القوى المهيمنة على القرار؟
منقذ داغر
2024-06-08 04:22
في نهاية المقال السابق، طرحت سؤالا جوهريا لفهم تفاعل وصراع القوى الاجتماعية في العراق وهو: في ضوء الحلقات التسع عشرة السابقة التي حللنا فيها كل القوى الاجتماعية في العراق، فهل هناك قوة اجتماعية (او اكثر) مهيمنة على المشهد العراقي حاليا، ام ان هناك توازن في قواه الاجتماعية الاربع؟ وماهي تداعيات ذلك؟ ان الاجابة على هذا السؤال هي التي ستحدد اين يتجه العراق في الحقبة القادمة؟ وهي التي تحدد ايضا طبيعة التفاعل او الصراع الاجتماعي في العراق ولمن ستكون الغلبة.
وكما ذُكر سابقا، فان اهمية دراسة مصادر القوة في اي مجتمع انها تحدد مدى صحة او تدهور المجتمع من حيث التفاعل و او الصراع بين مكوناته المختلفة. كما انها تحدد موقع الدولة على الصعيد الخارجي مقارنةً ببقية الدول. وباختصار فكلما كان هناك توازن اكبر بين مصادر القوة الاربعة كلما مال المجتمع الى الاستقرار والتفاعل الكفوء بين مكوناته وكلما طغت احدى القوى عل الاخريات في هيمنتها وتاثيرها كلما اختل توازن المجتمع داخليا وخارجيا.
كان هناك تنافس في السيطرة بين القوة العسكرية والقوة السياسية في مرحلة تاسيس الدولة العراقية بعد 1921. فالجيش كما اوضحت ذلك تفصيلا عند مناقشة القوة العسكرية في العراق، كان المؤسسة الاقوى والاكثر تنظيما.مقابل ذلك بدات الدولة الجديدة باتخاذ كثير من الخطوات المؤسسية لتعزيز قوتها في المجتمع. لكن ظهور النفط وتطور المُلكيات الزراعية ودخول الالة والتصنيع للعراق،خلق منافسا جديدا للقوتين السياسية والعسكرية، وهو القوة الاقتصادية.
لذلك برزت في اربعينات وخمسينات القرن العشرين نخبتَي الشيوخ والضباط، فضلا عن نشوء احزاب جديدة ونخبها السياسية ايضا. كما بدات القوة الايدلوجية (الدينية والسياسية) بالبروز خلال نفس الفترة. لقد خلق ذلك نوع من التوازن بين مصادر القوة المختلفة في العراق.
لكن ما حصل بعد 1958 ادى لتعزيز قوة وسيطرة المؤسسة العسكرية على بقية القوى وبخاصة القوة الاقتصادية من خلال قوانين تحديد المُلكية الزراعية وقانون تاميم المؤسسات الاقتصادية الخاصة. ثم جاء البعث ليعطي للايدلوجيا تفوقا على مصادر القوة الاخرى في بدايات حكمه،قبل ان يتم احتكار كل مصادر القوة من قبل الدولة حيث باتت القوة الايدلوجية، والاقتصادية والعسكرية فضلا عن السياسية في خدمة النظام. وتمت تعبئة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لخدمة ما تراه المؤسسة السياسية ورئيسها.
وحينما احتُلّ العراق في 2003 تم اسقاط الدولة العراقية وبذلك فقدت القوة السياسية مرتكزها الاساس. فحصل اختلال شديد في القوى الاجتماعية لان القوة السياسية كانت من الناحية الفعلية هي اللاعب الاساس او شبه الوحيد خلال النظام السابق.
لقد ادى اسقاط الدولة العراقية ليس الى تدمير المصدر الاساس للقوة السياسية بل لتدمير القوى:1) الاقتصادية والتي كانت الدولة تحتكرها،و2) القوى العسكرية (بعد ان تم حلّ الجيش العراقي السابق) و3) القوى الايدلوجية السياسية،وليس الدينية،بعد ان تم اجتثاث البعث.
اذكّر هنا بتعريفي لمصدر القوة بانه يجب ان يمتلك مؤسسة ويمتلك هدفا ليصبح مصدرا فاعلا للقوة. وبما ان مؤسسات الدولة،والجيش، والبعث، والاقتصاد(الصناعة والزراعة…الخ) قد تم هدمها كليا او شل فاعليتها باعتبارها كانت جزءً من نظام سياسي تم اسقاطه، فقد حصل فراغ هائل للقوة في المجتمع العراقي كان من الطبيعي ان تملؤه القوى التي تمتلك تنظيما على الارض ولها هدفا تسعى لتحقيقه.
وبما ان القوة الايدلوجية الدينية كانت الاقوى تنظيميا والاكثر مرغوبيةً من حيث هدفها فقد لعبت دورا محوريا في ملء فراغ القوة حتى باتت الحوزة العلمية في النجف (وربما بعض المؤسسات الدينية الصغيرة في الجانب السني) اهم لاعب في القوى الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية.
وبما ان الاحتلال اصطحب بعض التنظيمات السياسية التي رافقته او تعاونت معه، فقد حلّت تلك التنظيمات (الاحزاب العلمانية والدينية والقومية) محل الدولة كلاعب سياسي اساس. وبما ان اللاعب الاساس في القوة العسكرية العراقية (الجيش) قد تم حلّه،فقد سارعت الميليشيات الطائفية والحزبية الى ملء فراغ القوة العسكرية لتصبح اللاعب الاساس في العراق. وبما ان المؤسسات الاقتصادية للنظام السابق (كالصناعة والتصنيع العسكري وبعض المؤسسات التجارية والزراعية) قد تم بيعها او اضعافها لاسباب مختلفة فقد ظهرت طبقة جديدة من الاوليغارك واصحاب رؤوس الاموال والمضاربين وغيرهم من طفـــــيليات الاقتصاد المنهار، ليلعبوا دور القوة الاقتصادية البديلة في العراق.
في ظل هذه الازاحة القوية لمصادر القوى الاجتماعية في العراق بعد الاحتلال جرى ابتلاع الدولة العراقية كمصدر اساس للقوة السياسية، من قبل قوى الايدلوجيا والسلاح والمال. وفقدت في ظل هذه الظروف هويتها المؤسسية فلم تعد هي المسيطر على مصادر القوى الاخرى كما هو الحال سابقا وكما هو الحال في النظم الشمولية عموما، ولم تتمكن بسبب اضعافَها من قبل القوى الاخرى على ان تلعب دور المنظِّم للحياة الاجتماعية وتحولت من دور فاعل اجتماعي رئيس الى مفعول به رئيس!!
والواقع فان القوى الاجتماعية المنافسة للدولة (الايدلوجيا الدينية ،والسلاح،والاحزاب المتحاصصة وحتى القوى الاقتصادية الطفيلية الناشئة حديثا) تدرك تماما ان وجود دولة عراقية قوية ووازنة مقارنةً بتلك القوى،سيقلل كثيرا من نفوذها على العراق. لذا بدا في السنوات العشرة الماضية نوع جديد من علاقات القوة الاجتماعية يقوم على التحالفات المصلحية. فقد تحالفت قوى السلاح مع قوى السياسة والمال وحتى الايدلوجيا لبناء منظومة قوة لا يمكن تحديها من قبل القوى الناشئة الحديثة (كالاحزاب الجديدة) او من قبل القوى التقليدية القديمة (كالدولة). وبدات مصطلحات دولة الفساد تحل محل فساد الدولة،ودولة السلاح تحل محل سلاح الدولة،ودولة الدين بدل دين الدولة.
هنا يبرز سؤال اخير: ما الحل اذا في ظل هذا التحالف القوي بين مصادر القوة المهيمنة على المشهد في العراق حاليا. للاجابة على هذا السؤال،لا بد من العودة الى بضعة اسطر اعلاه والتي وصفت كيفية حصول الازاحة في مصادر القوة بعد احتلال العراق في 2003. فللتخلص من شمولية واحتكار مصادر القوة من قبل الدولة،عمد نظام بعد 2003 الى حلّ الدولة كليا واتى عليها من القواعد.وهذا ما جعل القوى الاخرى تتعملق الى الحد الذي بات يصعب معه تحديها او التوازن معها.
ان تعزيز مؤسسات الدولة هيكليا ووظيفيا وقانونيا هو الخطوة الاساس على ان يجري كل ذلك وفق خطة مدروسة لا تؤدي لاحتكار الدولة للقوة مرة اخرى لكنها في نفس الوقت تتيح لها لعب دور المنظِّم والموازن لكل القوى. ان هناك الكثيرين ممن يعتقدون ان العراق بحاجة لاصلاح وظيفي يكفل وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. اما انا،فرغم اعترافي باهمية ذلك الا اني ارى ان اي اصلاح وظيفي سيفشل مالم يسبقه اصلاح للقوى المؤسسية للدولة اولا،والاقتصاد ثانيا والجيش ثالثا. اما الايدلوجيا فان من الافضل عدم التدخل به وترك اموره للمختصين به.
علما ان اي تعزيز مؤسسي ووظيفي لاي من مصادر القوى الاربعة سينعكس بالتاكيد على اصلاح باقي منظومة القوة.