قوة التَّعلِيمُ

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثَّانية عشَرَة (١٣)

نـــــزار حيدر

2025-08-02 03:02

إِنَّ مصدرَ القوَّةِ الحقيقي هو العلمُ والمعرِفةُ، وعندما نبحثُ في أَسبابِ النُّهوض الحقيقي لكُلِّ الأُممِ والشُّعوبِ في التَّاريخِ نُلاحظ أَنَّها بدأَت مسيرتها بالعلمِ فاستثمرَت فيهِ أَموالاً ورجالاً وزمناً فهوَ أَساس كُلَّ قوَّةٍ أُخرى في المجتمعِ.

 حتَّى الإِسلام بدأَ بالعلمِ (اقْرَأْ) وقامَ بالعلمِ وانتصرَ بالعلمِ واستمرَّ بالعلمِ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

 وفي قولهِ تعالى (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) تحريضٌ مُستمرٌّ على طلبِ العلمِ، لأَنَّ تصوُّرَ الإِنسانِ أَنَّهُ قد يصِلُ إِلى مرحلةٍ لا يحتاجُ فيها العِلمَ [مرحلةُ التُّخمةِ] يشكِّلُ بدايةِ الجهلِ فالعِلمُ بِلا نهايةٍ فهوَ يتَّسِعُ لِمَن يطلبهُ كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيه إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّه يَتَّسِعُ بِهِ) وقولهُ (ع) (مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وطَالِبُ دُنْيَا) فإِذا رأَيتَ مَن يكرهُ طلبَ العلمِ فتأَكَّد بأَنَّهُ مُعاقَبٌ كما يقُولُ (ع) (إِذَا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْه الْعِلْمَ).

 ويصِفُ (ع) العِلمَ بقولهِ (فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِه أَنْ يَعْلَمَ؛ أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَه مَضَى فِيه وإِنْ كَانَ عَلَيْه وَقَفَ عَنْه، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، والْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ؛ أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ).

 ولذلكَ كتبَ (ع) في وصيَّتهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر (وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلَادِكَ وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ).

 وإِنَّما تنتشرُ ظاهرة الهمَج الرُّعاع في المُجتمعِ بسببِ الجهلِ كما يذكرُ ذلكَ (ع) في وصيَّتهِ لكُميلِ بن زيادٍ (وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ).

 ولقد لخَّصَ الحديثُ الشَّريف عن رسولِ الله (ص) مفهوم القُوَّة الشَّامِل بالقَولِ (المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) والذي يعني [أَنَّ المُؤمنَ الذي يتمتَّع بالقوَّةِ في عقلهِ وذهنهِ وتفكيرهِ وبدنهِ وعزيمتهِ وإِيمانهِ برسالتهِ الإِنسانيَّةِ وعلمهِ ومَعرفتهِ، فيُوظِّف كلَّ هذا فيسعى للخَيرِ ويُنجز الأَعمال الصَّالحة ويُساهِم بها في إِضافةِ لبِنةٍ للبناءِ الحَضاري، هو أَحبُّ إلى الله تعالى وأَفضل من (المُؤمنِ) الضَّعيفِ الكسُولِ الفاشلِ الذي يفتقرُ إِلى هذهِ الصِّفاتِ].

 وإِذا كانَ كُلُّ ذلكَ ينطبِق على الإِنسان الفَرد باعتبارهِ حجَر الزَّاوية فهوَ كذلكَ ينطبقُ على الإِنسانِ الأُمَّة والإِنسان المُجتمع والإِنسان الجَماعة.

 فالمجتمعُ القويُّ الذي يأخُذ بأَسبابِ القوَّة [العصريَّة] وليست أَيَّة قوَّة، يكونُ بِلا شكٍّ، أَقدرُ على مُواجهةِ التحدِّياتِ الحضاريَّةِ وحمايةِ أَمنهِ القَومي ومصالحهِ العُليا.

 والعكسُ هو الصَّحيحُ، فالمُجتمع الضَّعيف الذي يتجلَّى ضعفهُ في الجهلِ والتخلُّفِ وحالةِ الذيليَّةِ والتبعيَّةِ والتَّأَثُّرِ المُفرط بالآخر الذي يختلف معهُ في كُلِّ شيءٍ حدَّ التَّقليدِ الأَعمى وضَياع الهويَّة، هذا المُجتمع يغزُوهُ الآخرونَ على كُلِّ المُستوياتِ!.

 والقوَّةُ [بكُلِّ أَشكالِها] مع الحكمةِ إِقدامٌ ومِن دونِها فَوضى وتفريطٌ وتهوُّرٌ وانتحارٌ، فليسَ بالضَّرورةِ أَنَّكََ تستخدِم القوَّة بمجرَّدِ أَن تمتلكَها فقد تحتاجَها للرَّدعِ فقط خاصَّةً إِذا كُنتَ تعلَم عِلمَ اليَقين أَنَّها غَير مُتكافِئة، فالحِكمةُ معَ القوَّةِ قد تُحقِّقُ نصراً من دونِ حربٍ أَو قِتالٍ! ولعلَّ في قصَّةِ ملكةِ سبأ مع نبيَّ الله سُليمان (ع) درسٌ مهِمٌّ جدّاً بهذا الصَّددِ.

يُحدِّثنا القرآن الكريم عن ذلكَ بقولهِ تعالى (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ* قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ* قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).

 فلو تهوَّرت الملِكة واعتمدَت على قوَّتِها [الجبَّارة] لهلكَت وأَهلكَت مملكتَها وأَهلها، إِلَّا أَنَّ حكمتَها وتفكيرها العقلي والمنطقي جنَّبتها ويلات الحَرب والدَّمار.

 ومنَ أَبرزِ مظاهرِ الحِكمةِ مع القوَّةِ هوَ القُدرة على تعديلِ الخُططِ كُلَّما اقتضَت الضَّرورة واستجدَّ طارئ، أَمَّا التكلُّسِ على الخُططِ فدليلٌ على الغباءِ والحُمق وهوَ عكسُ الحِكمةِ!.

 وليسَ صُدفةً أَنَّ القُرآن الكريم لم يصِف خِصلةً بالخَيرِ الكثيرِ سِوى [الحِكمةَ] كما في قولهِ تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

 وإِنَّ أَكثر ما يربُط القُرآن الكريم [الحِكمةَ] بـ [الحُكمِ] لأَنَّ السُّلطةَ من دونِ حكمةٍ تدميرٌ خاصَّةً إِذا زجَّت الدِّين بتصرُّفاتِها وتستَّرَت بالمُقدَّسِ.

 يقُولُ تعالى (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) و (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) و (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا).

 السُّلطةُ معَ الحِكمةِ تُحقِّقُ العدلَ وهو المطلوبُ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ومِن دونِها ظُلمٌ بغضِّ النَّظرِ عن خلفيَّةِ السُّلطةِ!.

 ولقد عرَّفَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الحِكمةَ وهي التي يتَّصِفُ بها العاقِلُ فقط بقَولهِ عندما قِيلَ لَه صِفْ لَنَا الْعَاقِلَ! فَقَالَ (ع) (هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه) فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الْجَاهِلَ فَقَالَ (قَدْ فَعَلْتُ).

 فالجاهِلُ المُتهوِّر لا ينظرُ إِلى أَبعدِ من أَرنبةِ أَنفهِ ولذلكَ فهُوَ يعتمِدُ على ظواهرِ الأُمور ولا يغوصُ فيها، فتأتي حساباتهِ دائماً خطأ فيدفع ثمنُ حماقاتهِ خسائِر وفشَل دائِمَينِ!.

 يقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّه هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا واشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا).

 فالعاقِلُ الحكيمُ يتميَّزُ بخِصلتَينِ أَساسيَّتَينِ؛

 العُمُق وبُعدُ النَّظَرِ.

ذات صلة

في ذكراه الأليمة: الإمام الحسن وإرهاصات كربلاءحق المواطن العراقي في المياهالأمانة الوظيفية مبدأ لا يقبل التفريط في الشريعة والتشريعالسلاح المنفلت والدولة العراقيةعن شرف الخصومة