دَلِيلُ الصِّدق
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ التَّاسِعةُ [١٦]
نـــــزار حيدر
2022-09-20 07:35
لا تُميِّز بين الصَّادق والدجَّال بالخطاباتِ فكلاهُما يحرص على أَن يكونَ خطابهُ [مُقدَّساً].
ولا تُميِّز بين صاحبِ القضيَّة والتَّاجر بالقضيَّة بطبيعةِ الوعُودِ والعهُودِ فكلاهُما يبذل جُهدهُ لتكونَ من النَّوع الذي يَسيلَ لها لُعابَ المُتلقِّي!.
إِنَّما مِقياسُ التَّمييزِ في ثلاث؛
البصيرةُ {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} و {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}.
الإِستقامةُ {فَلِذَٰلِكَ فَٱدْعُ ۖ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} و {فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
النِّهايات {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ وَالِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَاخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَحَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ}.
فالذي يمتلكُ البصيرةَ يعني أَنَّهُ يمتلك رُؤيةً إِستراتيجيَّةً بعيدةَ المدى يكونُ قد هيَّأَ لها التكتيكات والأَدوات حسبَ المراحل التي تمُرُّ بها مسيرتهُ وظرُوفَها على مُختلفِ المُستويات.
فكيفَ نعرفُ أَنَّهُ يمتلكُ رُؤيةً إِستراتيجيَّةً؟!.
نعرفُ ذلكَ من طريقتهِ في الإِنتقال من مرحلةٍ إِلى أُخرى، فإِذا كانَ الإِنتقالُ واضحاً وطبيعيّاً وغَير مُتقلِّبٍ أَو مُستعجِلٍ فهوَ كذلكَ، أَمَّا إِذا كانَ مُتقلِّباً كثيراً ومُتردِّداً أَكثر ومشغُولاً بالتَّكتيكات فتأَكَّد بأَنَّهُ لا يمتلك البصيرة، أَي أَنَّهُ لا يمتلك رُؤيةً إِستراتيجيَّةً ومن أَيِّ نَوعٍ كانَ.
وإِنَّ مِن أَكثرِ الأَدلَّة وضُوحاً على تضييعِ المرءِ للبَوصلةِ عندما لا يمتلك البصيرة، هو توقُّفهُ في مُنتصف الطَّريق أَو إِنقلابهُ أَو تغييرهُ.
فهو ينقلبُ بمجرَّد أَن يحصلَ على ما لم يكُن يتوقَّعهُ [السُّلطة مثلاً أَو المال الوفير] أَو يُغيِّر ويُبدِّل إِذا دخلَ في تنافُسٍ شديدٍ على أَمرٍ ما لم يكُن ضمنَ حساباتهِ، فينسى دينهُ ويتمرَّد على التزاماتهِ، وهكذا!.
أَمَّا صاحب الرُّؤية فلا يفكِّر في الإِلتزام بالمُثابرة والإِستمراريَّة فحسب وإِنَّما في طبيعةِ هذهِ المُثابرة، والتي نطلق عليها الإِستقامة، فلا يكفي أَن تستمرَّ في الطَّريق فتحُثَّ الخُطى وإِنَّما المُهم كيفَ تستمر؟!.
وهذا يجرَّنا إِلى استنتاجٍ آخر وهو الأَهم، أَلا وهوَ النِّهايات، فإِذا كانت خُططك الإِستراتيجيَّة تنتهي إِلى الغايةِ (أ) ثمَّ انتهت إِلى الغايةِ (ب) فهذا لا يعني أَنَّك سِرتَ على البصيرةِ التي كُنتَ تمتلكها لحظة الإِنطلاقة، أَبداً، إِنَّما انشغلتَ عنها وطمِعتَ فتِهتَ!.
إِنَّ قيمةَ الإِنجازِ لا تُقاسُ بالزَّمنِ المبذُولِ أَو الجُهد ِالعقلي أَو العضلي أَو حجمِ التَّضحيةِ، وإِنَّما بنَوعهِ [فائدتهُ وتأثيرهُ وحضُورهُ في عمليَّة التَّغييرِ والإِصلاحِ والنُّهوضِ الحَضاري]!.
صحيح أَنَّ الوصول إِلى الغايةِ (ب) يعني عملَّياً أَنَّك واصلتَ المسير ولم تنقطع خُطاك، لكنَّهُ لا يعني أَبداً أَنَّك حقَّقت الغاية المرجُوَّة من البصيرةِ التي ظننتَ أَنَّك تمتلكها في بدايةِ المسيرِ.
خُذ مثلاً على ذلكَ؛ أَنَّك رسمتَ خُطَّةً لتنطلقَ بها مِن الفاو لتصلَ إِلى زاخو، لكنَّكَ بعد يومَينِ وصلتَ إِلى حمَّام العليل، فماذا يعني ذلكَ؟!.
صحيح أَنَّكَ بذلتَ جُهداً ومالاً ووقتاً لكنَّكَ لم تصل إِلى الغايةِ التي رسمتَها في الخُطَّة وإِنَّما وصلتَ إِلى مكانٍ آخرَ لا عِلاقةَ لهُ بخُططِكَ ولم يكُن قد أَدرجتهُ في حساباتِكَ!.
هكذا هو الإِنسان الفرد والإِنسان المُجتمع الذي لا يمتلك بصيرةً ولا يُحدِّد غاياتهِ ولا يُثابر من أَجلِ الوصُولِ إِليها.
هو يُضحِّي كثيراً ويبذل من المالِ والعُمر والرَّاحة وكُلَّ شيءٍ، لكنَّهُ لم يصل إِلى غاياتهِ المرجُوَّةِ!.
إِنَّ عاشوراء تُعلِّمنا كيفَ نبني الرُّؤية بامتلاكِ البصيرةِ، وكيفَ نستقيم عليها لنُحقِّق الغايةَ منها، فلا نستسلمَ للمظاهرِ ولا نُصدِّق الوعُود التي نسمعها من الفاسدينَ والفاشلينَ ولا نستسلمَ لعواطفِنا فنُصفِّق لفاسدٍ إِذا رأَيناهُ يخوطُ في [قِدر القيمةِ] يوم [الأَربعين] أَو تقمَّصَ زيَّ الزائرين ليندسَّ في صفُوفِ السَّائرينَ إِلى مرقدِ أَبي عبد الله الحُسين السِّبط (ع) ولا يُضلِّلُنا زيٌّ وانتماءٌ وعُنوانٌ وتاريخٌ!.
علَّمتنا كربلاء أَنَّ الإِستقامة أَهم من الإِنطلاقة، والمُثابرة أَهم من البداية وأَنَّ أَداة كُلَّ ذلكَ هو الصَّبر كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقولهِ {فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الْآباءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْقَرَابَاتِ فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلَّا إِيمَاناً وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ وَتَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ}.
كما علَّمتنا عاشوراء أَنَّ المُتهالك على السُّلطة لا يُحقِّق شيئاً في الدُّنيا والآخِرة، وأَنَّ الطمَّاع اللَّاهث وراءَ مصالحهِ الخاصَّة على حسابِ الصَّالحِ العام سترميهِ أَفعالهُ في مزبلةِ التَّاريخِ، وأَنَّ الذي يُبرِّر للفاسدِ والفاشلِ وهو يعرف كُلَّ ذلكَ سيُحشَر معهُ في الآخِرة وسيمُرَّ على لسانِ النَّاسِ معهُ بالسُّوءِ والذَّم.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ وَلَا يُضَارِعُ وَلَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
عَّلَّمتنا كربلاء أَنَّ الحياةَ مَوقِفٌ، يستعبِدُ الأَحرارَ ويُحرِّرُ العبيدَ!