خِصالٌ
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثَّانية عشَرَة (٩)
نـــــزار حيدر
2025-07-19 05:36
بمقدارِ ما أَنَّ الرِّجالَ المُتميِّزينَ يبحثُونَ عن الفُرصةِ ويُبادرُونَ لالتقاطِها واقتناصِها وتوظيفِها والإِستثمارِ فيها، كذلكَ فإِنَّ الفُرصةَ هي الأُخرى تبحثُ عنهُم وتلتقطهُم بعنايةٍ فائقةٍ كما يلتقطُ الطَّيرُ الحبَّ الجيِّد من الحبِّ الرَّديء!.
فليسَ كُلُّ مَن ظنَّ بنفسهِ القُدرةَ على اغتنامِ الفُرصةَ أَو أَنَّهُ يصلَح لها نجحَ! كما أَنَّهُ ليسَ كُلُّ مَن ظنَّ بنفسهِ العجزَ أَو أَنَّهُ لا يصلَح لها ضاعَت عنهُ، أَبداً، وهذهِ عاشوراء أَمامنا تجربةً عظيمةً إِلتقطَت المُتميِّزينَ والذينَ ظنُّوا بأَنُسهِم سوءاً على حدٍّ سواء، ولعلَّ في تجربةِ القائِد العسكري [الأَموي] الحُر بن يَزيد الرِّياحي خيرُ دليلٍ خلَّدهُ التَّاريخ.
فعندما تركَ الحُرُّ الكوفةَ على رأسِ قوَّةِ [الصَّفوَة] يحملُ أَوامر مُشدَّدة بمنعِ الحُسين السِّبط (ع) من الوصُولِ إِلى الكوفةِ بأَيِّ ثمنٍ لم يكُن يدُر في خلدهِ أَبداً بأَنَّهُ سينقلِب رأساً على عقبٍ وتتغيَّر عاقبتهُ ويتحوَّل كُلَّ هذا التحوُّلِ العظيم الذي نقلهُ من جبهةِ الباطلِ إِلى جبهةِ الحقِّ في قصَّةٍ رائعةٍ وموقفٍ نادرٍ.
لقد نقلَت عاشوراء الحُرَّ من [عبوديَّة السُّلطة] إِلى [حريَّة الرَّأي والمَوقف والإِختيار] في لحظةِ تفكُّرٍ وتأَمُّلٍ خلَت من الهوى والعواطفِ والمصالحِ وذلكَ هوَ الدَّرس العظيم الذي يجِب أَن يضعهُ [عبيدُ السُّلطةِ والجاهِ والمالِ] نصبَ أَعينهِم، حتَّى لا يقطعُوا الأَمَل ولا يسترسِلوا معَ الذَّنبِ ولا ينسَوا أَنفُسهُم (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فكما نجحَ الحرُّ في تغييرِ حياتهِ في لحظةٍ تاريخيَّةٍ مُناسبةٍ، فأَنتَ كذلكَ [يا عبدَ السُّلطة] ستنجَح وتُحقِّق الإِنتقالة إِذا تسلَّحتَ بالإِرادةِ الفذَّةِ للحظةٍ واحدةٍ تتجرَّد فيها عن كُلِّ شيءٍ وتستحضِر شيئاً واحداً فقط هو [حُسنَ العاقِبة] فتفكِّر فيها بالدُّنيا وابتلاءاتِها وأَنَّها ستنتهي قريباً والآخرة وما ينتظركَ فيها، شريطةَ أَن تصدُق مع نفسِكَ ومعَ الله تعالى فلا تُبرِّر ولا تتذرَّع أَو تتحجَّج كما فعلَ القائِد الأَموي الآخر [عُمر بن سعَد] الذي فتحَ الحُسين السِّبط (ع) أَمامهُ كُلَّ الأَبواب المُغلقة في ذهنهِ فضمِنَ لهُ كُلَّ ما ظنَّ أَنَّهُ سيخسرهُ إِذا انقلبَ على السُّلطةِ الغاشِمةِ لينقُلهُ (ع) من الضَّلالِ إِلى الهُدى إِلَّا أَنَّهُ أَبى لضَعفِ إِرادتهِ أَمامَ تحدِّي السُّلطة والمُلك الذي لم ينلهُ!.
لقد التقطَت عاشوراء رِجالها واحِداً واحِداً عندما رأَتهُم مُستعدِّينَ وجاهزِينَ لتحمُّلِ المسؤُوليَّةِ واغتنامِ الفُرصةِ، أَمَّا الذينَ كانت (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ) وكانُوا مشغولينَ بالتَّبويقِ للسُّلطةِ الغاشمةِ من الذين أَلهتهُم الدُّنيا عن الفُرصةِ التاريخيَّةِ وانشغلُوا بلحسِ بقايا موائدِ الظَّالمينَ فهؤُلاء [إِنشغلَت] عنهُم عاشوراء فوقتُ الفُرصةِ ضيِّقٌ وأُفُقها محدُودٌ لم تنتظر أَحداً لم يشأ أَن ينتبهَ لها!.
تُحدِّثُنا عنهُم الآيةَ الكريمةَ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) فمثلهُم تشيحُ عاشوراء بوجهِها عنهُم (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّوَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَبِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).
لقد التقطت عاشوراء (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ) والصِّدقُ أَعظم خِصال المُتميِّزينَ، فهوَ الذي يستنزِل النَّصر الحقيقي كما يقولُ أَميرُ المؤمنِينَ (ع) (ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا؛ أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَه كَأْسَ الْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه).
ونخطأُ عندما نفهَمُ صفات رِجال عاشوراء بالمَعنى الحرفي الضيِّق لكُلِّ ميزةٍ، فنُجزِّء الصِّدقَ مثلاً أَو نفهَم الشَّجاعة على أَنَّها البطُولة التي تتجلَّى في العبَّاسِ بنَ عليٍّ (ع) عندما يُمسِك بمقبَضِ السَّيفِ في المعركةِ!.
هذا الفهمُ ظلمٌ للشَّجاعةِ وظلمٌ للعبَّاسِ (ع).
فالشَّجاعةُ بهذا المَعنى يتميَّز بها كثيرُونَ، أَمَّا الشَّجاعة الحقيقيَّة فهيَ التي تتجلَّى في كُلِّ لحظةٍ من حياةِ البطلِ وفي كُلِّ الحالاتِ، وإِلَّا؛ بماذا تنفعهُ الشَّجاعة في المَيدانِ إِذا كانَ جباناً أَمامَ إِغراءات الجِنس والمال العام والسُّلطة؟! ماذا يستفيدُ من الشَّجاعة في ساحاتِ الوغى أَذا كانَ ضعيفاً في قَولِ الحقِّ وفي لحظةِ الدِّفاعِ عن حقُوقِ المظلُومينَ؟! ماذا تعني الشَّجاعة في الحربِ إِذا كان مُتخاذلاً في السِّياسةِ يفرِّطُ بحقوقِ أَهلهِ ولا يضحِّي من أَجلِ الدِّفاعِ عن دماءِ النَّاسِ وحمايةِ أَعراضهِم ومُمتلكاتهِم؟! ما معنى أَن يكُونَ شُجاعاً عندما يخطُبُ في النَّاسِ أَمامَ الشَّاشةِ جباناً مُنهاراً خلفَ الشَّاشةِ؟!.
ماذا تسمي [الشُّجاع] على أَهلهِ وعيالهِ يستعرِض عليهِم عضلاتهِ، الجبان المُتخاذِل مع الفاسدينَ الذين يتحكَّمُونَ بمصيرِ البلادِ ويستحوذُونَ على خيراتِ البلادِ ويمنعُونهُ حقوقهُ كمُواطن؟!.
كيفَ تصِفُ الشُّجاع على المنبرِ وفي البرامجِ الإِستعراضيَّة، الجبانُ في حضرةِ السُّلطانِ الفاسدِ والظَّالمِ؟!.
كذلكَ النَّزاهةُ التي يجب أَن تكونَ جُزءاً من شخصيَّةِ الإِنسانِ وليست حالةً طارئةً أَو مُجبراً عليها بسببِ الرَّقيبِ والحسيبِ مثلاً.
لا ينفع أَن تكونَ نزيهاً معَ أَموالِك الخاصَّة ولُصّاً مع المالِ العامِّ! نزيهاً في فقرِكَ فاسِداً في غِناكَ! صادِقاً في السرَّاء كذوباً عندَ الشدَّة!.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّه فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ).
نحنُ بأَشدِّ الحاجةِ إِلى أَن نُعيدَ النَّظر بكُلِّ ما نفهمهُ من صفاتِ رجالِ عاشُوراء وما تميَّزُوا بهِ (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).