القائد في النظرية الإلهية: الإمام الحسين نموذجاً
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2021-08-16 07:53
مقدمة
في هذا العصر الرقمي يبرز بشكل جوهري مسألة حيوية وفي غاية الأهمية نحاول أن نتناولها في هذه السلسلة من المقالات المختصرة في هذا الموسم الحسيني العاشورائي مستهدين من السبط العظيم سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) سيرته الوضاءة ونهضته المباركة التي غيَّرت وجه التاريخ، فكان ما بعد عاشوراء غير ما قبلها في المسيرة الإنسانية.
إنها مسألة (القيادة) بمعناها العام، ثم بالمعنى الديني والقرآني التي تمثَّلها الإمام الحسين (ع) بشخصه الكريم وقيادته الحكيمة لتلك النهضة التي أعطت الإنسانية دروس العزة والكرامة، وللأمة مبادئ العقيدة والشهادة والإصلاح في كل المجالات، لا سيما الدينية، والفكرية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والإدارية، والاجتماعية، وغيرها من المجالات الضرورية والحيوية.
معنى القيادة العام
قالوا في تعريف القيادة: "أنها قدرة الفرد في التأثير على شخص، أو مجموعة وتوجيههم وإرشادهم من أجل كسب تعاونهم وتحفيزهم على العمل المشترك بأعلى درجة من الكفاءة في سبيل تحقيق الأهداف المرسومة، والموضوعة".. وقيل: هي قدرة تأثير شخص ما على الآخرين حيث يجعلهم يقبلون قيادته طواعية ودونما إلزام قانوني".
فالقيادة بالمعنى العام: "هي العمل مع الآخرين والتأثير فيهم لتحقيق أهدافك"، أو هي "فن سوق الناس إلى الهدف"، فالقيادة هي حالة ساحرة من الإندفاع بحرية، والنشاط والحيوية، لا تعرف عمراً محدداً، أو مرحلة معينة بل تعرف الهمَّة العالية، والنشاط الهادف.. فالقيادة هي روح إن سكنت جسداً حوَّلته إلى شُعلة تُضيء ولا تنطفئ وإن انسلَّت من جسد جعلته كالرَّميم مريضاً متعباً متذمِّراً". (أسرار القيادة عند أمير المؤمنين (ع) جميل كمال: ص37 بتصرف)
عناصر القيادة
يجب أن تتوفر أربعة أركان في مسالة القيادة لا يمكن أن تقوم بدونها فهي كأعمدة البناء هي:
1- القائد (الإنسان الخاص والمميَّز).
2- المَقود (الجماعة التي تُقاد).
3- الشخصية القيادية (عملية التأثير) أو ما يُطلق عليه كاريزما.
4- الهدف المشترك التي يسعى الجميع للوصول إليه.
والواقع الذي نعيشه من التعقيد نعرف جميعاً أن هناك أنواعاً كثيرة من القيادة تبدأ من الرأس بما يسمى القيادة السياسية، والاقتصادية، والإدارية، والدينية، وأهمها على الإطلاق القيادة العسكرية التي لها مواصفاتها الخاصة، ومقوماتها، وضوابطها التي قد نتطرق إليها أكثر من غيرها لأننا في صدد الحديث والبحث عن معركة غيَّرت وجه التاريخ الإسلامي وربما الإنساني جرت في العاشر من محرم الحرام على أرض كربلاء في يوم خالد يُسمى عاشوراء سيد الشهداء (ع).
وربما الأجدر بأن تُسمى غير القيادة العسكرية بالإدارات وليس بالقيادات، وذلك لأن هناك فرقاً بين الإدارة والقيادة لم ينتبه إليه الكتاب والأعلام، لأن الإدارة علم، وأما القيادة فهي هبة وفن، فأنت إذا درست في المؤسسات التعليمية أصول الإدارة فإنك تعرف الأصول النظرية ولكن لن تستطيع أن تدير بسهولة هذا عدا عن أن تقود بنفس الطريقة التي تعلمتها.
فالإدارة: هي تنظيم وتنسيق الإمكانيات المادية والبشرية لتحقيق هدف المؤسسة، أو هي عملية التأثير في نشاط الأفراد وسلوكهم لتحقيق هدف مشترك بينهم..
أما القيادة العسكرية: فهي فن التأثير في المرؤوسين، وتوجيههم نحو الهدف بطريقة تحوز بها على ثقتهم، وطاعتهم، وإحترامهم، وولائهم، وتعاونهم لتحقيق النصر كهدف أساسي للمعركة، ولها نوعين هما؛ إقناعية بحرية ومحبة وانضباط، وآمرية عسكرية مستبدة بالقرار والتنفيذ.
القيادة في القرآن الحكيم
لم ترد كلمة القيادة ولا مشتقاتها في القرآن الحكيم ولا مرة واحدة (قاد، يقود، قود)، ولكن ورد بمادة (قدو) حيث تحدَّث عن القدوة بخصوص رسول الله المصطفى (ص) وأبونا إبراهيم الخليل (ع) والمؤمنين الصالحين، ولكن وردت في عدة معاني كلها نستفيد منها معنى من معاني القيادة أهمها: (الإمامة، والخلافة، والحكم، والملك، والأسوة، والقدوة).
هذه اللفاظ وردت في القرآن الحكيم كلها وفي أكثر من موضع وهي تحمل بعض معاني القيادة ولكن الله سبحانه في كتابه الحكيم يُعطينا مثالاً رائعاً، وله مغازي كبيرة في التشخيص الحقيقي لمعنى القيادة ومبناها بحسب النظرة الإلهية للبشر ولهذا الإنسان الضعيف إلا أنه متغطرس وناكر للجميل، وجاحد للحق الذي يريده الله منه.
طالوت ملكاً قائداً
مما لا شك فيه؛ أن تحديد صيغة (القيادة الدينية العليا) هي من أهم وظائف المبدأ الذي يتكفَّل بمسؤولية إسعاد الإنسان، يبني حضارته، وذلك لأن القيادة تعكس حضارة الأمة، وتُبرز روح نظامها كما تُعطي فكرة جامعة عن فلسفتها في الحياة.. مضافاً إلى أنها تضمن انطلاقة الأمة، واستقامة مسيرتها في الحياة الدنيا وفق النظام والقانون (التشريع) الإلهي لها.
وبما أن الإسلام العظيم؛ هو المبدأ الذي تكفَّل بتربية وإسعاد الإنسان، وتحمَّل مسؤولية إصلاحه وإصلاح الدنيا من وحوله، بقيادة ربانية حكيمة، ولكن أين نجد المثال والنموذج للقيادة فيه؟
تلك هي قصة طالوت التي حكتها آيات سورة البقرة المباركة حيث قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247)
والتأمل في هذه الآية المباركة نجد مواصفات القائد الرَّباني الناجح في القيادة، والفاتح المنتصر في المعارك الحضارية مهما كانت القوة المعادية، ومن تلك المواصفات في القيادة الناجحة:
1- تبليغ النبي لقيادته وملكه؛ (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا).
2- الاصطفاء الإلهي للقائد؛ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ).
3- بسطة العلم، فالقائد يجب أن يكون عالماً؛ (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ).
4- سلامة الجسم وقوته فيجب أن يكون القائد سليماً وقوياً في جسده (وَالْجِسْمِ).
5- القيادة والملك عطاء رباني، وهبة إلهية؛ (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ).
هذه الشروط الخمسة التي يجب أن تكون في القائد والملك الذي يختاره الله ويرتضيه لقيادة الأمة في معاركها المصيرية، وحربها الحضارية لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فهي من الله، وفي سبيل الله، وإلى الله.
وهنا يجب أن نلاحظ دقة الاختيار والاصطفاء الإلهي لهذا القائد والذي يتمتع بتلك المواصفات الراقية التي تؤهله للنجاح والفوز والنصر في معاركه، والمقاييس البشرية الزائفة للقيادة والتي تُختصر بقولهم: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)، فقد ذكروا شرطين بشريين قاصرين بعد أن رفضوا قيادة ذاك الناجح، وهما:
1- الأنانية والذاتية، وهنا ظهرت ظاهرة الفرعنة (فرعون)؛ (نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)، ولا أدري فعلاً من أين جاؤوا بهذا الحق؟
2- توفر المال، وفيها تبدو ظاهرة القورنة (قارون)؛ (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ).
القيادة الحسينية في كربلاء
والناظر إلى القيادة في كربلاء المأساة الخالدة ومعركتها الحضارية المتجددة، من حيث القيادة نجدها وجدت في كلا المعنيين، الإلهي الرباني بكل شروطها الراقية وقد تمثلت في قيادة جيش الحق وقائده الإمام الحسين بن علي (ع) سبط رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة، وأما القيادة البشرية الأنانية فقد تمثلت في عمر بن سعد وجيشه والأوباش من شيعة آل أبي سفيان؛ والدليل على ذلك نسوقه سريعاً..
توفر شروط القيادة إلهية
ونستعرض الشروط الخمسة لنرى هل هي متحققة في شخصه الكريم صلوات الله عليه؟
1- تبليغ النبي الأكرم (ص) بإمامته وقيادته بقوله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)
2- الاصطفاء الإلهي له فهو من أهل بيت المصطفى الذين اصطفاهم الله واختارهم على العالمين بقوله تعالى: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ).
3- بسطة في العلم؛ وهو عيبة علم رسول الله، ووارث علم الأنبياء والمرسلين (ع).
4- قوة وسلامة الجسم؛ فلم يتحدَّث التاريخ أن الإمام الحسين (ع) كان مريضاً بل كان في غاية القوة والبطولة والشجاعة بحيث أنه واجه تلك الجموع والجيوش التي ملأت الصحراء في يوم عاشوراء فريداً وحيداً وقاتلهم وأرعبهم وكان يطردهم كالمعزى أمامه.
5- القيادة والملك الإلهي؛ وهذا من خيرة الله له في آية التطهير، والولاية، والإمامة الربانية لأنه امتداد والده العظيم أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين (ع).
هذه الشروط الخمسة في القيادة الربانية الناجحة ولكل شرط منها الكثير من الشواهد والروايات الشريفة ولكن نكتفي بهذه الإشارة السريعة هنا، علماً أن لفظ القيادة لم تروَ إلا عن والده العظيم أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وهي في سياق الحديث عن الفضائل العلوية التي جاءت على لسان الرسول الأكرم (ص) يقوله له: (أُوحي إليَّ في عليٍّ ثلاث؛ أنه سيِّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين) (المستدرك على الصحيحين ج3 ص137، ورواه أبو نعيم في أخبار اصبهان ج1 ص229 وابن الأثير في أسد الغابة ج1 ص69 وج 3 ص116 وابن المغازلي في المناقب ص105 رقم 147)
وروى أبو نعيم بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا أنس اسكب لي وضوء، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أنس، أول مَنْ يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، قال أنس: قلتُ: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته، إذ جاء عليٌّ فقال: مَنْ هذا يا أنس؟ فقلتُ: عليٌّ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليٌّ بوجهه، قال علي: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي قبل قال: وما يمنعني وأنت تؤدِّي عنِّي، تسمعهم صوتي، وتبيِّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (حلية الأولياء ج1 ص63. ورواه الخوارزمي في المناقب الفضل السابع ص 42، وابن عساكر تاريخ مدينة دمشق ج2 ص487 رقم 1005)
وروى الخوارزمي بإسناده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (يا علي أنت سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب الدِّين). (الخوارزمي في المناقب، الفصل التاسع عشر ص210)
وكثيرة هي الروايات في هذا الباب ويأتيك مَنْ يقول: أن رسول الله (ص) لم يوصِ أو لم يُحدد القيادة في الأمة الإسلامية من بعده، فأي شيء هي القيادة إذا لم تكن بهذه الصراحة المقامية والمقالية من الرسول الكرم (ص)، والإمام الحسين (ع) هو الوريث الشرعي لقيادة الأمة.
قيادة أنانية فاشلة (عمر بن سعد)
وأما قيادة طرف الباطل كله والذي تمثَّل بهذا الشخص المنكوس، والعبد المنحوس الذي جاء يحارب ابن عمِّه وأهله طمعاً بملك لم يصل إليه – كما اعترف هو بذلك – وفيه شروطه واضحة جلية لكل ناظر:
1- الأنانية بأبشع صورها، والتابعيَّة بأخسِّها؛ حيث بدأ القتال بوضع سهماً في كبد قوسه ورماه وقال: "اشهدوا لي عند الأمير أنني أول مَنْ رمى"، وهو يرمي سيده ومولاه.
2- المال والدنيا؛ فهو الذي قاد ذلك الجيش طمعاً بملك الرَّي كما هو معروف ومشهور.
القيادة الربانية
هي القيادة الربانية التي يختارها الله ويصطفيها من خلقه ويُبيِّنها ويُنصِّبها رسوله ونبيه، ويكون عالماً، وقوياً في نفسه وجسده، ويقوم على اسم الله لينقذ عباد الله من الجهالة، وحيرة الضلالة كما كان المولى أبو عبد الله الحسين (ع) في عاشوراء.