تنشئة الأجيال بين الأصالة والحداثة

عادل الصويري

2017-07-17 05:30

لن تهدأ ــ على مايبدوــ المعركة بين الأصالة والحداثة، في ظل تخندقات أنصار المصطلحين من دون مبادرة أحدهما بتقديم تنازلات للآخر. فالطرف الأول يرفض المساس بمسلماته أو مايعتبرها مسلمات، بينما يطالب الطرف الثاني (القسم المعتدل منه) بأن لا الموروث من المعطيات الحتمية من دون إخضاعه للنقاش والمحاورة واعتماد ماهو صالح منه ليندمج في مراحل التطور التاريخي؛ لاختلاف الحياة وطقوس ممارستها بين الأزمنة المتعاقبة .

ولكن، ومع هذا الانقسام الحاد والمتواصل كيف يمكن بناء الأجيال القادمة وتهيئتها لصناعة المستقبل؟ مالذي سنجنيه من كل هذه الانقسامات غير أننا سنسهم بإنتاج أجيال مأزومة فكرياً ومعرفياً، وهكذا تتناسل الانقسامات من مرحلة لأخرى والنتيجة الحتمية هي اللاشيء.

أزمة النظم التربوية

تحظى العملية التربوية باهتمام العديد من الدول المتقدمة؛ وذلك لإدراكها أهمية هذه العملية وقيمتها المعرفية في صياغة الأطر المستقبلية والحضارية للمجتمعات التي تنشد الرقي والتقدم. والعملية التربوية كما يراها الدكتور (عبد الرحمن عثمان حجازي) في مقدمة كتابه (التربية الإسلامية بين الأصالة والحداثة: "ليست غاية بحد ذاتها، وإنما أساليب ووسائل متداخلة ومتكاملة لمناهج وفلسفات مترابطة ومتفاعلة، هدفها الأسمى هو الإنسان، وغايتها الأخيرة رفع مستوى معيشته، وتحسين أحوال مجتمعه. وتشهد وقائع تغييرات المجتمعات المختلفة عبر التاريخ، بأن المجتمع الذي يقوم على نظام تربوي لاينبثق من عقيدته سوف يؤول إن عاجلاً أو آجلاً إلى الزوال، أما النظام التربوي النابع من عقيدة الأمة وتراثها يؤدي دوراً تطويرياً يفوق أي عامل آخر، وقد يكون بالنتيجة الحد الفاصل بين التقدم والتخلف في هذا العالم"1

يشدد الدكتور حجازي في هذا المقطع على ضرورة استلهام الخصوصيات على تنوعها موروثاً ومعتقداً في عملية إنضاج العملية التربوية في مجتمعاتنا، قبل الانطلاق إلى عمليات التحديث والتجديد فيها، فما الفائدة من عملية تنشئة معرفية منقطعة عن الجذور، طالما كان الإنسان غايتها؟ وهل صلاح الإنسان في قطعه عن جذوره وموروثه؟

لماذا ياترى لم تنجح النظم التربوية عندنا في إيجاد مناهج تحقق نقلة نوعية في عملية إعداد الأجيال الواعية؟ ولماذا لم يتم تشخيص الخلل الحقيقي لهذه المشكلة؟ سؤالان جوهريان هما في خضم مسؤولية المهتمين بصياغة المستقبل المضيء والمتخلص من أشكال الفقر العلمي على مستوى الابجدية والتكنلوجيا، خصوصاً بعد الإحصائيات المخيفة عن عدد الأميين في أوطاننا من الرجال والنساء والتي تشير إلى عدم إمكانية القضاء على الأمية في صفوف الرجال حتى عام 2025، أما أمية النساء فإن القضاء عليها قد يمتد إلى عام 2040، ولنا أن نتخيل المستوى الذي يمكن أن تصل إليه مجتمعاتنا من التخلف في ظل السرعة الانفجارية في التقدم على مستوى العلوم.

وبالعودة لقضية عدم نجاح النظم التربوية في صياغة المناهج الكفيلة بإعداد الأجيال الواعية؛ فإن أسباب التراجع تعود إلى الانقسام الحاصل في الأوساط التربوية بين فريقين، حيث يشدد الأول على ضرورة اعتماد المناهج القائمة على الموروث الفكري، بينما يعتمد الفريق الثاني منهج الحداثة حتى وان تطلب الأمر استبدال الخبرات المحلية بأخرى أجنبية، وما يستتبع هذه الخطوة من عمليات استبدال اللغة والبرامج.

وقد تولدت بسبب إصرار كل فريق على موقفه إشكالية كبيرة دون الوصول إلى عملية توازن تساعد في استيعاب مشكلة الترهل. ولانعرف حقيقة لماذا لم يتم التفكير في صياغة حلول وسطية تمزج الأصالة بالحداثة، حتى نضمن عملية تربوية تلتحق بركب التطور، تبني الأفراد بمنهجية واعية ممهدة لمجتمع متوازن وهوية عصرية غير منقطعة عن جذورها.

المناهج التدريسية وتحديات العولمة

لاشك أن الاهتمام بالرسالة التعليمية الانسانية هي من ضروريات تكامل المناهج، وتقع على عاتق المعلمين والمدرسين المسؤولية الكبرى في وضع التصورات العلمية المستندة إلى الواقع لإتمام المنهج التربوي الذي يعد من خلاله الجيل القادم، حيث أن عليهم مهمة غرس المبادىء والقيم الأخلاقية، في الوقت الذي يقومون بتنمية المهارات العلمية والثقافية للأفراد وكل حسب اختصاصه العلمي.

ومثلما دخلت العولمة اليوم في كافة المجالات الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن يتكثف حضورها في الجانب المتعلق بتنشئة الأجيال ومستقبل مجتمعاتهم ، لذلك لابد للمتصدي للعملية التدريسية أن يوازن هو الآخر بين أصالته وحداثته في ظل التحديات التي تفرضها العولمة، والتي باتت أمراً واقعاً فيه الممكن يتعالق مع غير الممكن، وكذا بين المعنى واللامعنى ، فليس للمتصدي أن ينطوي على كلاسيكية تقليدية بليدة تعتمد النقل الآلي للمعلومات وفرضها على المتلقي بوسائل تسلطية ، وبنفس الوقت عليه الانتباه من الانفتاح الفوضوي غير المشروط ؛ لأن ذلك سيزيد المسألة تعقيداً. وهذا يعني إن مسؤوليته كبيرة أيضاً في تجديد نفسه وتطوير قدراته وإمكانياته، مما يتطلب استنفار معرفي من المؤسسات المختصة في اعتماد هياكل تربوية ناضجة قادرة على الربط بين تقنيات الحداثة والعولمة، والتفاعل مع مستجدات الثورة المعلوماتية، وبين الأصول والموروثات التي تعبر عن خصوصية الأجيال وهويتهم الثقافية والحضارية.

---------------------------
1: د.عبد الرحمن عثمان حجازي، التربية الإسلامية بين الأصالة والحداثة، ص9

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي