ماكو وطن
صالح الطائي
2019-12-17 07:56
عامان يصطرعان على حافة وجودنا المعاند والآيل للسقوط، كلاهما في حيرة من أمره، ولا يعرفان ماذا سيفعلان، فلا من يروم الرحيل يستطيع تمرير خبرته إلى القادم ليفيد منها ويتجنب الوقوع بأخطائها، ولا القادم يستطيع الاجتماع به لينهل من معارفه ما يحصنه ويحفظه من طيش الرجال وعبث الأنذال.
عام جديد، خرج إلينا من حقبة المستقبل القريب؛ يقف مترددا على أبواب عمرنا الآيل للسقوط، يترصد الأجواء، ينظر حوله كالولهان أو التائه، ولا يجد فسحة أمل توحي له بأنه سيقيم مرتاحا في هذه الأرض اليباب. عام يروم الدخول إلى ملعب حياتنا عنوة، ولكنه مرعوب مما يحدث ومما يرى، فيحجم وكأنه يريد أن يعصبها برأس العام الذي سينصرم، ليتخلص من تبعاتها، ولا يحمل وزرها، فلا يعاني مثل سلفه من شلالات الدم التي لوثت جسد العام الذي سبقه!.
وعام آخر قديم، شارف وشل أيامه على الانتهاء، وحان أوان رحيله مثقلا بهمومنا، عام عاشرناه وعاشرنا طويلا، وأوجع نفوسنا كمدا، وأوجعناه حزنا وتوحشا، يلملم بقاياه ليودعنا من غير عود، وهو لا يدري أن ذكراه ستخلد في أتون نار التاريخ المستعرة، وسيتحدث عنها الأحفاد والغرابة تقتلهم من سذاجة طباع أجدادهم.
وأنا، انا المسكون بالوحشة، التائه في مفازات الجهل، الذي لا يكاد يفقه شيئا مما يدور حوله، أنا الذي نسى أمسه، وغاب عنه كنه غده، أنا الذي تعود أن يبيع حريته على أعتاب قصور الطغاة لأنه لم يمسح أكتافهم، ولم يتغنى بأكاذيبهم، ولم يهتف مع الهاتفين لهم، أقف في منطقة وسطى بين حدود العامين، أرقب هذا وذاك، وأكاد لا أرى لا هذا ولا ذاك، فكلاهما طلسمان من غيب الوجود، ولا أدري أأودع ذاك وأستقبل هذا؟ وكيف أودع من أوجع روحي عاما كاملا، وأنا من طبعي أن أرتعب من كلمات الوداع، وتستفزني لحظة الفراق بعد أن خذلني جميع الذين ودعتهم من قبل، ولم يعد إلي أحدا منهم! وكيف أستقبل من لا أعرف ماذا يخبئ لي؟!
في هذه المنطقة الوسطى بين حدود العامين ضاعت كل المقاييس، وتغيرت كل المفاهيم، فالصمت المطبق يخرق أذنيَّ.. وضوضاء الوحدة تقتلني بزحامها، حتى المطر العطشان، بلل شفاهه عطش البدائية الأخرق الذي يسترخص تلويث وجه نقاء الأرض بصبغة حمراء، فأجرى نهرا من سراب الودق عسى أن يغسل ما اقترفته يد الإنسان ضد الإنسان، وطيور مدينتنا لم تعد تعرف مهارة التحليق، ولا تعرف العوم فوق سحب المآسي، ولذا كفت عن التغريد، واكتفت بسماع أنين الضحايا.
العام الذي يروم الرحيل كان أبكما، أخرسا منذ الولادة ولكنه فضحنا وباح بأسرارنا أمام الغرباء وفضح خيباتنا، لأنه كان يجيد التكلم بكل لغات ولهجات الدنيا، وأنا وحدي الأصم الذي لا يفهم حتى لغة الإشارة، لستُ أعمى، وأجيد ترتيب الأحرف ونطقها، وأجيد سماع سقسقة العصافير، ويطربني صوت فيروز، ويسحرني صوت أم كلثوم، ولكني حتى مع كوني أرى كل الأشياء، أبدو وكأني بلا عيون، لأني بلا وطن، لأني لم أتملق الحكام من قبل، ولذا أوجعوا ظهري وسلبوا مالي، ولم أبدِ حراكا، لم أعترض، لم أتظاهر، لم أطلب من الفاسدين أن يرحلوا، كنت جبانا بكل ما للكلمة من معنى، فلماذا تعطيني نوط شجاعة، وأنا لم أمدح حاكما بالمرة؟
لماذا تمتدحني وكأنك تجدد مأساة نكسات عمري، وتعيد إلي أوجاع سنين رحلت، وتذكرني بهزائمي وبهزائمنا وفضائحنا.. بعرينا المهين؟ وأنا لم أتعلم من تجاربي سوى الهزيمة الأبدية، ولم أتعلم كيف أوفق بين المتضادات، بين عام قارب على انتهاء الصلاحية، وآخر يطرق الأبواب مكللا بسحر الشباب والحيوية، وأنا، انا المسكون بالوجع والانتظار، لا زلت منذ أن ولدتني أمي انتظر بابا نويل، وبابا نويل مفلس وسكران إلى حد الثمالة، وملقى على الأرض الباردة في إحدى الساحات عريانا بعد أن قضى ليله يعاقر الخمر فوق أنقاض حانة خربة بعيدة، أقيمت على أنقاض مسجد هده البعض امتعاضا، وقد هربت الأيائل بعربته الفارغة من الهدايا، وضاعت الطرقات.. ومعها ضاع الحاضر والماضي، وضاع العمر، إلا بصيص أمل بأن يكون العام الجديد أفضل من سبعين عاما مرت على جبيني، وتركت آثار خطواتها عليه؛ تذكرني بأن أحد الأعوام سيحملني معه حينما يسافر نحو الغرب.
- ماكو وطن: أي ليس هناك وطن، لا يوجد وطن، وهو الشعار الذي يحمله الشباب الذين يتظاهرون في ساحات مدن الوسط والجنوب مطالبين برحيل المفسدين والخونة.