعديل وما يترتب على ذلك فان تبني عملية تعديل النص القانوني بمجملها عملية تشريعية بحته.

اذ قد تحول في نهاية المطاف مسار التشريع الى اتجاه معاكس لاتجاهه الاول ….)، مما تقدم نلاحظ ام محكمة التمييز الاتحادية قد ناقشت في قرارها بالتفصيل حيثيات قرار المحكمة الاتحادية العليا اعلاه معتبره تقرير عدم دستورية العبارة (في القضاء او في الادعاء العام ) الوارد في المادة ( 35/رابعاً/أ/4) من قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة 2014 المعدل، خارج عن ولاية و اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا الواردة في المادة (94) من الدستور. 

كما انه يمثل مساس بالسلطة التشريعية لانه تضمن تعديلاً لنص قانوني نافذ ينفردبه المشرع وفقاً لاختصاصه التشريعي، وبالرجوع الى قرار المحكمة الاتحادية العليا نلاحظ انها قررت عدم دستورية العبارة للاسباب الواردة في القرار المذكور والتي استندت فيه لنصوص دستورية لامجال لذكرها وان تقرير عدم دستورية قانون او نص في قانون هو من صميم اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا لان جزاء مخالفة النص للدستور هو اعلان عدم دستوريته وتقرير ذلك يعود الى المحكمة الدستورية التي نظرت الطعن بعدم الدستورية.

وان هنالك العشرات من القرارات الصادرة من المحكمة الاتحادية العليا اعلنت فيها عدم دستورية نصوص قانونية او فقرات ضمن نصوص قانونية، كما ان لها قرارات تضمن تعديلاً او اضافة احكام دستورية اغفل المشرع الدستوري عن ايرادها ومنها على سبيل المثال تحديد عقوبه الحنث عن اليمين الدستورية بانهاء عضوية رئيس مجلس النواب وهذه العقوبه لم يوردها المشرع الدستوري، الا ان الذي يؤخذ على قرار المحكمة الاتحادية العليا حلولها محل المشرع بعد تقرير عدم دستورية عبارة في المادة ( 35/رابعاً/أ-4) من قانون التقاعد الموحد، عندما اوردت في الفقرة الحكمية صياغة للنص بعد تقرير عدم دستورية العبارة ( في القضاء او في الادعاء العام ). 

حيث نصت الفقرة (اولاً) على ان ( …. عدم دستورية عبارة ( في القضاء او الادعاء العام ) الواردة في نص المادة (35/رابعاً/أ/4) من قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة 2014 المعدل، ليكون النص كالاتي : ( اذا احيل على التقاعد بناءً على طلبه وكانت له خدمة لاتقل عن (30) ثلاثين سنة…)، حيث نرى ان المحكمة الاتحادية العليا كان يجب ان تكتفي بتقرير عدم دستورية العبارة مع الايعاز للسلطة التشريعية باتخاذ التدابير التشريعية بخصوص تعديل النص بعد تقرير عدم دستورية عبارة واردة فيه وبذلك تكون ضمن حدود اختصاصها، دون الولوج في موضوع اعادة صياغة النص الذي اعتبرته محكمة التمييز الاتحادية منفذاً لتقرير انعدام الحكم المذكور كونه يمثل مساساً بالسلطة التشريعية، ذلك ان المشرع هو المسؤول عن تنفيذ احكام المحكمة الاتحادية العليا الملزمة للسلطات كافه من خلال الاجراءات التشريعية المنصوص عليها في الدستور، كما ان المحكمة الاتحادية العليا لم تكن مضطره لقبول احالة قاضيها المستقيل على التقاعد بناءً على طلبه، لان قانون التقاعد الموحد سمح للموظف المستقيل من تقديم طلب للاحالة على التقاعد في ضوء خدمته الفعليه.

سلطة قضائية

ورد بقرار محكمة التمييز الاتحادية بأن محكمة التمييز الاتحادية هي اعلى سلطة قضائية بصريح نص القانون حيث جاء في حيثيات القرار ( … ولان محكمة التمييز الاتحادية باعتبارها اعلى هيئة قضائية في العراق استناداً لصراحة نص المادة (12) من قانون التنظيم القضائي والتي لها الولاية العامة في التصدي لاعتبار اي حكم قضائي صادر من اي محكمة ومنها المحكمة الاتحادية العليا معدوماً، اذا كان ذلك الحكم او القرار ماساً ومتعلقاً بالشأن القضائي …).

وبالرجوع للنص المذكور نجد انه اعتبر محكمة التمييز هي الهيئة العليا التي تمارس الرقابه القضائية على جميع المحاكم مالم ينص القانون على خلاف ذلك، ووفقاً للنص المذكور فأن محكمة التمييز الاتحادية اعلى هيئة قضائية تمارس الرقابة على محاكم القضاء العادي لوجود نصوص دستورية وقانونية تخص عمل القضاء الدستوري والاداري تحدد طرق الطعن والمراجعة القضائية، وان المستقر في جميع دول العالم والفقه الدستوري بان المحاكم الدستورية الفيدرالية تعد اعلى المحاكم وان علويتها مستمدة من طبيعه العمل والرقابة القضائية التي تمارسها والذي يتعلق غالباً بالدستور.

ان محكمة التمييز الاتحادية قد اعتمدت نظرية الانعدام المادي للقرارالقضائي عندما عرفت القرار المعدوم في حيثيات قرارها الذي جاء فيه (… فاذا فقد الحكم او القرار القضائي الصادر منها ركن من اركان وجوده ومنها عدم اختصاصها وانتفاء ولايتها المتعلق بموضوع تعديل نص قانوني نافذ فان مثل هكذا حكم ولصدوره خلافاً لقواعد الاختصاص يعتبر معدوماً والحكم المعدوم كأن لم يكن ولايرتب اي اثر قانوني وغير قابل للتنفيذ مطلقاً ولايحوز حجية الامر المقض به لانه ولد ميتاً ….) ووفقاً لنظرية الانعدام المادي للعمل القضائي فأن الاحكام تعد معدومة اذا فقدت اركان وجودها. 

وان تقرير فقدان هذا الركن وبالتالي انعدام العمل القضائي يعود تقديره الى المحكمة وليس الى نص القانون، لذا نحن نميل الى الاخذ بنظرية الانعدام القانوني للعمل القضائي الذ ي يفتقر اليه قانون المرافعات العراقي حيث لم يحدد معنى انعدام العمل القضائي وحالاته بنص القانون كما ورد في بعض التشريعات الاجرائية، في حين نجد انه على سبيل المثال لا الحصر ان قانون المرافعات والتنفيذ اليمني رقم (40) لسنة 2000 نص في المادة (55) منه على حاله انعدام الاحكام حيث نص على ان ( الانعدام وصف قانوني يلحق العمل القضائي ويجعله مجرداً من جميع اثاره الشرعية والقانونية ولايحكم به الا في الاحوال المنصوص عليها في القانون) .

سبق وان ذهبت المحكمة الاتحادية العليا بموجب قرارها بالعدد (161/اتحادية/2021) في 21/2/2022 الى عدم وجود اغفال او قصور تشريعي في قانون المرافعات المدنية كون الاحكام المعدومة هي الاحكام الفاقده لاحد العناصر الهامة من عناصر تكوينه وهو لايحتاج الى اعلان قضائي لابطاله لانه ليس بحاجة لمن يعدمه وبامكان كل ذي مصلحة ان يتمسك بالانعدام، ونحن نميل الى وجود قصور تشريعي في تنظيم انعدام العمل القضائي في قانون المرافعات المدنية لتحديد حالات الانعدام بنص القانون وندعو المشرع العراقي لتنظيمه لمنع حالات الخلط بين بطلان الاحكام وانعدامها .

افرزت هذه الوقائع اشكاليات عملية مردها قصور بعض النصوص التشريعية المنظمة لعمل القضاة فهنالك نصوص تسمح بدخول السلك القضائي من الموظفين والمحامين وتنوع في الخدمات المؤدات من قبلهم داخل وخارج السلك القضائي مع اختلاف في نسب الاستحقاقات التقاعدية، فضلاً عن ضرورة عدم قبول في عضوية المحكمة الاتحادية العليا القضاة الذين لم تمضي على دخولهم سلك العمل القضائي فترة تتناسب مع اعمارهم في حال احالتهم على التقاعد، ويفضل اعطاء الاولوية لمن له باع و خدمة طويلة في العمل القضائي، لذا ندعو المشرع العراقي الى اجراء مراجعه تشريعية لهذه النصوص …والله الموفق .

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي