العراقيون بين السرد والثرد
حيدر الجراح
2015-06-27 04:20
السرد مصطلح أدبي فني هو الحكي أو القصّ المباشر من طرف الكاتب أو الشخصية في الإنتاج الفني، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث والأزمات. ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت، أسلوب في الكتابة تعرفه القصص والروايات والسير والمسرحيات.
أما مصطلح الحكي فهو لفظ يلتبس مع شبكة من المصطلحات والمفاهيم المتداخلة والمتمايزة، والمتقاربة والمتباعدة في آن واحدٍ، أبرزها: السرد والمسرود، والسارد والمسرود لـه والسردانية والسرديات.
وفي العربية يأخذ السرد عدة معاني حسب وروده على لسان المتكلم مثل: (السياق والتتابع – الانتظام – النسج – رواية الوقائع والاحداث – المتابعة والموالاة).
اما الثرد وهو الفعل المتعلق بالخبز فيعني: هشَّمه وفتَّه وكسره وغمره في المرق أو اللبن، فهو ثرِيدٌ ومثرودٌ، والفاعل هو الثارد. وتأتي الكلمة بمعنى اخر في قول العرب: وثرَدَ المطرُ الأرضَ: أَصَابها منه قليل.
فيما انتهت اليه الدراسات السردية نجد بونا شاسعا بينها في الغرب وفي بلداننا على السنة المثقفين والباحثين في مجالات السرد والدراسات السردية.
فنحن لا زلنا نأخذ بالمصطلح بما بدأ به في تلك الدراسات وليس بما انتهى ووصل اليه.
فهو في الدراسات الغربية الحديثة أصبح يكتسب أهميته بوصفه تجسيدا تعبيريا لخبرتنا وطريقة للتواصل وشكلا لفهم العالم وأنفسنا في النهاية.
يحاول السرد تقديم إجابات عن أسئلة مثل كيف نبني ما ندعوه حياتنا، وكيف نكوّن أنفسنا اثناء ذلك.
وأصبحت الأسئلة وغيرها تتداخل مع أسئلة أخرى عن نوع الذات التي تتشكل في هذا البناء.
لتتطور تلك التساؤلات وتصل الى الهوية الإنسانية والثقافية واستكشاف ذاكرة الأمم والمجتمعات عبر السرد وما يتعلق به.
ما العلاقة بين السرد والثرد وهل ثمة ما يجمع بينهما؟
أحاول في هذه السطور إيجاد علاقة ربما قد تكون افتراضية بين لا متشابهين للوهلة الأولى، ما بين جنس ادبي ونوع من المأكولات، وأفترض ان هناك علاقة بين الاثنين وخاصة من خلال ما انتهت اليه الدراسات السردية الحديثة وكشفها عن أهمية السرد في التعبير عن ذواتنا وهويتنا، وما يمثله (الثريد) من علامة فارقة في موائدنا خلال شهر رمضان المبارك، حيث انتقال (الني) وهه الطعام غير المطبوخ من خانة (الطبيعة) الى ما يمثله (المطبوخ) من علامة دالة على (الحضارة). كما يذهب الى ذلك كلود ليفي شتراوس.
وابدأ من خانة التلفاز وما يقدمه من برامج تكشف عن الترابط الذي افترضه بين السرد والثرد.
عن طريق الصدفة شاهدت قسما من برنامج يحمل اسم (شي بي شي) وهي كلمة عراقية عامية تقابلها في الفصحى (شيء فيه شيء)، وكان القسم الذي شاهدته يتحدث عن واقعة (مختلقة) وهي تشبه طريقة السرد او القص في النص الادبي، وهذه الواقعة لا شيء فيها من الصحة الا أسماء يتذكر الناس انهم كانوا موجودين فعلا في حدث واقعي جرى في العام 2007. يلتقي مقدم هذه الفقرة من البرنامج بعدد كبير من الناس في الشوارع والاماكن العامة، ويطرح عليهم سؤالا يختلقه من هذه الواقعة المختلقة والخيالية، والتي لاتمت بصلة لذاك الحدث.
جميع من أجاب عن السؤال كان واثقا من نفسه واجابته، ولم يتردد أحدهم بالقول (لا اعرف – لا أدرى – لا أتذكر) وهي لاءات ثلاثة ربما يستتبعها شيء من الجهد لاكتساب المعرفة.
وهو جهد يشبه نقل الطعام من دالته الطبيعية الى دالته الثقافية والحضارية، من خلال الصبر والاهتمام والشغف عند تحضيره.
وهذا (الثرد) للمعارف المتوهمة على ألسنة الناس، يكشف عن جانب مظلم وراكد من جوانب حياتنا التي لا تستقيم دون مجهود في تحصيل المعرفة، عبر الصمت ثم التأمل ثم السؤال.
والصمت نوع من أنواع الصوم، ورد مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة مريم، وهي في قوله تعالى (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
وهذا النوع من الصوم يحتل المرتبة الوسط بين صوم القلب وصيام البطن كما في قول امير المؤمنين (عليه السلام): (صوم القلب خير من صيام اللسان وصوم اللسان خير من صيام البطن). غرر الحكم، ج 1، ص 417، ح 80
وصيام البطن عن الطعام والشراب يأتي متأخرا في المرتبة من ناحية انطباقه على فلسفة الصوم كما في قول فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ما يصنع الصائم بصيامه اذا لم يصن لسانه وسمعه و بصره و جوارحه). بحار الانوار، ج 93 ص 295
اعود الى موضوعة (الثرد) والتي اعني بها تهشيم المعارف وتحطيمها من خلال الخوض في كل حديث يحاول الجميع استعراض مهاراتهم فيه، وهي مهارات لم تنبن على جهد متواصل في التحصيل المعرفي، بل تعتمد على قول القائل (سمعت -قال فلان – نقل لي علان) وغيرها من طرق التحصيل.
و(الثرد) داء من ادواء الثقافة العراقية في راهنها الحالي، ونستطيع اكتشاف ذلك من خلال ما يدور في الكثير من الأنشطة والفعاليات الثقافية، حيث يكثر (الثريد) و (الثاردون)، وهم يتنقلون بطناجرهم (تشبه حناجرهم) من مائدة ثريد الى أخرى، كما وصل اليه الحال في شارع المتنبي على سبيل المثال، حيث الاستعراضية هي المتسيّدة للميدان، عبر منصات السرد والثرد التي تتيحها الكثير من الأماكن في هذا الشارع، وكما وصل اليه الحال في عدد من الملتقيات الثقافية، حيث ضجيج الطناجر يعلو على صمت الحناجر.
اختم لكاتب عربي:
الكُتَّاب، كما الخبَّازون، يسردون لكي يعيشوا، ويعيش الناس على خبزهم أيضاً.