الفقيه الشيرازي والتغيير الذاتي في العراق

محمد علي جواد تقي

2020-01-25 06:32

مابرح الانسان يتأرجح بين أن يكون فرداً مؤثراً في المجتمع، أو أن يؤثر المجتمع فيه؟، ويبدو أن هذا السؤال الكبير الذي بحث فيه علماء الاجتماع طويلاً، تم ترحيل الاجابة عنه في الوقت الراهن بسبب طغيان المشاكل السياسية على سائر أمور الحياة، حتى أضحى الكثير لا يفكرون بالعلم، ولا بالقيم، ولا بالتربية، ولا حتى بلقمة الخبز، إنما الأولوية في الحرية والكرامة التي يرونها تنتهك على يد الانظمة الاستبدادية الفاسدة.

ولذا نجد معظم الناس في العراق وسائر البلاد المأزومة، لا تتحدث عن الثقافة والاقتصاد والقانون بقدر ما تركز جلّ اهتمامها على السياسة، ورموزها، وما يأملون منها أن تعيد لهم حقوقهم التي يعتقدون أنهم تشمل جميع تلك الميادين والحقول في الحياة، بما هو لسان الحال: "إن صلحت السياسة صلح كل شيء"!.

بيد ان نظرية التغيير من الأعلى لا تؤتي ثمارها دائماً، ولن تصلح في جميع الظروف الزمانية والمكانية، بينما التغيير الذاتي هو الذي يؤسس للتغيير الكبير على قاعدة جماهيرية رصينة يشترك فيه معظم –إن لم نقل جميعهم- افراد المجتمع، وهذا ما دعى اليه الاسلام قبل اكثر من اربعة عشر قرناً في إطار التأسيس لمجتمع وأمة صالحة ومتقدمة، وقد سلط القرآن الكريم الضوء بشدّة على هذه الحقيقة في غير آية كريمة، ولعل الآية الكريمة التي تلهج بها الألسن تكون خير دليل على ذلك: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

وفي ذكرى رحيل الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- نقتطف من روضته المعرفية والثقافية الزاخرة، كلمة في هذا السياق خصصه لما يجري في العراق في السنوات الاولى من الاطاحة بنظام صدام، أثار فيها أفضل الآليات لتحقيق التغيير المأمول، وإعادة بناء المجتمع والدولة في العراق على أسس صحيحة.

الخطوة الاولى: "التفاعل الوجداني"

هكذا يعبر سماحة الفقيه الشيرازي عن دور النفس الانسانية في صناعة التغيير عندما تتحرك بصمت في الاتجاه الصحيح لتوجه صاحبها نحو الخيار الأفضل، فهي تتظافر مع قوى أخرى تشكل دوافع للفعل في الواقع الخارجي، نظراً الى أن من الصعب اتخاذ المواقف العلنية والمباشرة في كل الاوقات والظروف إزاء حالات وظواهر سلبية، ففي معظم الاحيان يتوقف اللسان عن العمل، فضلاً عن اليد لاتخاذ موقف معين إزاء ظاهرة او حالة غير صحيحة، ويبقى القلب في جوف الانسان يتلقى الموقف ويتخذ إزاءه الموقف المعارض والمستنكر.

وهذا "التفاعل الوجداني للاحداث" الذي يشير اليه الفقيه الشيرازي، يعد في مرتبة واحدة مع الخطوات الواجب اتخاذها إزاء الظواهر السيئة في المجتمع، لانه يُعد "من القضايا المهمة، فالدين لا يطلب منا موقفاً عملياً فقط، وإنما يطلب منا موقفاً نفسياً أيضا"، فالموقف المعارض في داخل النفس له دوره الكبير غير المحسوس على الواقع الخارجي، ولو بعد حين، وأبرز مصداق لذلك؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعندما يكون متعذراً النهي عن المنكر باللسان وباليد، يأتي دور القلب ليكون " أضعف الإيمان".

صحيح أن الموقف المعارض المكتوم –إن صح التعبير- يُوسم في الحديث الشريف بأنه "أضعف الايمان"، بيد أنه ذو تأثير بالغ وكبير في قادم الايام لان "جميع المواقف الخارجية للفرد تبتني على موقفه النفسي فهو القاعدة التي يُبنى عليها الموقف الخارجي، فإذا كان الموقف النفسي للانسان يتصف باللامبالاة – كما يحصل إزاء المنكرات في المجتمع- فان فهذه اللامبالاة النفسية ستنتهي إلى اللامبالاة الخارجية".

وهنا التفاتة مهمة جداً الى خطورة الاعتقاد بأن السكوت على الخطأ مهما كان صغيراً يوفر على صاحبه المشاكل وردود الفعل من صاحب الخطأ، سواءً كان صديقه، او زميله في العمل والدراسة، أو أي شخص آخر ربما يصادفه في الطريق، لذا فانه يجعل من قلبه ما يشبه سلة نفايات الظواهر الخاطئة حتى وإن كانت من العيار الثقيل! ثم يخرج صاحبنا دون ان يلحق به سوء وتستمر دورة العلاقات الاجتماعية والحياة الطبيعية.

بيد ان طبيعة النفس البشرية التي خبرها الاسلام تنبئ عن أن سلة النفايات هذه من شأنها ان تتحول الى مصنع للسلوك والتصرفات تفرض نفسها على صاحبها، ربما دون ان يشعر، فقبوله القلبي بعمل ما أمامه، يفتح الطريق في قادم الأيام لممارسة هذا العمل نفسه عندما يكون بين اصحابه الذين يمارسون هذا العمل، او ربما يأخذ الابناء هذا التبني والموقف الايجابي ليتخذه ذريعة لتبرير نفس العمل الخاطئ.

لذا نجد سماحة الفقيه الشيرازي يؤشر الى تأكيد علماء الدين على وجوب إنكار المنكر قلباً، إن تعذر باليد واللسان حتى لا يترك المنكر بصماته في قلب ونفس، ثم سلوك صاحبه، "لأن هذا الإنكار هو المنطلق وهو القاعدة" لضمان سلامة النفس، ولكن؛ "كيف يكون الإنكار؟ وما معنى هذه العبارة "إنكار المنكر بالقلب"؟

يقدم سماحة الفقيه الشيرازي خمسة احتمالات لمدخلية الموقف النفسي – الداخلي إزاء الظواهر السيئة: الاحتمال الاول: يذهب الى "العلم بأنه منكر، وأنْ تعلم في باطنك، او بينك وبين نفسك بأنه منكر"، والإحتمال الثاني: يذهب الى "عقد القلب، وبين عقد القلب والعلم عموم من وجه كما يقول المنطقيون، ربما يكون هنالك علم ولا عقد، و ربما يكون هنالك عقد ولا علم، وربما يجتمع الاثنان او ربما يرتفعان، إذن فالإحتمال الثاني أن تعقد القلب على أن هذا منكر"، بمعنى أهمية اغتنام فرصة العلم بكون الامر منكراً لاتخاذ الموقف القلبي في الوقت ذاته، ليعرف الانسان انه لا يكره، ولا يتنكّر لأمر اعتباطاً، ثم يطرح سماحته الإحتمال الثالث: "بمعنى عدم الرضا بالمنكر"، وقد استشهد سماحته بالفقرة من زيارة الامام الحسين، عليه السلام، التي تلعن "أمة سمعت بذلك فرضيت به"، فيما يتعلق بما جرى يوم عاشوراء على أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله. أما الاحتمال الرابع: فهو "الغضب القلبي على المنكر، وهذه مرحلة تتعقب عدم الرضا، لأن عدم الرضا أمر عدمي أما الغضب القلبي فهو أمر وجودي". والاحتمال الأخير: فهو "إنكار المنكر، يُقصد به أن يكون لنا إنكارٌ لفظيٌّ، فنقول لفاعل المنكر: لا تفعل هذا. وبهذا المعنى فإن الإنكار القلبي هو ان يقول قلبك لفاعل المنكر لا تفعل هذا، وهو ما يسمى بالردع القلبي".

هذه الآلية التغييرية، وإن ليست بالشكل المباشر والمؤثر في لحظته، بيد أنه يعد طريقاً سريعاً لتشكيل رأي عام مصلح للأمور داخل المجتمع الطامح للتغيير الكبير في شؤونه العامة، وهي تشبه الى حد بعيد حالة "تحديث النفس" بغاية سامية، كما جرى الحديث في مقال سابق عن كيفية تحويل السلم والسلام على ثقافة اجتماعية عندما يحدث كل فرد في هذا المجتمع نفسه يومياً، وعلى مدار الساعة بأنه مسالم، وينشر السلام بين افراد أسرته، واصدقائه، وسائر افراد المجتمع.

الخطوة الثانية: توسيع الرؤية والتفكير بالمصلحة العامة

الموقف المعارض لهذه الظاهرة السيئة او تلك، ينتج عملية التفكير بكيفية معالجة هذه الظاهرة، بل وايجاد البدائل والحلول، وهذا يعني اننا ننتقل من "قوقعة الذات حيث تصبح المشاكل الصغيرة التي نعانيها كل شيء في حياتنا، أما المشاكل الكبيرة التي تمر بها الأمة ويمر بها المؤمنون فنمر عليها مروراً عابراً"، ويستطرد سماحته بأن "هذا الامر يحتاج الى تربية للذات".

والامر يستحق العناء ومجاهدة النفس لتكون طيّعة للتغيير ومحاربة كل ألوان الفساد والانحراف في المجتمع، واذا ما تحقق النجاح في هذه المرحلة، فان النجاح سيكون مضموناً في مرحلة المواجهة مع الفساد في مؤسسات الدولة، فالشعب الذي يستنكر جميع افراده أي ظاهرة سيئة أو عمل خطأ –ولو بنسبة معينة- ويحمل في داخله هذا الموقف، من شأنه أن يترجم هذا الموقف الداخلي الى حراك في الواقع الخارجي يحقق له طموحاته في التغيير ثم التطور بأقل الخسائر والجهود.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي