تمكينَ الله تعالى لعبادهِ الصَّالحينَ

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (١٢)

نـــــزار حيدر

2024-08-10 05:41

نعودُ للسُّؤَالِ؛ هل يحقُّ للصَّالحِ أَن يسعى للحكومةِ؟! أَم أَنَّها حِكرٌ على الطَّالحين؟!.

 هل كتبَ الله تعالى على عبادهِ الصَّالحينَ أَن يعيشُوا دائماً تحتَ [ولايةِ] الطَّالحينَ وهوَ القائِلُ في مُحكمِ كتابهِ الكريم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} و {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؟!.

 إِنَّ أَفضلَ وأَدقَّ جوابٍ يُمكِنُ أَن نسوقهُ على هذا السُّؤَال هو مِن خلالِ التَّجاربِ التي حدَّثنا عنها القُرآن الكريم. 

 فأَنبياءُ الله ورُسلهُ على نَوعَينِ بإِزاءِ سعيهِم للحُكومةِ؛

 النَّوع الأَوَّل؛ هو الذي حدَّثنا عنهُ القُرآن الكريم بأَنَّ الله تعالى أَعطاهُ الحُكمَ، من دونِ أَن يُشيرَ ما إِذا كان قد طلبهُ فأَعطاهُ الله أَم أَنَّ الله تعالى أَعطاهُ الحُكمَ من دونِ أَن يطلبَهُ، كما في قولهِ تعالى في الآياتِ الكريماتِ التَّاليةِ؛

 عن نبيَّ الله يحيى (ع) يقولُ تعالى {يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.

 وعن الرُّسل والأَنبياء عامَّة {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}.

 وعن نبيَّ الله داوُود (ع) يحدِّثنا عزَّ وجلَّ بقولهِ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.

 وعن رسولِ الله (ص) يقولُ تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} و {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚوَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} و {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} و {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.

 النَّوع الثَّاني؛ هُم الذينَ طلبُوا الحُكمَ بأَنفسهِم، بشَكلٍ مُباشرٍ أَو بالواسطةِ، فأَعطاهمُ اللهَ تعالى، وقد قصَّ علينا القُرآن الكريم حالتَينِ من هذا النَّوعِ، الأُولى؛ هي حالة نبيَّ الله سُليمان (ع) بقَولهِ عزَّ وجلَّ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ* وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ* هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

 وفي نفسِ السِّياقِ {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}.

 الثَّانية؛ هي حالة نبيَّ الله يوسُف (ع) كما يروِيها القرآن الكريم بقولهِ تعالى {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

وفي الآيةِ لفتُ نظرٍ إِلى أَنَّ تمكينَ الله تعالى لعبادهِ الصَّالحينَ من الحكومةِ [رحمةٌ] والعكسُ هوَ الصَّحيحُ فـ [تمكينُ] الطَّالحينَ منها نقِمةٍ، كما وردَ في الحديثِ القُدسيِّ {الظَّالمُ سيفي أَنتقِمُ بهِ وأَنتقِمُ منهُ} أَو كما وردَ في الآيةِ الكريمةِ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. 

 أَمَّا في السِّيرةِ النبويَّةِ فلقد سعى رسولُ الله (ص) للحُكمِ وهوَ في طريقهِ للمدينةِ المنوَّرةِ مُهاجراً لها من ظُلمِ قُريش في مكَّةِ المُكرَّمةِ.

 ولقد بانت أُولى إِرهاصات هذا السَّعي من خلالِ طلبهِ البيعةَ من الأَنصارِ وفي أَكثرِ من مَوقعٍ منها [بَيعةُ العَقبةُ الأُولى] و [بَيعةُ العقبةُ الثَّانية] وآخرها وأَهمَّها وأَعظمها هي [بيعةُ الرِّضوان] والمعرُوفة بـ [بيعةِ الشَّجرةِ] التي حدَّثنا عنها القُرآن الكريم بقولهِ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقولهُ تعالى {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.

 ومن الواضحِ فإِنَّ البيعةَ ببُعدَيها الدِّيني والسِّياسي [الإِلهي والدِّنيوي] تُشكِّلُ توطِئةً أَو مُقدِّمةً ضَروريَّةً للحكُومةِ، كما هوَ الحالُ اليَوم في الإِنتخاباتِ التشريعيَّةِ أَو التنفيذيَّةِ في بلادِ العالَمِ.

 كما أَنَّ [صحيفةَ المدينةِ] وهي الوثيقةُ التي دوَّنها رسولُ الله (ص) لتنظيمِ العلاقاتِ بينَ مُكوِّنات المُجتمع وعلى مُختلفِ الأَصعدةِ السياسيَّةِ والإِقتصاديَّةِ والإِداريَّةِ والإِجتماعيَّةِ، دليلٌ واضِحٌ من أَدلَّةِ سعي رسولِ الله (ص) للحكُومةِ.

 نأتي الآن إِلى أَميرِ المُؤمنينَ (ع) فكلُّنا نعرف فإِنَّ [بَيعةَ الغَدير] التي أَخذها لهُ رسولُ الله (ص) من المُسلمينَ والتي نزلَت فيها الآيات الكريمات {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ} حمَلَت كذلكَ البُعدَينِ [الدِّيني والدُّنيَوي] الأَوَّل [الإِمامة] والثَّاني [الخِلافة] [الحكُومة] الأَوَّلُ الذي لم يكُن لأَميرِ المُؤمنينَ (ع) فيهِ خَيارٌ فيتنازلَ عنهُ مثلاً أَو يتهرَّب مِن مسؤُوليَّتهِ لأَنَّ الإِمامةَ جعلٌ إِلهيٌّ كما أَخبرنا بذلكَ القُرآن الكريم {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.

 أَمَّا البعدُ الثَّاني فيُمكِنُ أَن يتصرَّفَ بهِ الإِمام إِذا وجدَ أَنَّ الظُّرُوفَ لا تسمح لهُ بالتصدِّي لهُ وتحمُّلِ مسؤُوليَّتهِ، وهذا ما حصلَ بالفعلِ لأَميرِ المُؤمنِينَ (ع) إِبتداءً وكذلكَ لبقيَّةِ أَئمَّةِ أَهلِ البيتِ (ع) فيما بعدُ.

 ففي الفترةِ التي يكُونُ فيها الإِمامُ خارِجَ السُّلطةِ [الخِلافة] أَو [الحكُومة] فإِنَّ ذلكَ لا يخدُشُ في إِمامتهِ قيدَ أَنمُلةٍ، ولذلكَ قالَ رسُولُ الله (ص) {الْحَسَنُ وَالْحُسَينُ إِمَامَانِ قَاما أَوْ قَعَدا}.

 وعندما يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) لعَبْدِ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ عندما دَخَلَ عَلَيهِ بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟! قالَ لهُ: لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع {واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا} فهو (ع) لم يقصُد الإِمامة، والعِياذُ بالله، وإِنَّما قصدَ الخِلافةَ [الحكُومةَ].

 وأَخيراً؛ فإِنَّ [المُخلِّص] في آخِرِ الزَّمانِ حسبَ التَّسمياتِ المُختلِفةِ لأَتباعِ الأَديانِ والمذاهبِ، وعِندنا نحنُ شيعةُ [أَهلُ البيتِ (ع)] هو الإِمامُ الثَّاني عشَر الحُجَّةَ بن الحسنِ المهديِّ (عج) سيسعى بإِذنِ الله تعالى في إِقامةِ حكومةِ الحقِّ والعدلِ والكرامةِ الإِنسانيَّةِ حسبَ قاعدَةِ [يملأُ الأَرضَ قِسطاً وعدلاً بعد أَن مُلِئَت ظُلماً وَجَوراً].

فلقد أَخذَ الله تعالى عهداً على نفسهِ بتحقيقِ ذلكَ لعبادهِ الصَّالحينَ، كما وردَ ذلكَ في قَولهِ عزَّ وجلَّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.

يتبع...

ذات صلة

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيشالدفاع عن حقوق المرأة في منهج الصديقة الزهراءانسحاب قطر من جهود الوساطة لإنهاء الحرب في غزة وفشل المفاوضاتإمكان إزالة الغضب وطرق علاجهمرة أخرى، كان الاقتصاد هو السبب يا غبي