المسيرة الحسينية: نظرة في دواعي المسير ومآلاتها
د. لطيف القصاب
2025-07-13 03:31
ماذا لو انتصر الإمام الحسين عليه السلام في معركة الطفّ، ما هو السيناريو المتوقع لصورة الحكم حينئذ؟
أغلب الظن أن المشهد العام للحكم والسياسة سيكون مطابقا لحكم الإمام علي عليه السلام، بمعنى أن العراق بمصريه الكوفة والبصرة سيكون مضطربا ممزق الولاء، وسيلجأ الإمام الحسين إلى اتخاذ إجراءات إدارية، وسياسية مماثلة لإجراءات أبيه في تعامله مع ولاة هذين المصرين، وأغلب الظن أن صراعا مسلحًّا سينشب في الجبهة الحجازية لوجود (عبد الله بن الزبير) فيها، وما تضمه تلك الصحراء مترامية الأطراف من قبائل متقلبة المزاج تبعا لتغير مصالحها. أما أهل الشام، وهم الموالون التقليديون لبني أمية، فلن ينصاعوا بسهولة لحكم الحسين عليه السلام، لاسيما مع وجود خزين ثرّ من الأنصار، والحلفاء بحكم علاقات الصداقة التي أقامها معاوية والد يزيد مع جواره الإقليمي من روم مسيحيين أو وثنيين معادين بطبيعتهم للإسلام بنسخته الأصيلة التي يمثلها الحسين بطبيعة الحال، وعليه فمن المحتمل أن تندلع – بعد انتصار الحسين- موجة عاتية من الاضطرابات والفتن والحروب في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي لا تقل في ضراوتها عن تلك التي طبعت الحقبة العلوية، وستنتهي حياة الحسين عليه السلام بعد مضي فترة وجيزة بوفاة طبيعية أو بحادثة اغتيال وهو الاحتمال الأرجح نظرا لكثرة أعدائه عليه السلام من خارج معسكره وداخله، وأغلب الظن أن الأمور ستؤول عاجلا أو آجلا إلى حكم بني أمية سواء أكان الحاكم يزيد نفسه أو أحد نظرائه ممن لا يقلّ عنه فسادا واستبدادا، وسوف يعيش الناس عهدا طويلا يكونون فيه إما آمنون منعمون، وهم المطيعون المذعنون، وإما مطاردون محرمون وهم رافضو الإذعان والطاعة العمياء.
لو آلت مقاليد الحكم للحسين عليه السلام لأتيح لعامة الناس لبعض الوقت مجالٌ رحب للنقد والمساءلة وفقا لمبدأ علي عليه السلام: ((فلا تكفّوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطئ))، ولحظيت الفئات المحرومة، وهم (الطبقة السفلى) بحسب تعبير الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر، لحظيت هذه الطبقة بأعوام أخرى من رخاء الحقوق والحريات، ثم الخضوع بعد ذلك ثانية لحكم الفساد والاستبداد واضطهاد الحقوق والحريات!
إن الفكرة التي أروم تبيانها في هذه السطور تتلخص في أن الظروف في زمن نهضة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مؤهلة لإقامة دولة قوية تدوم لردح طويل من الزمن، لكنها كانت صالحة قطعا ويقينا لانتاج ثورة عظيمة تظل نبراسا دائما يضيء الطريق أمام دعاة التحرر والانعتاق من ربقة الجور والجائرين، وفي البيانات (الجماهيرية) العديدة التي صاحبت الثورة الحسينية ما يمكن الاستدلال به بسهولة على أن الحسين عليه السلام كان متيقنا من حتمية أن النصر العسكري لن يكون في متناوله، فمع كل نبأ لمصرع أحد أنصاره ابتداء باستشهاد (مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة) وغيرهما كان الإمام الحسين عليه السلام ينهج نهج تخيير من حوله بين إمرين لا ثالث لهما: إما الرحيل عنه طلبا للسلامة أو البقاء معه طلبا للشهادة!
ويحدثنا التاريخ بأن المجاميع التي رافقت مسيرة الحسين عليه السلام بقصد حصد المكاسب والمغانم سرعان ما تفرقوا عنه حين علموا بأن الاستمرار في الرحلة سيفضي بهم إلى القتل في نهاية المطاف! ولم يصمد من تلك الحشود التي كانت تسايره من ماء إلى ماء -بتعبير بعض الرواة- إلا أعداد قليلة من أهل بيته، وخلّص رفاقه كما هو معروف.
لقد كان أقصى مراد الحسين عليه السلام بثورته الفذّة تلك أن يكون هو ورفاقه مشاعل خالدة تنير دروب الكرامة والحرية أبد الآبدين، وأن يكون هو ورفاقه (الماكنة) التي تحرّك كوامن الضمير الإنساني حين تضمر مشاعر رفض الفساد والاستبداد لهذا السبب أو ذاك، وهكذا كان بإذن الله، وبحسب هذه المعادلة التي يمثل طرفيها الإنسان والإله سيظل خيار السير في ركاب الحسين متاحا إلى النهاية، ليس على مستوى الوقوف بوجه حكومة فاسدة، أو حاكم فاسد فحسب، بل حتى على مستوى محاولات التصدي لظواهر فاسدة، أو شخصيات فاسدة!
ولكن ليدرك هذا المختار لهذا الخيار جيدا بأن نموذج الحسين الذي هو بصدد الأخذ به وفي أي مستوى من المستويات السابقة لن يكون محفوفا غالبا إلا بظروف عصيبة تماثل بقدر أو بآخر ظروف الثورة الحسينية الأولى، بمعنى أن الحسيني (حاضرا ومستقبلا) عليه أن يتوقع الخذلان من أقرب الناس إليه لا لشيء إلا لأنه سار على خطّ الحسين، وأنه سيلقى مصيرا مأساويا في أغلب الاحتمالات (كضريبة) لهذا السير، وأن يكون مستعدًّا تماما للرضا بمصير كهذا إذا قرّر في لحظة من يقظة ضمير أن يسجّل اسمه فعلا في معركة حسينية ما.