مقولة موت المؤلف: فحص وتحليل
زكي الميلاد
2020-02-12 07:17
نجح الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980م) في إثارة الدهشة عندما نشر مقالته الوجيزة والمثيرة (موت المؤلف) في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، مطلقا معها موجة من الجدل والنقاش النقدي العابر بين المجتمعات، الممتد بين الأزمنة، المتحرك وغير الساكن، المتعدد من ناحية التحليل، المتباين من ناحية التقدير، معززا من مكانته الأدبية والنقدية.
أعلن بارت في هذه المقالة موت المؤلف وميلاد القارئ، مغيرا تلك الصورة المتخيلة في الأذهان عن المؤلف، المتوارثة بإرث عظيم من عصور قديمة ترجع إلى ما قبل الميلاد، سالبا اعتبارية المؤلف، قالبا مكانته، منتقصا من أهميته، مشككا في رمزيته، فاكا علاقته بنصه، معلنا في المقابل ميلاد القارئ، رافعا منزلته، مثبتا موقعيته، مدافعا عن صوته، مسلما له الراية، معتبرا أن إقصاء المؤلف يعطي الحرية للقارئ في أن يشعر بلذة القراءة والاكتشاف دون عون من قوى خارجية.
من جانب ثان، أراد بارت من موت المؤلف أن يجعل النص فضاء مفتوحا لا نهائية لمدلوله، مسقطا عنه الحدود، محررا له من القيود، مضفيا عليه سيلان المعنى، وحسب عبارته: أن يكون هناك مؤلف للنص يعني أن تضع حدودا، وتفرض على النص مدلولا نهائيا. مبتهجا بالنص قائلا: إن النص من الآن فصاعدا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابا بالكامل، مؤكدا مقولة زميله جاك دريدا (1930-2004م) (لا شيء خارج النص).
في بعد آخر، أراد بارت من موت المؤلف إقصاء مركزية الذات وإحلال مركزية اللغة، مهمشا الذات ومعظما اللغة، منتصرا لنهجه البنيوي، مقدما اللغة على الذات، معتبرا أن اللغة هي التي تتحدث لا المؤلف، وأن تكتب هو أن تصل مرحلة تكون فيها اللغة هي الفاعلة وليست الذات.
ما إن ظهرت هذه المقولة المثيرة حتى تعددت بشأنها وتباينت التوصيفات من ناحية النسق، والتأويلات من ناحية السياق. فمن جهة التوصيف، هناك من وصفها بالنظرية مميزا لها ومعظما، إلى جانب من سلب عنها هذه الصفة، هابطا من قيمتها، معلنا فشلها، مرجحا عليها تسمية الفكرة، وهناك من وصفها بالأطروحة رافعا شأنها، إلى جانب من تقصد تضعيفها بدرجة يقلب صورتها، مطلقا عليها صفة الصيحة، واسما لها بالخرافة.
ومن جهة التأويل، فقد تعددت كذلك التأويلات السياقية لهذه المقولة وتباينت، فهناك من غلب السياق الذاتي النفسي والذهني المتحفز عند بارت والمتقلب في سيرته العامة مع الأدب، يميل لهذا الرأي الكاتب الفرنسي جون ستروك إذ يرى في الكتاب الذي حرره (البنيوية وما بعدها) أن بارت اشتهر بسرعة الحركة، وبالطريقة التي يتجاوز بها المواقف القديمة باستمرار، متجها في كثير من الأحيان وجهات لم تكن في الحسبان، مصرا على إبقاء ذهنه في حركة دائمة، آخذا على عاتقه مهمة الإخلال بالآراء السائدة إخلالا يهزها من الأعماق.
لذا فإن بارت في نظر ستروك منشط لا مثيل له للذهن الأدبي، ويتسم بالجرأة في صياغة المبادئ الجديدة.
على طرف آخر، هناك من غلب السياق التاريخي رابطا بين تلك المقولة وتطور النموذج اللغوي في الحركة النقدية، يميل لهذا الرأي الناقد المصري الدكتور عبدالعزيز حمودة (1356-1427هـ/1937-2006م) الذي تعامل مع مقولة بارت بطريقة عادية وباردة، سالبا منها خاصيتي الدهشة والإثارة، معتبرا أن لا جديد فيها، ولا إضافة جادة لها في ساحة النقد الأدبي، شارحا رأيه في كتابه (المرايا المحدبة) قائلا: من الناحية التاريخية لم يكن واقع الحركة النقدية في انتظار مقال رولان بارت عن موت المؤلف عام 1968م ليعلن موت المؤلف، فقد كان المؤلف قد مات بالفعل، منذ اليوم الذي اعتمدت فيه الحركة النقدية النموذج اللغوي.
ويضيف الدكتور حمودة: ربما تكمن أهمية مقال بارت كونه مثل التصريح الرسمي بالوفاة، وجاء في عبارات محددة وواضحة ونهائية.
هذا عن التوصيف والتأويل، فماذا عن الحقل الدلالي لهذه المقولة؟
عند النظر في هذه المقولة فحصا وتبصرا من حيث صورتها العامة، وبعيدا عن انتسابها الذاتي إلى بارت أو انتسابها المنهجي إلى البنيوية، يمكن لفت الانتباه إلى الدلالات الآتية:
أولا: توحي هذه المقولة بضرورة الفصل الكلي والتام بين الذات والنص، بطريقة لا ينبغي التشابك بينهما ولا التداخل، منعا للالتباس، وتجنبا لسوء الفهم، وتحريا للموضوعية بأعلى درجاتها، فلا يصح قراءة النص من خلال الذات، فالمطلوب قراءة النص وليست قراءة الذات، ويحدث أحيانا أن بعض القراءات تقدم قراءة الذات أكثر من قراءة النص، فيغلب عليها حالة الانفعال، وتتأثر بالمشاعر والعواطف، وتتقلص فيها النزعة العلمية والموضوعية وتتراجع.
ثانيا: ترفع هذه المقولة موانع الإقدام في قراءة النص من جهة المؤلف، فهي ترى أن المؤلف ليس عقبة في قراءة النص، ولا ينبغي أن يكون عقبة، ويحدث أحيانا أن يكون للمؤلف هيبة أو رهبة أو مقام روحي أو علمي، يكون مانعا من قراءة النص، أو يغير من الطريقة.
في حين ترى هذه المقولة أن جميع النصوص سواسية لا تفاضل بينها ولا تراتب، سواء أكان النص منسوبا لأرسطو العائد إلى الأزمنة اليونانية القديمة والموصوف بالمعلم الأول، أو منسوبا لابن سينا العائد إلى الأزمنة الإسلامية الوسيطة والموصوف بالشيخ الرئيس، أو منسوبا لديكارت العائد إلى الأزمنة الأوروبية الحديثة والموصوف بأبي الفلسفة الحديثة، وهكذا غيرهم بلا تفاضل بين نصوصهم ولا تراتب.
ثالثا: تحاول هذه المقولة تحرير النص من الإصابة بأعراض الجمود أو السكون أو التوقف، معتبرة أن النص الأدبي والإنساني مهما كان وزنه وقوته وتفوقه وطبيعته يمثل بداية لا نهاية، بداية لقراءات متعددة لا نهائية لها، أي أن كل نص ينبغي أن ينتج نصا أو نصوصا بلا توقف ولا نهاية.
بمعنى أن النص لا يصح أن يكون نهاية السلم، وإنما بداية عتبة في طريق سلم لا نهاية له يتجدد بلا توقف، لأن موت المؤلف هو إيذان بميلاد القارئ، ولا معنى لميلاد القارئ إذا لم ينهض بتحريك قراءة النص أفقا وإضاءة وابتكارا، وهذه هي قوة النص وحيويته من جهة، وقوة القارئ وحيويته من جهة أخرى.
رابعا: ترى هذ المقولة أن موت المؤلف يتوقف على ميلاد القارئ، وبهذه الطريقة يتحفز القارئ وبقوة لإعلان ميلاده، وإثبات وجوده، وتحقق ذاتيته، ومن دون ميلاد القارئ لا يتنجز موت المؤلف، ولا معنى عندئذ لموته.
ومن وجه آخر، وجه أظن أنه لم يذكر من قبل، أن ميلاد القارئ في حقيقته هو إحياء جديد للمؤلف، حين ينتعش نصه وينتفض بالقراءات الجديدة الناضجة والمتبصرة، فحياة المؤلف هي في حياة نصه، وموت المؤلف هو في موت نصه.
لذا وبخلاف فكرة بارت، فإن ميلاد القارئ لا يعني موت المؤلف، وإنما هو إحياء جديد له، ينتظره المؤلف كل مؤلف ويترقبه في كل آن.
خامسا: أن المؤلف يمكن الإعلان عن موته مجازا، لضرورات تتعلق بقراءة النص، لكنه لا يموت حقيقة، ولا يحق لأحد أن يلعب بالكلمات ويعلن موته بكل بساطة، لا على طريقة بارت، ولا على طريقة غيره من البنيويين أو التفكيكيين أو غيرهم من أصحاب النظريات والمناهج الأخرى، فلا يمكن التنكر لكل هذا الإرث الإنساني العظيم المنسوب إلى المؤلف، العابر بين المجتمعات والحضارات، الممتد وغير المنقطع من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة.
ثم هل يمكن فعلا قراءة النص الأدبي والإنساني من دون الالتفات شعوريا أو لا شعوريا إلى المؤلف! وهل تكتمل قراءة النص من دون الالتفات إلى المؤلف! ونحن نعرف أن من التقاليد السائدة عند الكثيرين أنهم يقرؤون للمؤلف، ويختارون النص بالنظر إلى المؤلف، ويظل المؤلف حاضرا معهم حتى النهاية.
علما أن روح المؤلف تجري في النص مجرى الدم في بدن الإنسان، فكل مؤلف له شيفرته الخاصة، وبصمته المتفردة، ولا يمكن الولوج إلى عالمه النصي من دون التعرف على هذه الشيفرة، وفهم هذه البصمة.