مظاهرات تشرين هل تقلع جذور الفساد؟
علي حسين عبيد
2019-12-04 07:48
الوعي الجماهيري غير المسبوق وضع العراقيين على الجادة الصحيحة من جديد، فقد أدى ضغط الاحتجاجات إلى إجبار رئيس الوزراء على الاستقالة، وجعل من الأحزاب والكتل السياسية تحسب حسابها للجماهير قبل أن تتخذ أية خطوة سياسية كاختيار رئيس وزراء جديد أو غير ذلك، وهذا يعني في كل الأحوال صناعة ميزان قوى جديد يرجّح كفّة الشعب وخياراته على كفّة الطبقة السياسية التي رسمت المشهد السياسي طوال 16 سنة مضت.
فما هو الفساد وما تأثيره وكيف يجب التعامل معه في ظل الظروف المستجدة في الواقع العراقي؟، إنّ الفساد كغيره من الظواهر يبحث عن البيئة التي تناسبه كي يولَد فيها وينمو ويصبح واقعا يصعب القضاء عليه، فما هي هذه البيئة ومن الذي يخطط لها؟، العامل الأهم لتكوين بؤرة الفساد هو الجهل، الذي يؤدي إلى نخر الفرد والمؤسسة والحكومة والدولة، وبالتالي تتشكل البيئة المناسبة لولادة وترعرع ونمو الفساد، وحين نبحث الآن عن هذه البيئة سنجدها في كل دول العالم، ولكن بنسب متفاوتة، العراق اليوم يحتل نسبة عالية بحسب منظمات عالمية مختصة، فهل هناك خريطة عمل ممكنة وقادرة على وأد هذا الخطر والقضاء عليه؟، في ظل وقع المظاهرات المستمرة هناك فرص كبيرة وقوية وذات تأثير حاسم في الحد من الفساد أو القضاء عليه، ولكن لابد من وجود تخطيط وآليات تنفيذية واضحة في هذا المجال.
فهل فكّر العراقيون خصوصا المتظاهرون منهم على الواقع السياسي بالخطوات التي تمكّنهم من تحقيق الغلبة على الفساد والمسؤولين عنه؟ هناك خطوات مهمة في آلية القضاء أو الحد من الفساد، تبرز الخطوة الأولى وهي العمل بوضوح بعيدا عن التخفي أو اعتماد سبل الخداع، لهذا لابد من شيوع الشفافية في حركة الإنتاج بجميع أشكالها وأصنافها ونوعياتها وانتماءاتها أيضا، بمعنى يجب أن تكون جميع الأنشطة الرسمية والأهلية، الفردية والجمعية التي لا تدخل ضمن الأسرار الشخصية، تحت البصر والبصيرة، وحسبما يقرّهُ ويرتئيه القانون والقيم المعتمَدة، لكي نضمن تلاشي طبقات الظلام ونرى جميعا نتائج الحراك المجتمعي الرسمي وغيره، ونتجاوز حالات الفساد وشبكاته التي تجد في الجهل والتخلف والظلام مرتعا نموذجيا لازدهارها ونموها، وفي هذه الحالة، أي عندما تكون الخطوة الأولى في خريطة العمل لمكافحة الفساد، اعتماد الشفافية والوضوح، فإننا سنكون قد قطعنا شوطا مهما في مسعى القضاء على بؤر الفساد المعششة في بيئة الجهل، ولكن في واقع الحال هناك تركيز غير كاف على قضية الفساد في وقع الاحتجاجات الراهنة وربما تم التركيز على طرد أو تغيير الطبقة السياسية وهذا مطلب صحيح، لكن يجب التركيز على منظومة الفساد والجهات والرؤوس التي تقف خلفها!.
الشفافية مرتكز لمحاصرة الفاسدين
الخطوة الثانية في منظومة العمل لمكافحة الفساد، بعد أن عرفنا الترابط الوثيق بين الجهل والفساد، فما على العاملين في هذا الطريق سوى العمل الجاد فكرا وتخطيطا وتطبيقا للقضاء على الجهل، لأن القضاء على الجهل أو تقليل نسبة تفشيه ينعكس مباشرة على إضعاف بؤر الفساد، وإذا كان الربط بين الجهل والفساد مفهوما، وواضحا، فإن العمل على إبطال أسباب الجهل تُصبح ملزمة للجميع، وخلاف ذلك، فإن القبول بالجهل والظلام وبالفساد نفسه، يعني أمرا مقصودا، هنا لابد أن تتحرك الجهات المعنية لاسيما الجهات والمؤسسات والمنظمات التنويرية منها، للقضاء على الجهل والظلام، كتمهيد لابد منه للقضاء على الفساد، وهذا لا يتم من دون خطط محكمة، يضعها متخصصون في هذا المجال، سواء كانوا من الداخل أو من خارج البلد، ممن لهم تجارب في مكافحة هذا النوع من الأمراض المجتمعية الاقتصادية الخطيرة، التي تستشري كما ذكرنا في المجتمعات القابعة في زوايا التخلف، يتبع هذه الخطوة، خطوة أكثر أهمية تتمثل بطريقة التنفيذ، أي بتحويل هذه الخطط المكافِحة لبؤر الفساد موضع التنفيذ المجدي، أي لا فائدة من التخطيط الجيد واعتماد خريطة عمل قوية ورصينة لمكافحة الفساد ما لم يسعَ واضعوها إلى الجانب التنفيذي الصارم والدقيق، ومن بين خطوات المكافحة المهمة للفساد، هو جعل الشفافية شرطا من شروط العمل المؤسساتي وعمل القادة والمدراء وغيرهم.
التركيز على الجهة التي تحارب الفساد أمر مهم، ولكن هناك عوامل مساعدة، منها ثقافة المجتمع ككل، ونظرته إلى هذه القضية، فما هي الجهة المعنية بمكافحة الفساد، هل الأمر يتعلق بجهة رسمية محددة، بالطبع ستأتي الإجابة بالنفي، لأن الجميع معني بالقضاء على هذه البؤر المدمرة للمجتمع، ونعني بالجميع، ليس القوانين وحدها، ولا الدولة أو الحكومة أو منظمات المجتمع المدني وحدها معنية بذلك، فهناك دور مهم في خريطة مكافحة الفساد، يتعلق بالمنظمات الأهلية المعنية بهذا الأمر ونعني بذلك على وجه أخص منظمات المجتمع المدني ودورها الرقابي الصارم، بل هناك دور مهم جدا، يتعلق بالمواطن نفسه وسعيه الجاد في الإسهام الجاد بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، ولابد للمواطن كعنصر هام في المجتمع أن يبادر من موقعه الاجتماعي والعملي بصورة عامة لتقديم أقصى ما يمكن، إسهاما منه في الحد من تنامي بؤر الفساد ومعالجها من خلال عدد من الخطوات التي يستطيع من خلالها تخفيف سطوة هذه الظاهرة وأضرارها الفادحة التي لا تتحدد بإلحاق الضرر بشخصه أو عائلته فحسب، إنما تمتد مضاعفاتها إلى عموم أفراد وشرائح المجتمع، وما ينعكس من هذا الوباء من تداعيات خطيرة لا تستثني أحداً حتى أولئك الذين يسعون إلى صنع بيئة الفساد وإدامتها كونهم يستفيدون ماديا فيما يتعرض الآخرون إلى أضرار فادحة، ولكن حتى الفاسدين أنفسهم سوف تعيش عائلاتهم وأولادهم في مجتمع متخلف، وهذا ليس بصالحهم أو بعائلاتهم، هذا يعني أن الجميع سوف يعاني من ويلات الفساد حتى أولئك الذين يرون فيه سببا أو طريقا لثرائهم!.
مكافحة الفساد تبدأ بصناعة مواطن صالح
بعد مرحلة مظاهرات تشرين الحالية المستمرة، لابد من التفكير الجمعي الحاسم بوجوب صناعة مواطن عراقي صالح، يرفض كل مكامن الضعف والوهن وفي المقدمة منها ثقافة الفساد، ومحاربة القيم الدخيلة التي سعت إلى جعله سلوك اجتماعي مقبول! إذاً هنالك خطوة مهمة ضمن خارطة طريق القضاء على بؤر الفساد، تخص إطلاق حملات توعية فكرية ثقافية سلوكية لنبذ ومحاربة هذه البؤر الخطيرة، فالجميع هنا مسؤول ولابد للمواطن أن يبدأ بنفسه في مسألة معالجة هذه الظاهرة، ونعني هنا امتناعه أولا عن تقديم الرشوة تحت أي مبرر كان، فلا يجوز للمواطن الواعي إعطاء الرشوة حتى لو تعلق الأمر بتسهيل معاملة أو إجراء معين، إداري كان أو غيره، بل لابد أن يبادر بفضح من يتعاطى الرشوة من دون خوف أو تردد، وبهذه الطريقة يكون المواطن قد تحوّل من عامل مساعد لانتشار الفساد إلى عنصر فاعل لمكافحته، بالإضافة إلى أهمية تطبيق إجراءات الردع القانوني المقترن بالتطبيق، أي يجب أن يكون هنالك تعاون مزدوج في خطوات المكافحة يقوم أولا على تربية إنسان مثقف يتخذ من القيم الصالحة طريقا لنشاطاته ومكاسبه، على أن تكون ثقافته داعمة لهذا التوجّه في محاربة الفساد.
الخطوة المهمة في هذا المضمار محاسبة الفاسدين وعدم الاكتفاء بعزلهم أو إبعادهم عن العمل السياسي، أو على الأقل وضع آلية حساب جديدة وحاسمة لا تسمح بتكرار أنشطة الفساد بمختلف أنواعها والجهات التي تقوم بها، ومن ضمن خطوات خريطة العمل هذه، ما يتعلق بالقوانين الرادعة وكيفية تطبيقها بعدالة حتى على المسؤولين في الدولة والحكومة دون تمييز، إذ لابد من المبادرة بتجديد وتطبيق التشريعات والقوانين الصادرة بحق الفاسدين والمختلسين والمتجاوزين على المال العام، وإشعار من تدفعه نفسه نحو هذا الاتجاه بالخطر الذي يتعرض له، نتيجة لاقترافه جريمة التطاول على المال العام، وينطبق هذا على دور الأعراف والأخلاقيات التي تعيب مثل هذه التجاوزات على من يقترفها، وتجعلها بمصاف الأخطاء الأخلاقية التي تمس بشرف الإنسان الذي يقوم بها، وإذا ما تم تطبيق خريطة العمل لمواجهة الفساد بطريقة شاملة وباشتراك الجميع، فإننا نكون قد قطعنا خطوات كبيرة ومؤثرة وناجعة في إطفاء بؤر الفساد، وبهذا سوف تكون نتائج احتجاجات تشرين مؤسسة لواقع جديد ويمكن أن نقول مجتمع جديد يرفض الفساد ويعتمد ثقافة ناهضة وقيماً جديدة يمكنها حماية العراقيين من بطش الفاسدين.