بين الحبر والدم.. صلح الحسن وثورة الحسين في ملحمة الإمامة

السيد فاضل الموسوي الجابري

2025-08-11 05:38

في التاريخ لحظات لا تُقاس بتفاصيلها الآنية، بل تُقاس بما تُحدثه من زلزلةٍ في الوعي، وبما تُلقيه في ماء الزمن من دوائر لا تزال تتّسع. وإذا كان التاريخ قد سجّل صلحًا للإمام الحسن بن علي عليه السلام، وثورةً لأخيه الإمام الحسين عليه السلام، فإنّ من الظلم الفادح أن يُقرأ هذان الحدثان في معزلٍ عن بعضهما، أو يُنظر إليهما كطرفي نقيض، أحدهما يُهادن والآخر يُقاوم. كلا، بل هما فصلان في ملحمةٍ واحدة، وسطران في كتاب الإمامة الذي خُطّت حروفه بحبر الحِكمة والدم معًا.

لقد كان الإمام الحسن عليه السلام ينظر بعين الإمام المعصوم إلى أمةٍ أنهكها التخاذل، ومزّقتها الفتن، وجعلتها سيوف الشام تهاب المواجهة. وكان معاوية –وقد استحكم سلطانه وخمدت جذوة الحماسة في نفوس كثير من المسلمين– يتربّص بالإمام الدوائر. فاختار الإمام الحسن أن يُجنّب الأمة دمًا لا يُفضي إلى نصر، وأن يُراوغ العاصفة، لا فرارًا، بل تَحيُّنًا للفرصة، وليزرع في وعي الناس بذور الشكّ في عدالة هذا الحُكم الأموي الذي يتزيّا بلبوس الخلافة، وهو في حقيقته مَلكٌ عضوض.

لم يكن صلح الإمام الحسن عليه السلام استسلامًا، بل كان استراتيجية معقّدة من الحذر والحنكة، وهو حين اشترط ألا يُسمّى معاوية بأمير المؤمنين، وألا يعهد بالخلافة من بعده لأحد، إنما كان يوثّق خيانة النظام الأموي بنصوصٍ مدوّنة، سيفضحها التاريخ لاحقًا. وقد فعل، إذ لم يمضِ وقتٌ طويل حتى صعد معاوية منبر الكوفة، وقال بملء فمه: “كل شرط شرطته للحسن فهو تحت قدمي هاتين”. فكان ذلك الإقرار الصريح أولَ مسمار يُدق في نعش شرعيته.

ومضى الحسن إلى ربه مسمومًا، كما مضى من قبله أمير المؤمنين عليه السلام شهيد المحراب، وبقي المشروع الأموي يتمدّد، متأبطًا راية الخلافة، بينما روح الإسلام تتآكل تحت أقدام المترفين. حتى إذا استوى يزيد بن معاوية على منبر المُلك، وكان ما كان من فسقه وعلنه بالمعاصي، استنهض الإمام الحسين عليه السلام ما تبقّى من صوت الحق في الأمة، وصاح صرخته الخالدة:

“إن مثلي لا يبايع مثله”.

هنا لم يكن السكوت يعني سوى الشراكة في الجريمة. ولم يكن الصلح –في مثل هذا الظرف– خيارًا مشروعًا، لأن شروطه قد سُحقت، ودماء الأمة أضحت في كفّ سفّاح، لا يُفرّق بين الدين واللهو، ولا بين الوحي والخمر.

ومن هنا، انبعث الحسين عليه السلام، لا ليبدأ ثورة، بل ليُكمل سطرًا بدأه الحسن عليه السلام، حين رفض أن يُعطي الشرعية لسلطةٍ منحرفة. وإذا كانت كلمات الحسن في صلحه تُخبرنا أنه “ما سلّمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارًا”، فإن كلمات الحسين تخبرنا أن الزمان قد نضج، وأن الأرض التي حرثها الحسن بالوعي، آن لها أن تُسقى بالدم.

لقد خرج الحسين، كما قال، “لطلب الإصلاح”، لا للتمرد، ولا للملك، بل ليضع حدًّا لانحرافٍ استُبطن في عمق الخلافة حتى كاد يُغيّب ملامح الإسلام الحقيقي. ومع أول صيحة في كربلاء، سقط القناع الأخير عن الوجه الدموي لبني أمية، وارتفع لواء الدين على أعمدة الجماجم.

وهكذا نكتشف أن الصلح والثورة لم يكونا خُطوتين متعارضتين، بل متكاملتين. فالحسن صاغ وعي الأمة بالحقيقة المغيّبة، والحسين فجّر هذا الوعي حين استحكم الظلم، وبلغت القلوب الحناجر.

صلح الحسن إذًا، كان الحبر الذي خُطّت به وثيقةُ الفضيحة السياسية للبيت الأموي. وثورة الحسين كانت الدم الذي وقّعها في كربلاء. وكلاهما قدّما درسًا خالداً في فقه الإمامة: أن الإمام لا يحكمه الظرف، بل يحكمه التكليف، وإن تنوّعت أدواته بين صبر وسيف.

فلئن سُمّ الحسن، وطُويت صفحته في صمت الأوجاع، فإن دم الحسين انفجر في رمال الطف، ليكتب بكربلاء دستور الوعي والكرامة، ويُعيد تعريف الأمة لنفسها من جديد.

ذات صلة

زيارة الأربعين: منكرٌ يتبدد ومعروفٌ يتجسدطريق الحسين طريق الله: عندما تلتقي الخطوات بالمعنى الأسمىالدين والدولة.. إشكالية التعارض وأفق التكاملأهمية تعديل الدستور العراقي للمضي نحو الإصلاح المنشودسوريا والعراق: تداخل المصالح والمخاطر في خرائط الشرق الأوسط الجديدة