هل الميول الاخلاقية تعود لأسباب ثقافية؟

حاتم حميد محسن

2019-09-04 04:35

لنفرض ان شخص ما لايتفق اخلاقيا مع شخص آخر حول قضية معينة، مثل عدم الاتفاق حول فكرة ان وضع الانسان الاقتصادي يتقرر وفقا للثروة التي كانت معه عند الولادة. في مثل هذا النقاش، احد المتحدثين يعتبر نفسه صائبا في القضية بينما الطرف الاخر هو على خطأ. الطرف المقابل في الحديث يفترض ان الاول يرتكب حماقة. بكلمة اخرى، كلا الطرفين يفترضان ان احدهما فقط على صواب.

النسبيون يرفضون هذا الافتراض. هم يعتقدون ان الفكرتين الاخلاقيتين المتصارعتين كلتاهما على صواب. الاشتراكي المتطرف والرجل الآخر المخالف له في الرؤية كلاهما متساويان في الصواب، هما فقط يشغلان رؤية اخلاقية مختلفة.

تعرضت النسبية للنقد على نطاق واسع، انها هوجمت باعتبارها فكرة سخيفة وغير ناضجة وحتى غير منسجمة. الفلاسفة الاخلاقيون والثيولوجون وعلماء الاجتماع يحاولون تحديد القيم الموضوعية لكي يمكنهم التصدي لتهديد النسبيين، لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل. النسبية الاخلاقية هي عقيدة معقولة ذات مضامين هامة في كيفية التصرف اثناء حياتنا وتنظيم مجتمعاتنا والتعامل مع الآخرين.

آكلو لحوم البشر وزواج الاطفال

تختلف الاخلاق جذريا عبر الزمان والمكان. احدى المجموعات الخيّرة يمكن ان تكون مجموعة اخرى شريرة. انظر الى آكلي لحوم البشر وهي الحالة التي مورست من قبل جماعات في كل جزء من العالم. الانثربولوجي Peggy Reeves Sanday وجد دليلا على آكلي لحوم البشر في 34% من الثقافات. او انظر الى المباراة الدموية التي مورست في المسارح الرومانية والتي كان فيها الالاف من المشجعين المتحمسين يشاهدون اناسا منخرطين في معارك مميتة. القتل لأجل المتعة لوحظ ايضا بين الثقافات التي كانت تعتبر قطع الرأس كفعالية ترفيهية.

العديد من المجتمعات مارست ايضا اشكال متطرفة من التعذيب والإعدام، كما كان يحصل في اوربا قبل القرن الثامن عشر. وهناك ثقافات ترتكب أشكال مؤذية من تحوير وتعذيب الجسد، مثل قطع الجلد والاخصاء وتكبيل قدمي الفتاة وهي ممارسة استمرت في الصين لأكثر من الف سنة واستلزمت عذابا مؤلما للبنات الشابات. الاختلافات في المواقف نحو العنف يتوازى مع اختلافات في المواقف نحو الجنس والزواج. عند دراسة المجتمعات المستقلة ثقافيا، وجد الانثربولوجيون ان اكثر من 80% منها يجيز تعدد الزوجات. الزواج المرتّب شائع ايضا وفي بعض الثقافات يتزوج البعض من بنت لاتزال لم تنضج جنسيا او حتى اقل عمرا. وفي أجزاء من اثيوبيا، تتزوج نصف البنات قبل سن الخامسة عشرة.

بالطبع، هناك ايضا تشابهات ثقافية في الاخلاق. لا يمكن لجماعة معينة الاستمرار طويلا لو سمحت بهجمات غير مبررة على الجيران او لا تشجع تربية الاطفال. ولكن ضمن هذه القيود الواسعة، تقريبا كل شيء ممكن. بعض الجماعات تمنع الهجوم على البيوت المجاورة لكنها تشجع الهجوم على القرى القريبة. بعض الجماعات تشجع الآباء على ارتكاب وأد الاطفال، او استعمال العقوبة الجسدية ضدهم او إجبارهم على العمل الاجباري او العبودية الجنسية.

مثل هذه الاختلافات تحتاج الى توضيح. اذا كانت الاخلاق موضوعية الا يجب ان نرى اجماع كبير عليها؟ الموضوعيون يجيبون بطريقتين مختلفتين: اولاّ إنكار الاختلافات. بعض الموضوعيين يقولون ان الاختلافات الاخلاقية جرى تضخيمها كثيرا – الناس في الواقع، يتفقون حول القيم لكن لديهم معتقدات واقعية مختلفة او ظروف حياة تقودهم للتصرف بشكل مختلف.

فمثلا، مالكو العبيد ربما يعتقدون ان عبيدهم هم في مرتبة فكرية متدنية، وان الجماعات التي مارست الوأد ربما اُجبرت على ذلك بسبب نقص الموارد في مناطق التندرا الفقيرة. لكن من غير المقنع ان كل الاختلافات الاخلاقية يمكن توضيحها بهذه الطريقة. الاختلافات في المعتقدات وظروف الحياة نادرا ما تبرر السلوكيات قيد التساؤل. هل ان عقدة النقص لدى جماعة معينة تبرر حقا استعبادها؟ اذا كان ذلك صحيحا لماذا لا نعتقد انه من المقبول استعباد الناس ذوي المرتبة المتدنية؟ هل الحياة في مناطق التندرا تبرر الوأد؟ اذا كان الامر كذلك لماذا لانقتل الاطفال الفقراء حول العالم بدلا من منح التبرعات لجمعية اوكسفام الخيرية؟ الاختلاف في الظروف لا يبيّن ان الناس يشتركون بالقيم، بل يوضح لماذا تكون القيم مختلفة.

ثانيا، إنكار ان الاختلافات مهمة. الموضوعيون الذين يعترفون بوجود الاختلافات الاخلاقية يجادلون ان الاختلافات لاتعني النسبية، النظريات العلمية تختلف ايضا، ونحن لا نفترض ان كل نظرية صحيحة. هذه المقارنة محكوم عليها بالفشل. الاختلاف في النظرية العلمية يمكن توضيحه بملاحظات غير كافية او وسائل فقيرة، التحسن في كل منها يقود نحو الالتقاء. عندما يُحدد الخطأ العلمي، تُجري التصحيحات. بالمقابل، الاخلاق لا تتبع مسار الاختلافات في الملاحظة، ولايوجد هناك دليل على التقاء عقلاني نتيجة للصراعات الاخلاقية.

العبودية الغربية لم تنتهي بسبب الملاحظات العلمية الجديدة، وانما انتهت مع الثورة الصناعية التي بشّرت بالاقتصاد القائم على الاجور. في الحقيقة، العبودية اصبحت اكثر انتشارا بعد التنوير عندما تحسنت العلوم. حتى مع فهمنا الحديث للمساواة، اوضح بنيامين سكنر ان هناك الكثير من الناس يعيشون في عبودية حقيقية في العالم اليوم مقارنة بتجارة العبيد عبر الاطلسي. عندما تلتقي المجتمعات اخلاقيا، فهي عادة بسبب ان احداها تسيطر على الأخرى (كما في البعثات التبشيرية لإنهاء اكلي اللحوم البشرية). اما الاخلاق، فهي على خلاف العلوم، لاوجود لمعيار متميز جدا يمكن استخدامه لإختبار وتأكيد او تصحيح حالات عدم الاتفاق عند بروزها.

الموضوعيون ربما يجيبون بان التقدم الاخلاقي حصل بالفعل، أليست قيمنا افضل من تلك السائدة في المجتمعات البدائية التي مارست العبودية، او اكل البشر؟ هنا نحن في خطر التعجرف في افتراض التفوق. كل ثقافة تفترض انها تمتلك الحقيقة الاخلاقية. من المنظور الخارجي، ربما يُنظر الى تقدمنا كتراجع. انظر الى التصنيع في قطاع الزراعة، التحطيم البيئي، اسلحة الدمار الشامل، الاستغلال الرأسمالي، العولمة القسرية، التقوقع في اطراف المدن، ممارسة إرسال الاقارب من كبار السن الى بيوت الرعاية. ربما تبدو طريقتنا في الحياة غريبة للعديد من الناس الذين جاءوا من قبل وللعديد الذين سيأتون لاحقا.

المشاعر والتلقين المتكرر

الاختلافات الاخلاقية يمكن توضيحها بشكل افضل عبر افتراض ان الاخلاق، خلافا للعلم، لاترتكز على العقل او الملاحظة. على ماذا اذاّ ترتكز؟ للاجابة على هذا السؤال نحتاج للنظر بالكيفية التي يتم بها تعلّم الاخلاق.

الاطفال يبدأون تعلّم القيم عندما يكونوا صغارا جدا وقبل ان يتمكنوا من التفكير بفاعلية. الاطفال الصغار يتصرفون بطرق لا يمكن ان نقبلها ابدا مع البالغين: هم يصرخون، يرمون الطعام، يخلعون ملابسهم امام الناس، يضربون، يخدشون، يلسعون، وعموما يخلقون مشاجرات. التعليم الاخلاقي يبدأ منذ البداية، حينما يصحح الآباء هذه السلوكيات غير الاجتماعية، هم عادة يقومون بهذا عبر التأثير على مشاعر الاطفال. الآباء يهددون بالعقوبة البدنية ( هل تريد الضرب؟)، او التهديد بسحب الحب (انا سوف لن ألعب معك مرة اخرى)، او النفي دون محاكمة (إذهب الى غرفتك)، الحرمان (لن تحصل على حلويات بعد الآن)، او الافصاح عن عدم الثقة الضمني (انظر الى الألم الذي سبّبته). كل واحدة من هذه الطرق تدفع الطفل ذو السلوك السيء لممارسة مشاعر سلبية وربطها بالسلوك المعاقب. الاطفال يتعلمون ايضا عبر التنافذ العاطفي. هم يرون ردود افعال آبائهم للاخبار الجديدة او كتب القصص. هم يستمعون ساعات الى أحكام حول الجيران غير الناضجين، زملاء العمل اللااخلاقيين، الاصدقاء غير المخلصين. الاطفال كمقلدين ماهرين يستوعبون المشاعر التي يعبّر عنها الآباء، وزملائهم عندما يتقدمون قليلا في السن.

ردود الافعال العاطفية ليست فقط وسيلة ملائمة لإكتساب القيم: انها ضرورية. الآباء احيانا يحاولون التفكير مع اطفالهم، لكن التفكير الاخلاقي يعمل فقط عبر توجيه الانتباه للقيم التي استبطنها الطفل سلفا من خلال ردود الافعال العاطفية. مهما كان مقدار التفكير لا يمكنه الإضرار بالقيم الاخلاقية لأن كل القيم هي بالتأكيد، مواقف عاطفية.

هناك بحث حديث في علم النفس يدعم هذا التنبؤ. نحن نقرر ما اذا كان شيء ما خاطئا عبر التأمل الذاتي في مشاعرنا. اذا كان الفعل يجعلنا نشعر بسوء، نحن نستنتج انه خطأ. بالانسجام مع هذا، أحكام الناس الاخلاقية يمكن تحويلها عبر تغيير مواقفهم العاطفية. فمثلا، عالم النفس Simone Schnall وزملائه وجدوا ان التعرض للقاذورات او روائح الانسان الكريهة او الافلام المثيرة للاشمئزاز يدفع الناس لاتخاذ احكام اخلاقية قاسية حول ظاهرة ليست ذات علاقة. عالم النفس Jonathan Haidt وزملائه بيّنوا ان الناس يتخذون احكاما اخلاقية حتى عندما لا يستطيعون اعطاء اي تبرير لها. فمثلا، 80% من طلاب الكلية الامريكيين في دراسة Haidt قالوا من الخطأ ممارسة الجنس بالتراضي بين اثنين من البالغين الاقارب حتى مع استعمالهما وسائل منع الحمل ودون وقوع اي ضرر. عواطفنا تؤكد ان مثل هذه الافعال خاطئة حتى عندما لا تنتج عنها اي آثار او أضرار للضحية.

اذا كانت الاخلاق مرتكزة على اساس عاطفي، عندئذ فان الناس الذين يفتقرون لعواطف قوية سيكونون منغلقين عن عالم الاخلاق. هذا التنبؤ ثبت صحته لدى المرضى النفسيين الذين اتضح انهم يعانون من عجز عاطفي عميق. عالم النفس James Blair اوضح ان المرضى النفسيين يتعاملون مع القواعد الاخلاقية كمجرد أعراف. هذا يشير الى ان العواطف هي ضرورية لعمل احكام اخلاقية. الحكم بان شيء ما خاطيء اخلاقيا هو استجابة عاطفية. ذلك لا يعني ان كل استجابة عاطفية هي حكم اخلاقي. الاخلاق تستلزم عواطف معينة. البحث يقترح ان العواطف الاخلاقية الرئيسية هي الغضب والاشمئزاز عندما يتم الفعل من قبل شخص اخر، والشعور بالذنب والعار عندما يتم الفعل من قبل الشخص ذاته. يمكن القول ان المرء لا يلجأ الى موقف اخلاقي تجاه شيء ما ما لم يميل ليكون لديه كل من هاتين العاطفتين الموجهتين (الذات والاخر). انت ربما تشمئز من تناول لسان البقرة ولكن ما لم تكن اخلاقيا نباتيا فانت سوف لن تخجل من تناولها.

في بعض الحالات، العواطف الاخلاقية المكتسبة في الطفولة يمكن إعادة اكتسابها لاحقا في الحياة. الشخص الذي يشعر بالخجل من شيء ما ربما لاحقا يشعر بالخجل من الشعور بالخجل. هذا الشخص يمكن القول لديه نزعة تلقينية للنظر الى ذلك الشيء باعتباره غير اخلاقي، ولكن ايضا لديه ايمان بان هذا الشيء مسموح به، والايمان الاخير يساعد في كبح النزعة الاولى بمرور الزمن.

هذا لا يعني القول ان العقل غير ملائم للأخلاق. يمكن للمرء من خلال التفكير المكثف اقناع شخص ما بان تناول اللحوم عمل خاطئ، لكن الحجة الوحيدة التي تعمل هي تلك التي تلجأ الى العواطف القبلية. سوف لن تكون هناك فائدة من الجدال حول النباتية مع شخص لا يرتعش من فكرة قتل الابرياء. وكما ذكر ديفد هيوم ان العقل دائما عبد للعاطفة.

اذا كانت هذه الصورة صحيحة، فنحن لدينا مجموعة من قيم اساسية مشروطة، وقدرة على التفكير، تسمح لنا بتمديد هذه القيم الى حالات جديدة. هناك اثنين من المضامين الهامة. الاول، هو ان بعض النقاشات الاخلاقية لايمكن الوصول فيها الى قرار بسبب ان كلا الجانبين لديهما قيم اساسية مختلفة. هذا عادة الموقف مع الليبراليين والمحافظين. البحوث تقترح ان المحافظين يقيّمون بعض الاشياء التي هي اقل اهمية لليبراليين، بما فيها هياكل السلطة الهرمية والثقة الذاتية والتضامن ضمن الجماعة والنقاء الجنسي. النقاشات حول الرفاهية والسياسة الخارجية والقيم الجنسية اصبحت في وضع حرج بسبب هذه الاختلافات الاساسية.

الثاني، هو اننا لا نستطيع تغيير القيم الاساسية بواسطة العقل وحده. مختلف الأحداث اثناء الطفولة ربما قادرة على إعادة تشكيل عواطفنا المغروسة بما فيها الصدمة وغسيل الدماغ والانغماس في جماعة جديدة (نحن لدينا ميل لا واعي نحو الامتثال الاجتماعي). العقل يمكن استخدامه لإقناع الناس ان قيمهم الاساسية هي بحاجة للمراجعة لأن العقل يمكنه اكتشاف متى تكون القيم غير منسجمة ومدمرة ذاتيا. مقال في النسبية ربما يقنع المرء في التخلي عن بعض القيم الاساسية على اساس انها منغرسة اجتماعيا. لكن العقل وحده لا يستطيع غرس قيم جديدة او التأكيد على نوع القيم التي يجب ان نمتلكها. العقل يخبرنا عما هو كائن وليس عما ينبغي ان يكون.

باختصار، الأحكام الاخلاقية ترتكز على العواطف، وان التفكير عادة يساهم فقط بمساعدتنا على الاستنباط من قيمنا الاساسية حالات جديدة. التفكير يقودنا فقط لاكتشاف ان قيمنا الاساسية منغرسة ثقافيا وانها قد تدفعنا للبحث عن قيم بديلة، لكن العقل وحده لا يستطيع اخبارنا اي القيم نتبنّى ولا يمكنه غرس قيم جديدة.

هل هناك دليل اخلاقي موضوعي؟

فرضية ان الأحكام الاخلاقية ذات اساس عاطفي يمكنها توضيح لماذا هي تختلف عبر الثقافات وتقاوم التحول من خلال العقل، لكن هذا لا يكفي لإثبات ان الاخلاق النسبية صحيحة. الجدال حول النسبية يجب ايضا ان يبيّن ان لا اساس للاخلاق يتجاوز العواطف التي كنا نتحلى بها. النسبيون يجب ان يعطوا اسبابا للاعتقاد بفشل النظريات الموضوعية للاخلاق. الموضوعية تؤمن بان هناك اخلاق واحدة صحيحة ملزمة لكل منا. لكي ندافع عن مثل هذه الرؤية، يجب على الموضوعي ان يقدم نظرية توضح من اين تأتي الاخلاق لكي يمكن ان تكون عالمية وفق هذه الطريقة. هناك ثلاثة خيارات رئيسية: الاخلاق يمكن ان تأتي من اله خيّر، او انها يمكن ان تأتي من طبيعة الانسان (مثلا، تطوير مجموعة فطرية من القيم الاخلاقية)، او انها تأتي من مبادئ عقلانية يستطيع تمييزها كل الناس العقلانيون، مثل قواعد المنطق والرياضيات. الكثير من الجهد بُذل في الدفاع عن كل من هذه الخيارات، وسيكون من المستحيل هنا تقديم مراجعة نقدية لكل النظريات الاخلاقية. بدلا من ذلك، لننظر في بعض الاسباب البسيطة لكل من تلك الخيارات.

المشكلة مع الأوامر الدينية كعلاج للنسبية هي ان لا وجود هناك لإجماع بين المؤمنين حول ما يريدنا الله ان نعمل. حتى مع وجود كتب مقدسة تحتوي على قائمة من الاوامر الدينية، هناك عدم اتفاق حول التفسيرات. هل (لا تقتل) تشمل الأعداء؟ ام تشمل الحيوانات؟ هل انها تجعل المرء مذنبا في القتل غير المتعمد او في حالة الدفاع عن النفس؟ هل هي تمنع الانتحار؟ ان التحدي الفلسفي لمسألة الاله والاتفاق على نوع القيم المقبولة دينيا هي كذلك عملية اصعب.

المشكلة مع طبيعة الانسان كأساس للأخلاق العالمية هي انها تفتقر للقوة المعيارية، ذلك انها ذاتها لاتزودنا باي رؤية معرّفة للخير والشر. افرض لدينا بعض القيم الاخلاقية الفطرية، لماذا يجب ان نقيّد انفسنا بها؟ الكائنات اللاانسانية عادة تقتل وتسرق وتغتصب دون ان تنال العقوبة من اعضاء جماعتها. ربما قيمنا الفطرية ترسخ ذلك النوع من السلوكيات ايضا. هل ذلك يعني اننا يجب ان لا نعاقب عليها؟ بالتأكيد كلا. اذا كانت لدينا قيم فطرية عرضة للنقاش، فهي تطورت لمساعدتنا في مسايرة الحياة كما في جامعي البذور لدى بعض الجماعات الصغيرة. لكي نعيش في مجتمعات كبيرة مستقرة، فمن الافضل اتّباع القيم "المتحضرة".

اخيرا، المشكلة مع العقل كما رأينا، هي انها لاتضيف شيء الى القيمة. عندما اقول لك ان الخمر فيه نوع من التوازن بين الحموضة وعناصر اخرى للذوق فلا يعني انك ستجده لذيذا. ونفس الشيء، العقل لا يمكنه ان يخبرنا اي من قيمنا هي غير منسجمة، واي الافعال تقودنا الى انجاز اهدافنا. ولكن في ضوء اللاانسجام، لايستطيع العقل ان يخبرنا اي من قيمنا المتصارعة يمكننا اهمالها، واي الاهداف نتبعها. اذا كانت اهدافي تتعارض مع اهدافك، فان العقل سيطلب مني اما إحباط هدفك او التخلّي عن هدفي، فالعقل لا يستطيع اخباري بأفضلية خيار على آخر.

عدة محاولات حصلت لدحض مثل هذه المخاوف لكن كل محاولة لم تقد الاّ الى مزيد من النقاش. وفي ضوء القيود الاساسية المذكورة أعلاه (غموض الاوامر الدينية، الفراغ القيمي للتطور، الحيادية الاخلاقية للعقل)، فان الموضوعية تبدو غير محتملة.

الاعتراضات على النسبية الاخلاقية

الناس عادة يرفضون النسبية لأنهم يعتقدون انها لها مضامين غير مقبولة. دعنا ننظر في بعض الادّعاءات والاجوبة عليها.

ادّعاء 1: النسبية تعني ان كل شيء مباح:

الجواب: النسبيون يعترفون اذا كنت تغرس اي مجموعة من القيم، فان هذه القيم ستكون صحيحة لأولئك الذين يحوزونها. لكننا لا توجد لدينا حوافز لغرس القيم عشوائيا. لو درّبنا اطفالنا ليكونوا قتلة قساة فهم ربما يقتلوننا او يُقتلون. القيم المدمرة ذاتيا لا يمكنها ان تستمر.

ادّعاء 2: النسبية تعني اننا ليس لدينا طريقة لنقد هتلر:

الجواب: اولاً، ان أفعال هتلر كانت عمليا مرتكزة على عقائد زائفة بدلا من القيم (العنصرية العلمية، الاستبداد الاخلاقي، احتمالية الهيمنة على العالم). ثانيا، المشكلة مع هتلر هي ليست ان قيمهُ كانت زائفة وانما هي كانت ضارة وخبيثة. النسبية لا تعني اننا يجب ان نتسامح مع الدكتاتوريين السفاحين. عندما يهددنا شخص ما فنحن نتحفز بقوة لحماية انفسنا.

ادّعاء 3: النسبية تعني ان النقاشات الاخلاقية هي بلا معنى طالما كل شخص هو على صواب:

الجواب: هذا هو سوء الفهم الكبير. العديد من الناس لديهم قيم اخلاقية متشابكة، ويمكن للمرء تسوية النقاش باللجوء الى ارضية اخلاقية مشتركة. نحن نستطيع اجراء نقاشات هامة حول كيفية تطبيق وتوسيع قيمنا الاساسية. بعض النقاشات بلا معنى. ان الليبراليين الملتزمين والمحافظين نادرا ما يقنعون بعضهم البعض، لكن النقاشات العامة حول السياسة يمكنها تهيئة الاساس وتسوية غير المقرر.

ادّعاء 4: النسبية لا تسمح بالتقدم الاخلاقي:

الجواب: قد يكون هذا صحيح بمعنى ما، القيم الاخلاقية لا تصبح اكثر صحة. لكنها يمكن ان تصبح افضل في جوانب اخرى. فمثلا، بعض القيم هي اكثر انسجاما وتؤدي بشكل واضح الى الاستقرار الاجتماعي. اذا كانت النسبية الاخلاقية صحيحة فان الاخلاق يمكن اعتبارها وسيلة، ويمكننا التفكير حول ما نحب ان تفعله لنا هذه الوسيلة ثم نراجع الاخلاق طبقا لذلك.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي