فوبيا القلق من التجديد السياسي
أحمد شهاب
2024-07-02 06:33
لا تزال مجتمعاتنا تعيش أسيرة للأطر القديمة والبالية، وتميل إلى الاعتماد على المؤسسات التقليدية لدعم وتثبيت أوضاعها الداخلية، أو لحل المشكلات التي تعترض طريق نهوضها. إن الاستفادة من الأطر والمؤسسات التقليدية أمر لا غبار عليه، ولا ينبغي أن يثير الكثير من الاستياء أو التذمر لدى دعاة التجديد، لكن المشكلة تبرز عندما تدخل في مرحلة الاعتماد الكامل على تلك الأطر وإلقاء المسؤولية عليها. بعبارة أخرى فإن الأزمة تكمن في استعداداتنا الذاتية لتسليم عقولنا وقراراتنا للقوالب التقليدية الثابتة، وثقتنا بالقديم لأنه قديم، وعدم ثقتنا بالجديد والمعاصر لمجرد أنه جديد.
وخلال الأيام القليلة الماضية استمعت بصورة مكررة وفي لقاءات اجتماعية عدة عن رغبة بعض المجاميع الحزبية في إعادة انتخاب النواب السابقين، والعزوف عن انتخاب الوجوه الجديدة. ويبرر أصحاب هذا الرأي بقدرة النواب السابقين على التعاطي مع التباطؤ الحكومي في أداء المسؤوليات والمشاريع، وامتلاكهم خبرة العمل والفاعلية في ظل الأزمات المتفاقمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على الرغم من أن النواب السابقين، أو بعضهم على الأقل، هم وقود الأزمة القائمة، وأن العناصر الجديدة، ولاسيما التي تحمل مؤهلات علمية وأكاديمية عالية، هي وحدها التي يمكن أن تسهم في ترميم الجفوة بين السلطة والمجلس.
ويبدو لي أن السبب الخفي الذي يدعو عددا من تلك المجاميع إلى تشجيع الجمهور على إعادة انتخاب الوجوه التقليدية والعزوف عن العناصر الجديدة، هو الخوف من تجديد البرلمان، وبالتالي تجديد الحياة السياسية المحلية، والرغبة في بقاء أداء المجلس والحكومة بمستواه الحالي، والمحافظة على «رتم» الحياة السياسية كما هو دونما تغيير، وهو ما يشير إلى أن الطبقة السياسية وشبه المثقفة في مجتمعنا لا تزال تخشى من مؤديات التغيير والتجدد، لأنها ببساطة لا تمتلك بديلا نظريا أو عمليا تقدمه للجمهور.
الذين ينحازون إلى التجديد هم الأشخاص الواثقون من أفكارهم وإمكاناتهم، والذين يستطيعون أن يعقدوا علاقة متينة بين دعوى التجديد وتطبيقاتها، ويتحركون لنسج علاقة نقدية مع واقعهم ومفاهيمهم بما يرجح كفة المصالحة والمواءمة بين شعارات وعناوين التجديد، وبين الواقع الفعلي القائم. أما الجهات غير الواثقة من أفكارها وإمكاناتها، فإنها تكتفي برفع شعارات التجديد، لكنها في الوقت ذاته لا تتردد عن محاربة كل ما من شأنه إحداث تحول حقيقي على أرض الواقع.
من جهة أخرى، يلعب ضعف الخبرة السياسية دورا أساسيا في سيادة الأطر القديمة، وتمسك الناس بها، وقلقهم من عواقب التجديد، وما يمكن أن يأتي به مستقبلا من إشكالات وقضايا وهموم. إن السائد من نواب ومؤسسات وأطر عمل معروفة المقدمات والنتائج سلفا مطلوبة لأنها لا تثير الكثير من القلق، ولأنها لا تتطلب الكثير من التحليل. أما التغيير فإنه ينضوي على مفاجآت قد لا تكون سارة بما فيه الكفاية، لكن المقلق حقا أن يتحول استمرار الهلع من التغيير بفعل استقرار حالة الجمود والتكلس في المجتمع إلى مرض يحد من قدرة المجتمع على طرق آفاق التجديد والحداثة.
المشكلات والمصاعب التي قد تندلع نتيجة انحياز المجتمع للتغيير كبيرة ومفهومة، لكن تكلفتها بالتأكيد أقل من البقاء في خانة الجمود والتكلس. إن فعل المبادرة نحو تغيير الأشخاص والأطر والمؤسسات، هو أساس التقدم في كل المجتمعات العصرية، التغيير لا على نحو الإلغاء والانقلاب الجذري والثوري على الأفكار والمؤسسات، وإنما على نحو التكامل ومن ثم التبديل الطوعي والطبيعي. أما من لا يقبل الخضوع لمنطق وشروط الزمن، فإن عليه أن يرحل غير مأسوف عليه.
من دون هذه الخطوات، فإن التجديد والمعاصرة والمواكبة تبقى مجرد مقولات وخطابات بلاغية تستهدف طمأنة الذات وتعزيز المواقع، وليست مشروعا لتقدم المجتمع وتنمية الدولة. وهذا ما يفسر لنا العلة وراء تكاثر مفردات التقدم والإصلاح والتجدد السياسي في خطابنا العام، فيما تختفي مضامين تلك المفردات في ممارساتنا اليومية، فباسم الحقوق الوطنية تُحارب الأفكار الجديدة، وباسم الحرية تُحارب المشاريع التغييرية، ليبقى الوضع مكانك راوح، وكل ذلك يتم نتيجة القلق غير المبرر من مؤديات التجدد في الحياة السياسية.