العصيان والسقوط في حضيض الجهالة
النهضة الحسينية.. ثورة ثقافية ضد الجهالة (4)
مرتضى معاش
2025-08-27 04:05
أهم مظاهر الجهالة هو التبعية الحضارية، بحيث يكون الإنسان تابعا في كل شيء لتلك الأمم الأخرى، وهذه التبعية الحضارية تأتي من خلال الانبهار بمظاهر الغير، وأشكاله الصاخبة، وبإغواء الشيطان الذي يغريهم بالمناظر الخلابة والأشكال الجميلة، حتى يسهل لهم الدخول في المعصية.
وعندما يسقط الإنسان في مستنقع المعاصي، فإن هذه المعاصي تكبر وتتضخم حتى تستحكم عليه، واذا استحكمت فيه وقسى قلبه يصبح فاقدا لمعنى المعرفة، ومستغرقا في الجهالة.
وفي زيارة الأربعين:
(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار)(1)،
تعبير عن تلك السببية بين المعاصي والجهالة، حيث يصل العاصون الى حضيض الجهالة بسبب انغماسهم في المعاصي، وانحرافهم عن منهج اهل البيت (عليهم السلام)، لذلك طريق النجاة ووسيلة الاستنقاذ في طاعتهم (عليهم السلام)، فإطاعة غيرهم هو التبعية التي تسقطهم في وحل التخلف والانهزام العقائدي والثقافي، وباستيراد عقائد الآخرين تسقط الامة بالصراعات والانشقاقات، وهيمنة سلوك النفاق، والخيانة وتحل عليها الذلة والانكسار والجفاف الحضاري والتصحر الثقافي.
ما معنى المعاصي؟
العصيان: خلاف الطاعة، عصى العبد ربّه: إذا خالف أمره، وعصى فلان أميره يعصيه عصيانا، ومعصية: إذا لم يطعه، فهو عاص، والجمع معاصي، والفعل عصى يعصي فهو عاص، وعصى أمره إذ خالفه، والمعصية إصلاحا هي مخالفة أمر الله تعالى فهي فعل الحرام أو ترك الواجب.
والمعصية عكس الطاعة، أو بمعنى: الذنب والمخالفة. ومعصية الإنسان لربه بمعنى: مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب الذنوب، والمنهيات. والمعاصي بمعنى: الذنوب.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر)(2).
فمن يعصي الله فهو جاهل، لأنه بالإضافة الى مخالفته الأوامر التشريعية يخرق القوانين التكوينية ويتمرد عليها، والتمرد عليها يؤدي الى ضرر العاصي بل الى هلاكه في أوقات كثيرة:
(فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) هود63.
فمن يخرق قانون الجاذبية ينتهي بموته، وهذه قاعدة سارية في كل قوانين الله تعالى حيث عدم إطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله وأنبيائه والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يؤدي الى هلاك البشر والامم. لذلك فإن العصيان الذي ينبهر به الإنسان ويغريه يقوده إلى الجهالة المستمرة بالقوانين الإلهية ومن ثم التمرد عليها.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام):
(من أطاع رجلا في معصية فقد عبده)(3).
فالطاعة تعني الالتزام برأي من يطيعه فيصبح مستعبدا له:
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الشعراء22.
فالعبادة لله سبحانه وتعالى، وتلك العبادة لله تعني الالتزام بالأوامر والنواهي وعدم ارتكاب المعاصي وأداء بالواجبات والتكاليف الشرعية، والا فإن المعصية تعني التعبد للشيطان وطاعته:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) يس60/62.
التوازن في صميم طاعة الله تعالى
وعندما يطيع الظالم فإنه (أسخطك وأسخط نبيك) لأنه لا يعمل في طريق الله سبحانه وتعالى ويصبح من أهل الشقاق والنفاق الذين يختلقون الأزمات والمشكلات، وهؤلاء يكونون من أهل الشقاق والنفاق لأنهم يخرقون القانون الإلهي وينشرون الفوضى التي تؤدي الى اختلال التوازن، فتندلع الصراعات والحروب والثورات، التوازن هو في صميم طاعة الله تعالى والالتزام بقانونه، فكل انشقاق يؤدي الى اصطناع الخلافات والأزمات في الأمة، هو تعبير عن خرق التوازن ومعصية الله سبحانه.
(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال46.
ان نقيض التوازن هي الفوضى، الفوضى تولّد الأزمات والمشكلات، أما التوازن فهو يؤدي إلى النظام، والشقاق يؤدي إلى الفُرْقة، وإلى الاختلافات وإحداث الفوضى وإنتاج النفاق، والنفاق يؤدي الى تدمير الثقة الاجتماعية وانحلال المنظومة الاخلاقية، ومن ذلك مايجده كل فرد في الشارع، فإذا التزم الناس بالنظام المروري فإنه تقل الحوادث، لكن حينما لا يلتزم الناس بالقوانين المرورية تحدث الفوضى وتتعاظم الحوادث وتنفلت النزاعات والمشادات.
بعد ذلك فإن وجود أهل النفاق هو نتيجة للشقاق، لأن الإنسان المنشق أو المختلف، أو المتنازع، دائما يكون في حالة نفاق، حتى يغطي على المشكلات التي يتسبب بها، فيكون ذا شخصية ازدواجية، حيث يغطي على الآثار التي ترتبت على سلوكه الانشقاقي ومعاصيه التي ارتكبها، ومع تراكم المعاصي ينمو جبل النفاق ويتضخم الفساد وتتصلب أسس الجهالة في البنيان الاجتماعي، فالمعصية تؤدي الى الجهالة، والجهالة تؤدي الى ارتكاب المزيد من المعاصي.
أكل الحرام والعيش من الفوضى
وعن الإمام الصادق (عليه السلام):
(حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة)(4).
فمن يستمع ويقرأ حديث واحد في الحلال والحرام ويعمل به، فإنه يسير في طريق الخير والصدق والصلاح والفلاح. فماذا يفيد الإنسان إذا كان يمتلك الذهب والفضة والأموال والكنوز اللامتناهية وهو يعيش في الحرام، فالحرام معصية تقوده إلى البؤس وإلى الشقاء والتعاسة:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه124.
فالاستمرار في أكل الحرام تؤدي إلى الخروج من حالة التوازن والنظام، والعيش من الفوضى والخوف والقلق، يفتقد للأمان والامن والاستقرار والطمأنينة، فلا يهنأ ولا يستلذ بالحياة، ويصبح من الأحياء الموتى كما وصفهم الإمام علي (عليه السلام)، لذا فإن التفقّه في الحلال والحرام هو عملية أساسية لرفع الجهالة عن الأمة، وهذه حقيقة تكون بارزة امام الاعين الباصرة، وعدم التفقّه يعني الوقوع في المحرمات والابتعاد عن الحلال، مما يؤدي الى استحكام الجهالة في المجتمع، واندلاع المشكلات والأزمات بارتفاع وتيرة الشقاق والنفاق، وانخفاض قيمة الإنسان إلى الحيوانية، حيث يبيع الإنسان نفسه بلا مقابل (وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى)، بل وانقياده إلى الظلمات والعدم (وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ)، حيث يسقط المنافق هذا السقوط المريع والنهاية السوداء.
ومثال على الذين يشربون الخمر فإنهم يصلون إلى مرحلة من الانهيار التام حيث التدمير الجسدي والتحطم النفسي والتبلد الفكري، وكذلك الامر في أهل القمار واللصوص والمرتشين والزناة، فالذي يدخل في سلسلة الحرام يصبح خائر الارادة عبدا لإدمانه مستسلما لقدره العدمي.
التقوى في مواجهة جهالة التبعية
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) -لما قيل له: أحب أن أكون أعلم الناس-: (اتق الله تكن أعلم الناس). أي ان تقوى الله عزوجل والورع عن محارم الله واتقاء معصيته، هو الطريق للعلم وتبديد الجهالة، لأنه بالتقوى ستنمو الحالة العقلائية الإنسانية، وتضمحل الحالة الحيوانية التجهيلية، فيكون اقرب للواقع وادراكه، فيكون أعلم الناس.
فالغريزة تمثل الجانب الحيواني في الإنسان يحجبه عن العلم والمعرفة ان تمكنت منه وتحكمت به، بل يقوده الى الجهل المتوالي حتى الوصول الى الجهالة، فإن الذين يغرقون في شهواتهم ويصبحون اتباعا لأهوائهم، تكون نتيجتهم ان يكونوا من التافهين، والتفاهة هي أحد مصاديق الجهالة.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (الشهوات تسترق الجهول)(5).
وعنه (عليه السلام): (من غلب شهوته ظهر عقله)(6).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام):
(ما نقل الله عزوجل عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال وأعزه من غير عشيرة وآنسه من غير بشر)(7).
فالتقوى تنتقل بالانسان إلى عالم العز والغنى والعظمة، اما الذين يفترضون ان نهمهم للأموال وتكالبهم على السلطة سيصنع لهم عزةً وقوة وسطوة، فإنها اوهام تقوده الى الذل والاهانة والفشل. لأنه لن يحصل على الاحترام الحقيقي، فالاحترام يحصل من خلال بناء اعتبار لنفسه بنفسه، دون أن يكون انتهازيا أو وسائليا، ينتهز الفرص في ارتكاب الحرام بطموحات واهداف شيطانية، ويكون ذلك مغلفا بالغرور والطغيان الذي يذهب به نحو السقوط والامتهان.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(من أراد الغنى بلا مال، والعز بلا عشيرة، والطاعة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله)(8).
وهذه هي المعادلة الحقيقية بين العز والذل، فبالذل لله سبحانه وتعالى يصبح عزيزا، وبمعصيته يصبح ذليلا في الدنيا والآخرة، وهذه هي القاعدة الأساسية في معنى العز والذل، فطاعة الله تعالى مفتاح للوصول الى الانتصار والتقدم، ومن يريد الارتقاء وفتح خزائن البركات عليه بطاعة الله تعالى وعدم معصيته، ومن أهمها الاغتناء بالعلم والعقل والحكمة.
كيف تؤدي المعاصي إلى الجهالة؟
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه)(9).
فالذنوب تؤدي الى نسيان العلوم، لأن تحجب القلب عن المعرفة وتتسبب في ضلاله وانحرافه:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية23.
حيث تستولي الذنوب على الحواس فيفقد البصيرة ويختفي الادراك ويغيب الوعي، وكما ورد عن الامام علي (عليه السلام): (إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا)، فالقلب هو المخزن الذي يضع الإنسان فيه ما يعمله، إن كذب يختزنه قلبه الى نكتة سوداء، وكلما ازداد الاختزان السيء زاد سواد القلب، وانحجب العلم، واستحكمت الجهالة.
فالقلب هو مركز التفاعلات بين ارشاد العقل وانفعالات النفس، وكلما كان ارشاد العقل اقوى تحكّم في انفعالاته، وكلما تضاءل ذلك الارشاد خفت صوت الحكمة وتغلبت الاهواء والشهوات.
والحكمة هو النور الذي ينبعث من القلب فينير الدرب، والحكمة هي غاية العلم، بتجنبه للمعاصي يختزن القلب النور والنقاء والطهارة ويشرب الماء الزلال، وبعدم اجتناب المعاصي يصبح قلبه معتما ومخزنا للشوائب المتلوثة ويشرب الماء المالح او الكالح.
لذلك فإن الإنسان الذي يريد ان يحول القلب الى مركز للعلم لابد أن يملأه بالخيرات والطاعات والحسنات، أما الذنوب فإنها تسلب الخيرات والعلم حتى ينسى الإنسان علمه ويكون غارقا في مرتع الجهالة:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) طه124/126.
والله سبحانه وتعالى لا ينسى الناس، بل النسيان من باب الأسباب والمسببات، فمن ينسى الله، سوف ينساه الله، ومن يترك الله يتركه الله أيضا.
فالذي يُذنب ينغلق قلبه ويصبح اعمى ويضل طريقه وينسى علمه، ومن أطاعه اتبع الأسباب الحقيقية واخذ بالارشادات الإلهية والعقلية، كالذي يذهب إلى في طريق مستقيم فيه إرشادات فيصل الى غايته سالما، أما الذي يذهب في الصحراء ولا يستفيد من الإرشادات فإنه سوف يضيع ويصبح تائها ويكون في حيرة الضلالة، ويزداد بعدا كلما اهمل الارشادات، وهذا هو معنى أن الإنسان الذي يسير عبر قوانين الله سبحانه وتعالى فإنه يزداد علما ومعرفة وتنفتح له الآفاق.
وفي يوم عاشوراء (خرج -الامام الحسين- عليه السلام حتى أتى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم: ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟)(10).
فعندما تُملأ البطون من الحرام ينغلق القلب فلا يسمع ولا يرى وبالتالي لا يستمع للنصيحة فينحدر الى المزيد في حفر الجهالة، وكلما اوغل في المعاصي ازداد عميا وصما عن سماع الموعظة والنصيحة، وهذ هو معنى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) البقرة6/7.
وهنا جواب لتساؤلات من يريد ان يفهم لماذا لايستمع اكثر الناس للنصح والموعظة، فقد تصلبت قلوبهم بالمعاصي فأغلقت آذانهم وأعينهم، والإنسان الذي ربما يوجد في قلبه بعض الحسنات، فإنه يستطيع أن يتدارك الموضوع، ويمحو السيئات بالحسنات، بالاستغفار والتوبة، ولكن إن استمرت عملية ملء القلب بالسيئات حتى يتخم بها، يصبح من القلوب التي ختم الله عليها، وهذا هو قساوة القلب التي تذكر كثيرا في الآيات القرآنية:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة74.
الذنوب.. تجهيل واستلاب للعقل
إن الذنوب تؤدي إلى استلاب العقل وتجهيل الإنسان واستلاب العقل، من خلال جموح الغرائز باستثارات خارجية وخصوصا الجنسية كما ذكرنا سابقا في قضية الإعلانات، حيث يزينون للناس المعاصي ويغرسون اوهاما في العقل الباطن باللذة الناشئة من المعاصي فينحجب العلم والعقل والوعي، فينساق المغرر به نحو عالم الجهل، فالإعلان لا يتكلم مع الإنسان بطريقة علمية، حيث يفكر العقل في تلك اللحظة في جدوائية اقتناء السلعة المعلن عنها.
فالمعاصي ترتبط بالغرائز ويؤدي ارتكابها الى ابتداء الغفلة، والغفلة تتحول باستمرار ارتكاب المعصية الى أمر اعظم وهو السكْر من غير خمر.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(احذر سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكرا كسكر الشراب، بل هي أشد سكرا منه)(11).
فالمعصية تستلب العقل، وتقوده الى الجهالة المحضة التي تؤدي إلى أن هؤلاء القوم يقتلون الامام الحسين عليه السلام لأن الجهالة استحكمت عليهم.
لذلك نحن نحتاج إلى عملية استنقاذ الغافلين من سكرة المعاصي وصحوتهم بالاستغفار، لذلك ورد عن المعصوم (عليه السلام):
(من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر)(12).
فإن هدف الزيارة أن يستغفر الإنسان، ويبدأ رحلة جديدة في الحياة، وأن يتخلى عن المعاصي، حتى يستطيع أن يدخل في عوالم معرفة الإمام الحسين (عليه السلام)، فالذي يبقى يرتكب المعاصي لا يستطيع أن يدخل في عالم معرفة الإمام الحسين (عليه السلام)، لأن معرفته تحتاج إلى طهارة القلب وتطهير السلوك وتخليص النفس من آثار المعاصي والحسد والغش والبخل والخيانة، وبهذا التطهير سوف يبدأ في الدخول في عالم معرفته (عليه السلام)، وكلما تطهر ازدادت معرفته، وهذا قد يكون معنى (غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر).
الصحوة من الغفلة
الإنسان الصالح هو السعيد الذي استغفر فصحى من غفلته، والذي يبقى في عالم المعاصي يغوص في الجهالة في الجهالة المظلمة المعتمة الممتلئة بالبؤس والشقاء.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(من قارف ذنبا فارقه عقل لا يرجع إليه أبدا)(13).
أي ان العقل الذي يُفقَد بالذنب لن يعود مرة أخرى، فالعقل نظيف بكامله، ولكن بمجرد أن يدخل الإنسان في ذنب، يذهب جزء من العقل ولا يعود له، فهذا الجزء الزائل هو جزء من مجموعة ملايين الخلايا العقلية، فعندما يقترف ذنبا، يتضرر عقله، وبالاستغفار الى عزوجل يمنع باقي أجزاء العقل من انتشار التضرر، فكما ان خلايا جسم الإنسان تموت بالأمراض وكبر السن ولاتعود هذه الخلايا، كذلك الإنسان الذي يقترف الذنب يموت جزء من عقله، والذي لا يقترب من الذنب له عقل كامل، وهم المعصومون عليهم السلام فهم أصحاب العقل الكامل.
فكلما ارتكب الإنسان ذنبا ينقص من عقله، وهذه موعظة وحكمة لمن يعتقد انه سيستغفر ربه بعد حين، ولكنه يخسر أجزاء كبيرة من عقله، تلك النعمة الإلهية التي كرمنا الله سبحانه تعالى بها.
وهذا الكلام الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو دعوة للانتباه والصحوة من الغفلة وعدم تضييع النفس في المعاصي، فالمعصية تجعلك تراهن على شيء زائف، عدمي زائل، والرهان يجب أن يكون على عقلك الذي يمثل قيمتك، فقيمة الإنسان بعقله، فإذا راهنت على ذهاب عقلك، فهذا يعني أنك تعيش في جهالة مطلقة، لأنك لا تعرف قيمة عقلك، وثمن نفسك وغاية حياتك.
وعن الامام الكاظم (عليه السلام):
(إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب! وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)(15).
مخاطر المعاصي
إن العقل بوظيفته هو في حالة تجنب للمخاطر، والحذر من كل شيء لا يعرفه ويجهله، فيتجنب كل شيء فيه خطر عليه، فالغابة التي فيها حيوانات مفترسة لا يدخلها لأنها ذات خطر عليه، وإذا كانت هناك معاملة مالية فيها مخاطرة كبيرة لا يدخل فيها أيضا. أو اشتهى شيئا يشربه لكن فيه اضرار كبيرة فإن عقله يقول له لا تشربه، فإدراك المخاطر لها أهمية كبيرة في مسيرة الإنسان حتى يكون ناجيا، ولا يضيع في متاهات الدنيا، لذا فإن ارتكاب المعصية كما انه وقوع في المخاطر التي ينهى العقل عنها، كذلك فإن الاجتراء يؤدي الى الاستهانة بالمخاطر، وبمستوى أعلى عدم ادراك اضرارها، لأنه يسكر بها فيُستلَب عقله.
النهايات السيئة
ولابد للإنسان ان تكون له معرفة راسخة بأن المعصية التي أقدم عليها هي سير متسلسل الى النهايات السيئة التي تجتمع فيها كل المخاطر، لذلك نلاحظ ان بعض الناس الذين يستهينون بارتكاب المعاصي، يقعون في تسلسل مستمر للانهيارات والمشكلات والأزمات، فيسقط في الحضيض والمرض والفساد التدمّر الاجتماعي وفقدان الجانب الاعتباري في المجتمع، هذا كله بسبب أن الإنسان عندما ذهب جزء من عقله، تزول تدريجيا قدرته على إدراك المخاطر التي يواجهها، وعدم قدرته على النجاة واعظم من عدم النجاة وقوعه في جهنم.
وعن الإمام علي عليه السلام:
(اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(16).
مثل الذي يؤدي الكثير من العبادات المستحبة ولكن اخلاقه سيئة مع الناس، فتجنَّب السيئات أولى لإبقاء القلب نظيفا لاتجترحه السيئات، فملأ القلب بالحسنات مع ارتكاب السيئات لا يفيد في بناء الشخصية، بل أن السيئات هو الطريق الذي يقوده إلى الوقوع المخاطر الكبيرة وتبديد الحسنات.
وعن الامام الصادق (عليه السلام):
(أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله): رجل بدوي فقال: إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب، فأعاد عليه الاعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بالخير)(17).
فالغضب مفتاح كل شر وتجنبه هو تجنب اعظم المخاطر مثل النزاعات والحروب، فالبعض يتصور ان حرمة ارتكاب السيئات والمعاصي مفروض علينا قسرا، ولكنها في واقع الحال تشكل خطرا يؤذينا ويدمرنا والعقل يؤمرنا لتجنبها وحماية لحياتنا وأنفسنا.
قاعدة الثواني الخمسة
وعن الامام الباقر (عليه السلام):
(توقي الصرعة خير من سؤال الرجعة)(17).
فالوقاية تكفي الانسان عن الندم والحسرة، لذلك على الإنسان أن يستفيد من عقله وينتبه لكل عمل يعمله، فالبعض الناس ينفعل بسرعة ويشتبك مع الآخرين بالعنف والكلام السيّئ دون أن ينظر الى العواقب، وبعض العواقب خطيرة جدا يبقى نادما عليها الى آخر عمره.
ودائما أقوم بتذكير نفسي والآخرين الناس بالصبر خمس ثوانٍ وعدم التعجل قبل أن ينفعل ويرد او يتخذ قرار متسرعا، وفي هذه الثواني الخمسة ستظهر المخاطر التي ستلي هذا الانفعال، بالإضافة الى فهم الاستنزاف النفسي والجسدي والاجهاد الفكري الذي سوف ينتج عن هذه المشادّة، فمن يتسرع سيندم.
لذلك فإن (توقّي الصرعة) في خمس ثوان يهدئ الانفعال ويطفئ نار الغضب، بالنتيجة تجنب العواقب السيئة.
ان أسلوب التوقّي والتعود عليه هي عملية تربية للإنسان، فإذا جاءت أمامه معصية، أو إذا أراد أن يرتكب امرا مضرّا له سيكون متمكنا في السيطرة على نفسه، مثلا إذا كان مصابا بمرض مثل السكري وكان أمامه طعام لذيذ لكنه مضر مثل البقلاوة، فهنا النفس تأمر صاحبها فورا بتناول هذا الطعام اللذيذ الذي فيه كل المواد الجاذبة للذائقة الحسية والبصرية والشامة.
فماذا يفعل الإنسان في هذه الحالة؟
لابد عليه أن يتأنى، ويعلم نفسه على الصبر في قاعدة الخمس ثوان، ويتوقف فيها ويقول لنفسه هذه لذة فانية، وبتركها فإنه يحافظ على صحته، وهذه رياضة كما قال الامام علي (عليه السلام):
(وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ)(18).
فرياضة النفس في اتقاء المخاطر التي تؤدي الى الهلاك، فالوقوف أمام ارتكاب المعاصي وتجنبها يؤدي إلى فتح آفاق كبيرة للحسنات والخيرات.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(جدوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا، فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيرا، وإن من يبني ويهدم يوشك أن لا يرتفع بناؤه)(19).
فإن المستعجلين في اكتساب الدنيا والوصول بسرعة بأية طريقة كانت بالحلال أو الحرام، لكي يحقق آماله، ويصعد سريعا.
لكن هذا نوع من المعاصي، يفجر في وجه صاحبه في الغد مساوئ كثيرة، فعليه أن يتنبه بأن لا يقدم على شيء يؤدي إلى تهديم حياته، عليه ان يصبر، فالعقل يأمره بإدراك المخاطر ويطالبه بعدم الاستعجال في عملية الوصول، فالبناء السريع سينهار، عاجلا ام آجلا سيقتل صاحبه ومن معه.
وللبحث تتمة...