دور المؤسسة التربوية في تقليص ظاهرة بطالة الشباب

د. غالب محمد رشيد الاسدي

2024-06-02 05:46

يعد الشباب من العناصر الاساسية في بناء الامم ورقيها وتطورها، لما لهم من امكانيات معنوية وعملية كبيرة، اذا استغلت الاستغلال الامثل عادت بالفائدة على المجتمع الذي يعيشون فيه والانسانية جميعا، لذا تتمحور السياسات والخطط المستقبلية حولهم في الدول والحكومات كافة، أذ انهم العماد الرئيس من اعمدة بناء المجتمعات الحديثة وتقع على عاتقهم مهمات وتحديات المستقبل، وعلى مهاراتهم وتجاربهم وتربيتهم وإعدادهم العلمي يتوقف مدى رقي وتطور ونمو البلدان.

ان المستقبل يبنى بسواعد الشباب، والنجاح او الاخفاق في اعدادهم الاعداد المناسب لتولي المهام الكبرى في المستقبل هو الذي يحدد نموها او تأخرها، لذا اهتمت البلدان المتقدمة بإعداد اجيالها إعدادا مبكرا لتسنم ادوارهم المستقبلية، ووفرت لهم جميع الامكانيات التربوية والمعنوية والمادية لضمان النجاح الاكبر لخطة الاعداد هذه، والتي انعكست ايجابا على مجتمعاتهم في مختلف المجالات الحياتية، بينما لازال العالم النامي ومنذ عقود ينظر في هذا الإعداد ويضع اهداف مثالية واخرى غير واقعية ليست متناغمة مع طبيعة المجتمع، لذا لم ترتق او تتقدم الا بالتنظير وكثرة الحديث وقلة الفعل.

لقد عانى شبابنا العراقي في العقود المنصرمة من التأخر والظلام وتسلط افكار فلسفية شوفينية قادته الى سوح الحروب والموت والتضحية نيابة عن اخرين دون مقابل او قناعة، ولمبررات واهية واهداف عدوانية عقدية ليس لها علاقة بمصلحة الوطن والمواطنين، فولدت دمارا وخرابا وضياعا لدى هذه الشريحة المهمة من ابناء الشعب، وقد تعرضت مسيرتهم العلمية الى انتكاسات شديدة هي الاخرى لنفس الاسباب، فتأخرت تلك المسيرة كثيرا عن اللحاق بركب التطور والتقدم العلمي والانساني لأقرانهم في بلدان مستقرة ومنها بعض دول الجوار، بسبب عدم توافر الامكانيات الكافية والبيئة المناسبة لانطلاق الشباب في عالم المعرفة والابداع العلمي في جميع المجالات، اذ كانت كل امكانيات البلد تصب في خدمة المشروع العسكري الذي ليس له اول ولا آخر.

 وبالتالي فان الامر اذا اريد له الاصلاح والتوفيق فانه يتطلب من المسؤولين السياسيين والتربويين في اعادة تقويم شاملة لانتكاسات المرحلة السابقة التي تعرضت لها هذه الشريحة لتحديدها وتحديد نقطة الشروع في اعادة ما خربه النظام السابق في مختلف المجالات التي تعني الشباب واهتماماتهم، وهذا هدف فرعي من الهدف العام في بناء الانسان العراقي الجديد، وسيجدون ضالتهم في الطلبة والشباب في المدارس الاعدادية والمعاهد والجامعات، لانهم هم البداية لبناء القيم الجديدة في المجتمع العراقي الجديد، وعليهم تقع مسؤولية ارساء دعائم المجتمع المدني الديمقراطي والممارسة الديمقراطية الحقيقية في المستقبل المنظور.

ان مشكلة بطالة الشباب من المشكلات التي عانت وتعاني منها معظم بلدان العالم، والتي لم تعان منها الان قد تكون عانت منها في مرحلة تاريخية ما، لاسيما البلدان التي مرت او واجهت صعوبات اقتصادية كبيرة، لعدة اسباب من اهمها الحروب او الازمات الاقتصادية او التغيرات السياسية الحادة، فضلا عن عدم التناسب بين متطلبات سوق العمل وافواج الشباب الداخلة في سن العمل بشكل متواصل، والذين اغلبهم قد يكونون من ذوي التحصيل الدراسي البسيط، اذ تكون إحتمالية حصولهم على فرص عمل أدنى من ذوي التحصيل الدراسي العالي او المتوسط، وهي من ابرز مشاكل البطالة التي تعاني منها البلدان التي لايوجد فيها تخطيط مبرمج او مناسب للتنمية الاقتصادية وتغيرات سوق العمل، مما يؤدي الى توافر اعداد كبيرة من العمال الشباب لكن لايوجد كفاية في سوق العمل لاستيعاب هذه الاعداد المتزايدة والمستمرة من الشباب الداخلين الى سن العمل.

اغلب البلدان التي تحت مستوى خط الفقر هي معظم البلدان التي تعاني من هذه الظاهرة حسب تصنيفات الجهات الدولية المسؤولة، مع ذلك لايعني هذا ان البلدان النامية والمتقدمة والصناعية الكبرى لاتعاني من مشاكل البطالة، لكن معاناة الشباب العاطلين عن العمل فيها تختلف الى حد ما عن اقرانهم من بلد الى اخر من حيث الكم والنوع واتجاهات الجهات المسؤولة في الحكومات الى التغلب على تلك المشاكل.

 يمكن ملاحظة هذا التباين من خلال الاطلاع على الاحصائيات الدورية او السنوية التي تقوم بالإشراف عليها ونشرها منظمة الامم المتحدة والمنظمات ذات العلاقة التابعة لها، اذ يمكن ملاحظة هذا التباين بين تلك الدول المختلفة في متطلبات سوق العمل ونسبة الشباب في سن العمل من مجموع السكان من جهة، والتباين بين متطلبات سوق العمل والتخصصات المطلوبة في هذا السوق من جهة اخرى، فضلا عن التباين في اجور العمل الواحد فيما بين تلك الدول.

فاذا اخذنا عقد التسعينيات مثلا للنمو الحاصل في القوى العاملة والغير متسق مع متطلبات سوق العمل، يمكننا ان نلاحظ ان العلاقة بين سوق العمل ومتطلباته والنمو المتزايد في القوى العاملة للشباب لاسيما في الفئات العمرية الصغيرة علاقة تتجه نحو العكسية اكثر مما تتجه نحو الطردية، وبالتالي قد يكون هذا احد اسباب انتشار نسب البطالة لدى الشباب في بعض البلدان الفقيرة او ذات الامكانيات المحدودة في اسواق عملها.

 ففي عام 1995م كان تعداد الذين من الفئة العمرية 15 سنة الى 24 سنة في العالم يبلغ 525 مليون رجلا و500 مليون مرأة وفقا لتقديرات المنظمة الدولية، يعيش 60% منهم في الدول النامية الاسيوية، بينما يعيش 23% منهم في افريقيا وامريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، ونحو 16% فقط منهم في دول العالم المتقدمة. 

وقد اشارت احصائيات اخرى الى ارتفاع في نسب المراهقين الذين تتراوح اعمارهم بين 12 الى 17 سنة من الذين التحقوا بالمدارس الثانوية عما كان عليه الحال قبل عقدين من الزمان، اذ كانت نسبتهم في عام 1970م ما يقارب 7,1% فأصبحت النسبة في عام 1990م مايقارب 88,3%. وتشير البيانات المتعلقة بمعدلات البطالة الحالية في البلدان للفئة العمرية 25سنة فما فوق الى ان معدلات بطالة الشباب تساوي تقريبا ضعفي معدلات البطالة للبالغين في البلدان النامية والمتقدمة معا، بل تكون النسبة في بعض الدول النامية مثل مصر وكولومبيا واندونوسيا وكوريا الشمالية اعلى بكثير، وكذلك الامر في بعض بلدان اوربا الشرقية مثل بلغاريا واستونيا ورومانيا.

اما احصائيات بطالة الشباب في العراق خلال العقد الاخير من القرن العشرين فليست دقيقة بسبب عدم وجود احصاء سكاني، ولهذا السبب استخدمت التقديرات السكانية من قبل الجهات التي تتعامل مع هذه المشكلة لاسيما على صعيد منظمات المجتمع المدني الدولية، فشملت تلك التقديرات جوانب مهمة واساسية لها علاقة بالمشكلة، مثل عدد الشباب والشابات العاطلين عن العمل قياسا بالشباب والشابات العاملين في سوق العمل او دوائر الدولة، فضلا عن احصائيات اخرى مثل عدد الطلبة المتخرجين خلال عدة سنين ولم يلتحقوا بسوق العمل الى الآن، وعدد الملتحقين منهم فعلا في هذا السوق، وعدد الطلبة الذين سيتخرجون خلال مدة زمنية قصيرة والذين يحتاجون الى ان يحصلوا على عمل مناسب لتخصصاتهم قبل ان يلتحقوا بطوابير العاطلين عن العمل، فيضيفوا عبئا جديدا يضاف الى عبء العاطلين فتتفاقم المشكلة اكبر واكثر، ومن ثم فان المعالجة ووضع الحلول الناجعة التي يمكن من خلالها الحد او التقليل من وجود البطالة لدى الشباب سيحد كثيرا من المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترتبة او المتأثرة بهذه الظاهرة وانتشارها.

ان التغلب على مشكلة البطالة او التقليل من وجودها في المجتمع تحتاج الى تضافر جهود جميع الجهات المعنية وليس الجهات الحكومية المسؤولة عن ذلك فقط، لان المشكلة تمس شريحة واسعة وكبيرة من المجتمع العراقي، والذي يعد الركيزة الاساس في بناء مستقبل مشرق للوطن، ومن اهم هذه الجهات المعنية هي المؤسسة التربوية، اذ ان معظم العاطلين عن العمل هم من حملة الشهادات العلمية المختلفة، وقلما يكونون من الاميين او الحاصلين على شهادة المرحلة الابتدائية، فعلى عاتق تلك المؤسسة يقع جزء من الواجب الوطني والتربوي، والذي بالتأكيد يؤهلها للقيام بدورا مهما في تقليص ظاهرة البطالة.

 فالملاحظ ان هناك قصورا او عدم تنظيم في التخطيط لتخريج دفعات من الطلبة سواء من حملة الشهادة الاعدادية او الجامعية او الشهادات العليا في التخصصات التي يمكن ضمان توافر وظائف لها في سوق العمل في المستقبل بعد التخرج، هذا القصور في التنظيم يمكن ملاحظة من خلال الاطلاع على اعداد الطلبة في الكليات الجامعية المختلفة والمعاهد العلمية مثلا، فالكليات او الجامعات والمعاهد ذات التخصصات الانسانية تحوي على اعداد كبيرة من الطلبة اكبر بكثير من الكليات او الجامعات او المعاهد العلمية والعملية، وبالتالي فان سوق العمل لايستطيع ان يستوعب جميع هؤلاء الخريجين وزجهم في الوظائف الحكومية او الوظائف الحرة، فلا بد اذا من خطة مبرمجة لقبول الطلبة في الجامعات، تأخذ بنظر الاعتبار الحاجة الفعلية لسوق العمل من العمالة في الميادين الانسانية والعلمية والعملية المختلفة أولا.

 وثانيا ايجاد مراكز للتوجيه المهني في المدارس الثانوية يمكن الحاقها من ضمن مهمات المرشد التربوي في المدرسة اذا كان موجودا فيها مرشد تربوي، او جعلها من ضمن المهمات الادارية في المدرسة يخصص لها وظيفة ادارية لمتخصص في التوجيه التربوي او علم النفس او الارشاد التربوي، تنحصر مهمته في توعية الطلبة للمهن العملية التي يمكن ان توفر لهم عملا مضمونا حال تخرجهم، فضلا عن معلومات عامة عن المهن في المجتمع ومدى حاجة سوق العمل لها.

 اما في الجامعة فدور الموجه المهني ينحصر في توجيه الطلبة نحو المهن التي تناسب تخصصاتهم بعد التخرج، والتنسيق مع الجهات الاخرى لفتح دورات عملية في بعض متطلبات سوق العمل مثل اتقان العمل على الحاسبة الالكترونية والانترنت واتقان لغة اجنبية مثل اللغة الانكليزية او اي لغة عالمية اخرى، لما لها من اهمية في التواصل مع متطلبات العمل في دول العالم الاخرى، فضلا عن دورات في ادارة الاعمال او المحاسبة العملية... الخ.

ان الهدف الرئيس من وجود التوجيه المهني في المدارس الثانوية والجامعات هو اعداد الطلبة اعداد مناسبا وفعالا لمستقبلهم في سوق العمل، وضمان حصول اغلبهم على فرص عمل فيه، اذ ان الكثرة في بعض التخصصات التي قد تكون فائضة عن متطلبات السوق تزيد من معدلات البطالة عند الشباب، وبالتالي فان اعداد الطلبة الاعداد العلمي لزيادة فرص الحصول على عمل عن طريق إتقان تخصصات اخرى غير التخصصات الاصلية للطلبة، سيعطيهم فرصة عمل قد تكون بعيدة عن تخصصهم الاصلي، فاذا نجح التوجيه المهني من ايجاد قدرة عند الطلبة للعمل في غير التخصصات التي حصلوا عليها بعد التخرج، فانه سيساهم مساهمة فعالة في الحد من بطالة هؤلاء الشباب بعد التخرج.

 وبالتالي كوننا تربويين اسهمنا في الحد من ظاهرة البطالة المنتشرة في المجتمع، واوجدنا احد الاساليب التي يمكن اتباعها بشكل مستمر مع الافواج المتخرجة بشكل مستمر من المدارس الاعدادية او المعاهد او الجامعات في ايجاد فرص عمل لهم، واسهمنا في تقليص عدد الشباب العاطلين عن العمل، وهو هدف وطني تتحتم طبيعة المرحلة التي يمر بها بلدنا العزيز العراق ان نعمل جاهدين من اجل المساهمة فيه للتخفيف من عبء المعاناة التي مر بها وطننا لمدة زمنية ليست بالقليلة، وهو ايضا حق لهؤلاء الشباب من ابناء بلدنا في معالجة مشاكلهم، واشعارهم بانهم جزء من هذا الوطن، وهو يحتضنهم ويرعاهم ويمد لهم يد العون في مواجهة الصعاب، حتى يتمالكهم هذا الشعور الوطني فيفدوا بلدهم بالغالي والنفيس، ويساهموا في بنائه بجد واجتهاد، ولايشعروا بالغربة عنه وهم بين احضانه كما كان عليه الحال في العهد البائد.

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية – آيار 2005 / ربيع الأول 1426

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا