الأبعاد المستقبلية لحركة الرسول الأعظم (ص)
آليات البقاء والانتشار في مرحلة التأسيس
عبد الله الفريجي
2018-11-26 04:50
يحتل المستقبل في التصور الإسلامي حيزاً كبيراً، بناءً على المساحة التي منحت له في النصوص، حيث نلاحظ وجود نصوص تتحدث عن المستقبل القريب جداً؛ فمثلاً أعلن الرسول (ص) تحطم الإمبراطوريات المحيطة بالجزيرة العربية، حين كان المسلمون يحفرون الخندق، وأعلن عن فتح مكة قبل فتحها، وأنبأ (ص) عن أسلوب موت الصحابي عمار بن ياسر كما تحدث القرآن عن هزيمة الروم أمام الفرس.. وغير ذلك من الإخبارات، ونلاحظ إلى جانب هذه الإخبارات إخبارات عن مستقبل الإسلام في عصور بني العباس وبني أمية وسقوط المدن التي لم تكن قد بنيت في حينها، وصولاً إلى الإخبار عن المستقبل البعيد في آخر الزمان.
والملاحظ أن هذه الإخبارات تأتي في سياق نظرة الإسلام إلى حياة الإنسان، مترابطة بين الماضي والحاضر، حيث تؤكد التواصل بين خيط البداية الذي صار ماضياً وخيط المستقبل الذي صار حاضراً (في زمن الرسالة) والمستقبل الذي لا تزال الانسانية تنتظر وصوله ليكون جزءاً من الحاضر.
فالإنسان - فرداً أو جماعة - كائن متحرّك من الماضي إلى الحاضر، وهذه الحركة هي حركة تواصل بين المثل الدينية وبين تيار من البشر يحاول إنزال هذه المثل إلى أرض الواقع، هذا التيار يمر بأطوار متناوبة بين المد والجزر، فكلما جاءت ديانة جديدة انتعش هذا التيار واستيقظت في الوعي البشري صورة مثال (عقائدي - سلوكي) وتواصل السعي نحوه لتطبيقه، هذا الأفق المثالي يمثل أقصى حالات الاستجابة للوحي، إذا قدّر للإنسان الوصول إليها والتوافق معها، وهو أمر لا يحصل إلا في إطار فردي، وبدرجات أقل منه في دائرة اجتماعية؛ وبمقدار هذه الاستجابة فإن الحركة نحو المستقبل تكون تكاملية.
ولذلك فإن كل ديانة تقف وراء نقلة تكاملية تبدأ من العقيدة الدينية ثم تتحول إلى ثقافة، وأخيراً تصل إلى طور إنتاج الحضارة؛ وذلك عندما تستعيد الحياة توازنها الضروري، لتوفير شروط الإنتاج والإبداع، وبمقدار اقتراب الثقافة من مُثل وأهداف الوحي، فإن طاقة إنتاج الحضارة تزداد.
غير أن التاريخ سجل لنا دائماً استجابات محدودة؛ ولهذا فإن الحضارات تفقد قدرتها على الإتيان بالجديد لتصل إلى طور التوقف والخمود، فعندما تصل الحضارة إلى أقصى أطوارها وتفقد قابليتها على العطاء، فإنها تفتح الأفق لصعود ديانة جديدة، معها أمة جديدة (ثقافة جديدة، وتبعاً لها حضارة جديدة).
الديانات صرّحت بدورها هذا حيث أعلنت كل ديانة أنها مكملة لسابقتها، وأن دورها يتجه نحو إعادة حضور المُثل في الوعي الإنساني المعاصر لها، من خلال فرض حضوره في ثقافة الأمة القيّمة على الموجة الحضارية، وقد أعلن المسيح (ع) أنه جاء مكملاً للشريعة الموسوية وأن الرسول محمد (ص) أعلن أنه جاء متمماً لمكارم الأخلاق.
ولذلك فإن الديانات تتشابه من حيث المهمة والأداء، وكذلك من حيث المعوقات والصعوبات، بما فيها الإسلام، ولذلك خاطب الرسول (ص) الأمة الإسلامية بأنها ستتبع سنن من كان قبلها من الأمم. فاتباع سنن السابقين لا يدل على انحراف الأمم عن الوحي فقط بل يدلّ على تشابه طريقة الاستجابة، ومستوى التفاعل، وطبيعة ترسيخ القيم، ودرجة الممانعة الذاتية التي توجد في كل أمة، ودرجة التقبل والاستجابة التي تتفاوت بين أمة وأخرى، فبعض الأمم مقفلة ولا تستجيب للتغيير، وهي التي حكم الله عليها بالإبادة، وهناك أمم تستجيب ولكن في حدود ضيقة كاليهود، وهناك استجابة واسعة كالمسلمين الذين وصفهم الوحي (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)(1) وهو طبعاً ينطبق على الخط الذي ظلّ محافظاً على استجابته تاريخياً للوحي، وينطبق على الآخرين بدرجات أقل.
وهكذا فإن الإسلام يشبه بقية الديانات في الملامح الأساسية لكنه يتميز عنها في كونه الديانة الخاتمة، وأنه يصل بالإنسان إلى أقصى حالات التكامل المادي والمعنوي.
الرسالات والرسالة الخاتمة:
إن أول ما يلفت النظر تأكيد النصوص الإسلامية على أن بعثة الرسول (ص) هي آخر بعثات السماء: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(2)، وهذا التأكيد ينطوي على إشعار بالارتباط بالماضي، لأن الرسالة الإسلامية هي واحدة من عدد من الرسالات التي استوعبت التاريخ وهي بالتالي تمثل امتداداً لما سبقها، وهذا الأمر هو أحد أركان الإيمان الإسلامي الذي يفرض الإيمان بكافة الأنبياء والرسالات السابقة (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك..)(3).
أما بالنسبة للمستقبل فإنها حددت بوضوح أنها آخر الرسالات السماوية، أي إنها رسالة للفترة المتبقية من التاريخ البشري، وهذا يتضمن الحديث عن نهاية للتاريخ، ستهيمن الرسالة الإسلامية على التطورات التي ستحصل فيها؛ أي في الفترة المحصورة بين بعثة الرسول (ص) والمستقبل الممتد إلى النهاية التي سماها القرآن بيوم القيامة.
فالرسالة في الوقت الذي تنذر بوجود نهاية للتاريخ فإنها تبشر بوصول الإنسانية إلى حالة الكمال في المستقبل المتاخم للنهاية، هذا الكمال الذي بشرت به الرسالات السماوية السابقة، وأنها الرسالة الوحيدة التي ساقت البشرى باليوم الموعود وأنه واقع في المستقبل وعلى يد أحد أحفاد الرسول الأكرم (ص) في يوم آت في آخر الزمان..
فبين أيدينا حدّان للتاريخ؛ حد البداية التي بدأت مع خلق آدم أبو البشر (ع)، وحد نهاية التاريخ. وبين هذين الحدين يسعى الإنسان ليحقق كماله، ويصل إلى مداه (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)(4).
وقد حملت الرسالة الإسلامية شرف إيصال الإنسان إلى قمة الكمال، فهي أكمل مراحل التاريخ، وإنها أكمل الرسالات ونبيها خاتم النبيين(ص).
ومن مجمل الأدلة والبيانات التي ساقها الإسلام، نستشفّ أن حركة التاريخ هي حركة تكاملية، وإنها محددة ببداية ونهاية سماها القرآن الكريم بـ(الأجل) وإن الأجل مقسم إلى أجل أممي وأجل مرحلة تاريخية وأجل فرد، ومجموع هذه الآجال هو (الأجل الكلي) أو (التاريخ) (إن الوجود البشري (سلسلة) لا نهاية لها من الصعود والهبوط، وإن الثقافات الكبرى تظهر كما تظهر الأمواج في البحر، ترتفع إلى علوّ شاهق ثم تضمحل ثانية ليبرز غيرها)(5).
كما إن الكمال - حصراً - يعني بلوغ مستوى قبول الوحي؛ فالمقدار الذي يتقبل به الإنسان تعاليم الوحي، فإنه يرقى إلى نفس الدرجة من الكمال وبالمقدار الذي يرفض به تعاليم الوحي فإنه يتخلف عنه، وهكذا فإن حركة الإنسان تقوم على طرفين هما (الاستجابة) و(الممانعة)، فكل فرد من أفراد البشر يتمتع بدرجة من الاستعداد (الاستجابة) وقدر من الممانعة، وبنفس الصورة تتركب الجماعات الإنسانية، حيث تتشكل كل جماعة من قوى محافظة تعمل على منع التحولات والتغيرات، لارتباطها مصلحياً ببقاء الأوضاع كما هي عليه، وقوى اجتماعية متضررة من الأوضاع السائدة، وهي مستعدة لتقبل التغيير، بل والمطالبة به، وهذه القوى تكون دائماً هي ذراع التغيير وأداته الرئيسية في كل دورة تاريخية، وإنها الكوّة الواسعة التي تنفذ منها حركة التاريخ التصاعدية.
وإذا كان التاريخ عبارة عن دورات تتجه تصاعدياً نحو التكامل، وإن أي دورة تكامل ترتبط بسيادة ديانة معينة، سواء أكانت (دورة أمة) أم (دورة مجموعة أمم) (مرحلة)، فإن كل دورة تقوم بدفع الإنسانية إلى الأمام، وحين تتحول هذه الدفعة إلى شيء سائد ومعروف وجزء من خصائص الأمة أو الأمم، فإن عنصر التفوق الذي سوغ لها الصدارة سوف يزول، ولينتظر الإنسان دورة قادمة، بعد أن يتحول عنصر التفوق الذي جاءت به إلى جزء من خصائص وذاتيات الأمة، وبالتالي جزء من ذاتيات الإنسان.
وبناءاً على ما مر فإن الرسالة الإسلامية هي المهيمنة على دورة المستقبل، وإنها جاءت لتبلغ بالإنسان أقصى درجات كماله، وإنها سوف لن تخلي مكانها لأية رسالة أخرى، لأنها تتصل بنهاية التاريخ، وأنها ستحقق أعلى استجابة؛ أي أعلى تكامل اعتقادي وسلوكي ويترجم إلى ما يلي:
1- التكامل الاعتقادي (الفكري أو العقلي): إن المعتقدات الدينية ترتبط بصورة قوية بأفكار الإنسان وبنيته العقلية، لذا فإن تكامل الإنسان في هذا الجانب يعني دفع عقل الإنسان إلى الفاعلية والنشاط، باتجاه تكوين صورة (إدراك موضوعي) للعالم والإنسان؛ أي إدراك خالٍ من شوائب وأنماط التفكير السابقة التي تتأسس بناءً على أدوات ومناهج لا تقود إلا إلى الخيال والأسطورة.
ولهذا فإن الإسلام جاء ليسوق الإنسان - بالنسبة لهذه الناحية - باتجاه أقصى درجات الموضوعية في تركيب العلوم.
2- التكامل التطبيقي السلوكي: وهذا الجانب يرتبط بالجانب السابق، لأنه عبارة عن الصورة العملية لطبيعة الإدراك البشري لنفسه وللعالم الذي يترجم إلى علاقات (الإنسان - بالإنسان) وعلاقات (الإنسان - بالطبيعة).
فالعلاقات في دائرة الإنسان تتشعب إلى علاقات داخل الأسرة بين الرجل والمرأة، الأب والأبناء، وعلاقات اجتماعية، كعلاقات العبد بالسيد والرئيس بالمرؤوس، وربّ العمل بالعمال، وهذه جميعها تعتمد بصورة مباشرة على الأيديولوجيا والتصورات النظرية التي مصدرها عقائد الإنسان، وكذلك تمتد إلى علاقات خارجية بين الجماعات والشعوب والدول.
أما العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فإنها تعبير عن الكيفية التي يتم بها استغلال الطبيعة، وأشكال العمران المرتبة على نمط ذلك الاستغلال.
وهنا أيضاً جاء الإسلام ليعطي الإنسان أفضل صيغ العلاقة بينه وبين أخيه الإنسان، أو بينه وبين الطبيعة، وسائر الأشياء.
لكن يجب أن نلاحظ ومن زاوية الترابط بين التكامل الاعتقادي والسلوكي، وجود آثار خاصة للانفصال بين الدائرتين؛ فإذا كانت دائرة الاعتقاد منحرفة عن الموضوعية فإنها بمجرد وصولها إلى حيز التطبيق فإنها ستفرز آثاراً ضارة تتكشف تدريجياً على شكل سرعة في نضوب مصادر القوة في الثقافة والحضارة، على أن الانحراف عن الموضوعية في دائرة التطبيق له آثار إضافية بنفس الاتجاه.. وهكذا فإننا نلاحظ وجود نوعين أو مستويين من الانحراف؛ الأول على المستوى الاعتقادي، والثاني على المستوى التطبيقي، ولكل منهما إفرازاته على الوضع الاجتماعي، وبالتالي على عرقلة الحركة التكاملية. ولهذا فإن الإسلام وعد ومنذ بداية البعثة الشريفة بتحقيق هذا التكامل، وبالتالي فهو قادر حتماً على امتلاك أفضل أدوات تكوين اليقين لكي يتمكن من الوفاء بوعوده بالنسبة لدائرة الاعتقاد، وهو ما تحقق بالفعل في التجربة الإسلامية، وهو ينفي مزاعم البعض بأن الإسلام أقام حضارته بالاتكاء على تراث الحضارات الأخرى وأن (الحقل المعرفي العربي لم يكن نموه خاضعاً لوتائر إمكاناته الداخلية وحدها، بل ربما كان أكثر اعتماداً على مدى ما استفاده من الموروث القديم) (6) فهذه الإشكالية ليست ناشئة عن عدم امتلاك الإسلام لإمكانات معرفية مستقلة ومتكاملة، بل لأن هذه الإمكانات قد تم إقصاؤها بنفس النسبة التي تمت بها عملية إقصاء الوحي، وبالتالي فإن الوضعية القائمة عبارة عن حالة من الازدواجية (ومن هنا اكتسى الصراع بين الفكر الديني العربي، كما يتحدد داخل مجاله التداولي الأصلي، وبين الموروث القديم، شكل صراع بين اتجاهين يتنازعان المصداقية في فهم النص) (7).
لكن مع ذلك فإن الحصيلة، وبالمقدار المتاح، وكما يعترف به أغلب الباحثين هي: (إنه لا يمكن أن يعتري المرء الشك بهذه الحقيقة الأساسية فيما يتعلق بالفترة التي تمتد من القرن الحادي عشر إلى وقتنا الحاضر، أو بعبارة أخرى الفترة التي بدأ فيها إدخال العلوم المبنية على الملاحظة إلى أوربا من قبل العرب، وفترة تحرير الجماهير العامة، والحقيقة المساوية لها والتي لا تقبل الشك أيضاً بأن الدعاوى العلمية المتقدمة والتي نسبتها الكتابات الأدبية إلى القدماء هي دعاوى تفتقر لكل الأسس الواقعية وقد ثبت بالدليل القاطع أن العرب تجاوزوها) (8).
ومن الواضح والثابت أن القفزة العلمية المعاصرة قد وُضعتْ أسسها في الحضارة الإسلامية، وعمد الغرب إلى تطويرها فقط.
أما بالنسبة لعلاقة الإنسان بالإنسان، فإنه لابد أن يستطيع القضاء على كل المعوقات والرواسب المتراكمة على أساس تصورات غير صحيحة عن الإنسان، فتفضي تلقائياً إلى إعاقة إقامة روابط سليمة بين بني البشر، ولعلنا نستطيع الجزم بأن الإسلام قدم أسساً هي غاية في التقدم، وأنها تتطابق كلياً مع معطيات العلم الحديث الذي أثبت بصورة لا تقبل الشك وحدة أصل الإنسان، ووحدة بنيته، رغم وجود تفاوت في أشكال بني البشر وتفاوت الألوان واللغات والعادات والأعراف وأنماط التفكير والمعالم الحضارية الأخرى.. ولذلك وضع الإسلام أساساً وحيداً للعلاقة بين بني البشر هو الأساس الاعتقادي، وقد ثبت من خلال التجربة أنه - شكلاً - غاية في المتانة، ويتفوق على الروابط الطبيعية التي قوامها الاشتراك في العرف واللغة والمصالح؛ ولهذا نجح الإسلام على صعيد التجربة التاريخية في إقامة روابط بين جماعات بشرية عديدة في وحدة إنسانية قوية العرى، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
وقد تقدمت الرسالة الإسلامية لإنجاز مشاريعها المستقبلية عبر مرحلتين هما:
1- مرحلة التأسيس. 2- مرحلة التكامل.
يمكننا اكتشاف أبعاد الرؤية المستقبلية للإسلام من خلال الخطوات التي اتبعها في مرحلة التأسيس؛ ذلك لأن أي تأسيس ناجح يضع نصب عينيه الامتداد والسيطرة على حقبة تاريخية تمتد لآلاف السنين، فلابد له أن يكون موضوعياً في أطروحاته، ومفرغاً من الطوباوية والخيال، وأن يراعي الإمكانات الفعلية والمتاحة لينطلق منها لتحقيق أهدافه.
مقومات التأسيس: إن الله اختار الجزيرة العربية منطلقاً لأداء الرسالة ومركزاً للسيطرة على المستقبل، بناءً على وجود معطيات مهمّة تمثل أفضل (حالات الاستجابة) وفي نفس الوقت أضعف (حالات الممانعة) وهذا نجده فيما يلي:
1- وجود رصيد أخلاقي عالٍ لدى الإنسان العربي؛ فالعرب كانوا يقدّسون الكرم والشجاعة وحسن الجيرة والدفاع عن الضعيف وهي قيم ورثوها عن الدين الإبراهيمي.
2- الحروب الطاحنة التي كانت تستفز الإنسان العربي وتجعله متطلعاً إلى التغيير.
3- العزلة التي كانت تخيم على الصحراء العربية وعدم وجود اتصال بالحضارات التي تولدت لديها أفكار واتجاهات تتعارض مع ما يريده الوحي، بحيث صارت حضارة العربي حضارة أخلاقية، وأضحت أفكاره مزيجاً من الحكمة العملية والشعر وما تبقى من معتقدات من الديانة الحنيفة، وطموح نحو الفروسية وإتقان القتال، حتى أن الوثنية كانت حديثة العهد ولم يمرّ عليها سوى (200) سنة قبل البعثة.
هذا بالنسبة لعموم العرب، أما النقطة أو البؤرة التي اختارها الله - وهي مكة والمدينة - فعناصر الاستجابة تتمثل بالانقسام الطبقي في مكة والمدينة حيث كانت توجد طبقة غنية تحتكر المال والمناصب والقرار السياسي وتقهر طبقة أخرى من العبيد وضعاف القبائل العربية، وبالنسبة للمدينة كان اليهود يشكلون طبقة غنية تحتكر الثراء وتضطهد العرب الوثنيين (الأوس والخزرج) وتثير بينهم عوامل التطاحن، وتستغلهم كأجراء للعمل في مزارع المدينة التي كانت تعتمد على اقتصاد زراعي، على العكس من مكة التي كانت تعتمد على اقتصاد تجاري.
وهناك ميزة أخرى هي وجود الروابط بين مكة والمدينة وكونهما شكلتا اتحاداً غير معلن للقوة في المنطقة، إلى جانب كون مكة مركزاً دينياً مقدساً لدى كافة قبائل العرب.
وأما بالنسبة لعوامل الممانعة فتتمثل بوجود طبقة التجار في مكة، وطبقة الإقطاعيين اليهود في المدينة، ونلاحظ أن هاتين الطبقتين اتحدتا في حربهما ضد الدعوة الجديدة.
وهكذا فإننا نلاحظ وجود ذراع الاستجابة لدى العرب، في مكة والمدينة؛ الأمر الذي سهل عملية (دق الإسفين) أو التأسيس، فبمجرد انطلاق الدعوة اجتمع ضعفاء مكة لنصرة الرسول (ص) ومعهم بعض الواعين من الطبقات النافذة؛ فتكونت نواة الدعوة الإسلامية وسرعان ما امتدت إلى المدينة، حيث أقيم نظام سياسي متطور فكرياً وسياسياً وعسكرياً، وهنا نلاحظ (التكامل الاعتقادي) حيث تم استبدال الأصنام بإله واحد، وعسكرياً في أساليب الدفاع المتطورة. أما على صعيد (التكامل السياسي) فقد تم نوع من التآخي الذي يفوق التآخي القبلي المؤسس على روابط الدم، بحيث كان الأب يواجه ابنه وأخاه في المعركة، وبذلك تم تهشيم الروابط القديمة.
نلاحظ بعد استكمال تأسيس النواة سرعة اندحار القوى المحافظة، رغم تفوقها الاقتصادي والتسليحي والعددي، وهذه كلها تم دحرها بواسطة التفوق في النظم وأساليب التوجيه، ونوعية التوجيه المعنوي، وبذلك تم تأسيس دولة صغيرة في الجزيرة العربية تضم مكة والمدينة، وانتهت مرحلة دق الإسفين، ودخل الإسلام في طور الانتشار والتوسع، لتغطي دعوته كل الجزيرة العربية ثم البلدان المجاورة.
ومن الواضح أن أهم أجزاء حركة الإسلام التاريخية، هي هذه المرحلة؛ إذ لم يكن للخلفاء الذين جاءوا بعد الرسول (ص) سوى إدارة هذه الدولة وتوسيع مساحتها الجغرافية.
وتمتاز مرحلة التأسيس بمعالم منها:
1- النص متحرك؛ أي إن النصوص كانت تأتي تباعاً وبحسب الوقائع والأحداث.
2- الواقع متحرك؛ بمعنى أن النص كان في تماس مباشر مع الواقع ويلاحق حركته.
وهذا يعني وجود نفوذية عالية للنص وأن المعوقات أو الرواسب كانت تتراجع سريعاً أمام البنية الاجتماعية الجديدة التي حدثت فيها مجموعة انقلابات، منها الانقلاب الفكري، والانقلاب الطبقي، حيث تبوّأ العبيد والمستضعفون مواقع متقدمة في البنية الاجتماعية، وصاروا يشكلون قوة رئيسية في التوازن الاجتماعي، وهم يتساوون مع سواهم من حيث استنادهم إلى شرعية النص الذي تأسس على حساب الشرعيات القديمة، كشرعية المال أو السدانة، أو عراقة الأصل والانتساب إلى بيوت قرشية..
وهذا يعني وجود استجابة كاملة للنص في الجانب الاعتقادي؛ إذ تمكن النص من التحكم التام بالواقع الذي كان يؤسسه بيده ونفس الشيء ينطبق على الجانب السلوكي حيث يكون الواقع انعكاساً للنص.
ومن الضروري الانتباه إلى أن الثقافة التي تأسست هي ثقافة نص، ولذلك فهي مؤطرة منذ لحظة الولادة، وعليه فإنها تختلف عن الثقافات الأخرى التي تتبع منهج الخطأ والصواب؛ أي أنها تمارس التجربة السياسية والاجتماعية ثم تدرس الأغلاط وتسعى إلى تصحيحها، والفارق بين الاثنين يكمن في أن الأولى محدودة الخيارات، والثانية مفتوحة على كل السلبيات والإيجابيات، كما أن الأولى تحتاج إلى خبير بأبعاد النص، وآليات إنزاله إلى الواقع، والثانية تحتاج إلى خبير بالواقع لأنها تفترض منذ البدء وجود الأغلاط.
وفي نهاية مرحلة التأسيس تنتهي حركة النص، ويصل إلى حدّ الثبات (اليوم أكملت لكم دينكم) وهذا النص يمتلك كل مقومات توجيه الواقع منذ (أوان ثباته) وحتى (نهاية التاريخ).
ولهذا فإن هذه المرحلة وفّرت مع النص الجانب الثاني الذي يتيح له الامتداد وهو وجود الخبراء، ذلك أن الاستمرار في المستقبل يعتمد على:
1- الخبرة بالنص. 2- إيجاد التناسب بين النص والواقع بصورة تطورات تصاعدية.
والخبرة هذه لا بد أن تكون من خلال طبقة من القيمين على ثقافة النص (العلماء)، ذلك أن الاستمرار لا يعني إلا التفوق على الواقع وبالتالي القدرة على توجيه حركته تصاعدياً، فإذا كان الإسلام قد أوجد ثقافة نص فلابد لهذه الثقافة أن تكون أكبر من حالة التكلس والنضوب التي تؤدي كما أسلفنا إلى زوال الموجة، وإذا كنا نفترض أن الموجة الإسلامية لا تزول حتى يوم القيامة، فليس لنا أن نفترض أن الاسلام لا ينطوي على ثقافة متجددة قادرة على مواصلة إفراز عوامل التفوق، وهو المؤهل الوحيد للبقاء على الصعيد النظري، وعلى الصعيد التطبيقي فلابد من افتراض استمرارية الاستجابة، وإن أي تلكؤ سيؤدي إلى نضوب معين التفوق، وتوقف الحضارة وزوالها، ولهذا فإننا منذ البدء سنفترض أن ضعف الوضع الحضاري للمسلمين هو ضعف تطبيقي لا يرتبط بنضوب معين النص، بل يرتبط بضعف الاستجابة وإلا فإننا نتهم النص إما بالكذب أو الخيالية، وهو طبعاً يعني الكفر.
وإذا كان معلوماً أنّ الإسلام ذو موقف واقعي، وأنه لا ينطلق من فرض ذاته على الواقع، أو يعتبر بديلاً عنه، لذلك فإنه وبعد انتهائه من مرحلة دق الإسفين، وهي أهم المراحل، ترك للواقع أن يتحرك بحسب إمكانياته الفعلية، ولكنه وضع له المثل الخاصة به (وهي أفضل صيغ التكامل السلوكي والاعتقادي) وطالبه بالسير نحوها، وأخذ على عاتقه مهمة البيان والتوضيح، وإجلاء الغوامض، وخلق أفضل الفرص لتبني خيارات صحيحة؛ ذلك أن مهمة الإسلام بل أولى مهامه هي منح الإنسان فرصة الاختيار الحر بعيداً عن أي إكراه أو إملاء بعد بيان الحقائق..
وهذا يعني توقع مستوى واطيء من الاستجابة، أو مستوى عالٍ منها، ولهذا فإن الإسلام وضع حساباته على أساس أمرين:
الأول: استمرار استجابة الأمة للرسالة، كما هي عليه في زمن الرسول (ص) أو تصاعدها.
الثاني: انخفاض مستوى هذه الاستجابة وترديها..
ووفق أي من هذين الأمرين فإن الإسلام يتعاطى مع الواقع الإنساني، وافترض وجوب دوام التفوق، وقد أعد لتحقيق ذلك اثني عشر خليفة (الخلفاء اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وهؤلاء فقط هم القادرون على استنباط أشكال التطبيق المتفوقة لامتلاكهم القدرة العالية على فهم خبايا النص، وهؤلاء هم الذين يواصلون وضع آليات البقاء والتغيير، سواء أتيح لهم البقاء في السلطة والإفادة من الإمكانات التي تتيحها لهم، أو لم يتح لهم ذلك، فإنهم سيواصلون فرض آليات البقاء والتغيير.
وكما هو معلوم فإن خسارة السلطة السياسية لا تعني خسارة الأنواع الأخرى من السلطات؛ فهناك سلطة العلم، وسلطة الموقع الاجتماعي الذي يوفره لهم الانتساب إلى الرسول (ص) وسلطة النص وهي أهم السلطات جميعاً، لأنها ستبقى فعالة ما دام المجتمع مستنداً إلى الإسلام كأساس لكل البنى الفوقية.
ومن خلال الإمكانات المشار إليها سيتمكن الإسلام من مواصلة مشروعه التغييري، ولكن -طبعاً- مع الاعتماد على أساليب متفاوتة، لأن خسارة السلطة السياسية ستقلص وتبطئ من عمليات التغيير (إني لأزعّ بالسلطان ما لا أزعّ بالإيمان)، وهكذا فإن عوامل التفوق ستستمر بأيدي الأئمة بينما لا يبقى بأيدي خصومهم سوى إرهاب السلطات وهو طبعاً أضعف الأسلحة إذا وضع إلى جانب سواه.
وهذه المرحلة هي المرحلة الممتدة بين نهاية عهد رسول الله (ص) وحتى يوم القيامة، وتمتد إلى ثلاثة أطوار لكل طور معالمه الرئيسية التي تميزه عن بقية الأطوار؛ وذلك تبعاً لاختلاف معالم الآليات المتبعة لتحقيق بقاء الرسالة وامتدادها وانتشارها.
لقد قلنا إن الإسلام - أساساً - مشروعٌ تغييري مدّ نظره إلى مستقبل الإنسانية ليعطيها في أعلى أطواره أفضل فرص الكمال، إذا أعطت هي أفضل صيغ الاستجابة، وهذا ما حصل فعلاً في زمن الرسالة الإسلامية، عندما كانت الاستجابة كاملة، فقد قفزت الأمة في زمن قياسي قفزات تعجز عن أدائها الأمم الأخرى في دهور طويلة، وقد علّق القرآن الكريم على هذا الأمر بقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (9)، وكذلك قوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..) (10).
ومن الواضح أن الأمة بعد الفجر الأول للرسالة لم تستمر في استجابتها للوحي، وأكبر دليل على هذا الأمر انطفاء الحضارة التي نسبت للإسلام مع أن القرآن يؤكد كما في الآيتين السالفتين على أن هذه الحضارة لا تزول بالتطور إذا استمرت الاستجابة، وكما هو معلوم فإن سبب هذا التوقف يتمثل في نقطة واحدة هي أساس كل التراجعات، لأنها أدت إلى إقصاء الطبقة الخبيرة بالنص، ونحن قلنا إن الاستمرار يقتضي التطور، وإن التطور يتوقف على انتزاع بواطن النص وجرّ الواقع باتجاهها، وعندما لا يحصل هذا الأمر فإن الشيء المقابل هو التوقف ولا شيء غيره.
ولهذا فإن هذه المرحلة تنقسم إلى:
1- مرحلة الاستيعاب.
2- مرحلة استعادة الاستجابة.
3- مرحلة أقصى التكامل.
4- مرحلة القيامة.
فكما قلنا إن الإسلام لا يفرض نفسه بديلاً للواقع وإنما يترك له أن يسير بإمكانياته الذاتية، ليحدد مقدار قدرته على تحقيق الاستجابة، خصوصاً بعد أن افترضنا أنها سوف لن تكون كاملة كما هو متوقع، وأكدته تجارب الديانات السابقة، وأنها بدأت بترك الولاية، ثم صارت تتراجع في استجابتها، حتى وصلت في آخر الأطوار إلى التحلل التام من قيود الوحي ووصاياه، بل برزت دعوات إلى وأده تماماً والانتقال إلى سواه!!.
ومنذ لحظة رفض الاستجابة بعد الرسول الأكرم (ص) وحتى عودتها، فإن الأئمة الأحد عشر سيعملون على تهيئة الظروف على صعيد الأمة والعالم؛ لإعادة قبول الوحي في زمن الإمام الثاني عشر الإمام المهدي (عج)، وهذه المرحلة هي مرحلة الاستيعاب أو الاستجابة المحدودة.
فكما أسلفنا فإن الإسلام أقام حساباته على أساس أمرين ولتحقيق هدفين:
أ) التقبل التام للوحي؛ وهذا يعني بقاء السلطة بأيدي الممثلين الحقيقيين للوحي، وهم كما أسلفنا المؤمنون الذين يمتلكون القابلية العالية لاستجلاء أبعاد النص، وفهم مراميه، وهؤلاء هم الذين تولى الرسول(ص) إعداد عدد منهم وبشكل طبقتين؛ الأولى هي (القيادة) وهي نواة البقاء والتغيير، والثانية هي (الهالة) وهي الطبقة من الواعين الذين يشكلون أداة الانتشار، وذراع التغيير، وهم أيضاً طبقات تبعاً لدرجة هضمهم لمرامي الوحي وأهدافه، في مرحلة التأسيس أو (دق الإسفين)؛ ولهذا فإن القرآن أشار إليهم بالوصف وليس بالاسم (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (11)، كتعبير عن التعدد الذي سيأتي بحسب المراد..
ب) التقبل المحدود؛ وهو المتوقع والذي تم فعلاً حيث لا يمكن أن تصل الإنسانية إلا إلى مستوى معين من التقبل بسبب وجود مستوى من الممانعة، إما في الجانب الاعتقادي أو في الجانب السلوكي أو فيهما معاً، وفي مثل هذه الحالة فإن الإسلام كان قد أعد خطة طوارئ يعمل بها من خلال وجود الطبقة المثقفة المؤمنة التي ستمثل خيطاً يمتد في أعماق الأمة، ويمارس دور حفظ بقاء الإسلام وانتشاره ولهذا فإن الرسول(ص) ولكي يحقق هذا الغرض، ويمسك بخيط التغيير، فإنه عمد إلى تعيين اثني عشر خليفة يتعاقبون على عملية حفظ الإسلام وتحقيق انتشاره، فيمنعون العودة إلى الجاهلية في نفس الوقت الذي يعمدون فيه إلى مواصلة عملية التثقيف، وإعداد أفراد ذوي صلاحية عالية (اعتقادية وسلوكية)، تتيح الامتداد وتحفظ التفوق من خلال الإمساك بالتفوق العلمي (التعامل مع النص) والخروج بأشكال تنظيمية تحقق البقاء، علماً بأن الصراع سيكون عبارة عن صراع بين درجتين من درجات التقبل (التقبل المحدود والتقبل التام) على أننا يجب أن نعترف بأن التقبل التام سيكون حالة للخواص؛ لأنها ستتأسس في ظل إرهاب شديد وحواجز وحجب كبيرة، ولهذا فإنها ستكون في البداية عبارة عن خيط رفيع يتسع تدريجياً حتى ينتقل في أطواره النهائية للإمساك بالسلطة والإفادة منها في التحول إلى تيار عام ينتفع من وسائل السلطة وقدراتها في توسيع عمليات التغيير لتبلغ أقصى مدياتها.
ولهذا فإننا نرى هذا الخيط يتحلى بمقاومة عالية، وإنه رغم الحملات الإعلامية وأساليب التضليل التي استمرت قروناً متمادية، فإن هذا الخط حافظ على بقائه، واستمر في تواصله حتى العصر الحاضر، وانفجر على شكل تيار تصحيحي، وتصدر ساحة العمل السياسي، ثم سيواصل بقاءه إلى أن ينتهي من إنجاز عملية الاستيعاب، ممهداّ بذلك الطريق لعودة الاستجابة التامة، كتيار عام عالمي يشمل جميع العالم.