الكتابة بين الموت والحياة

علي حسين عبيد

2015-02-10 01:59

الكتابة وسيلة لنقل المعرفة، وهي اداة لنقل الافكار من المصنع الى المستهلِك، فعندما تدور في عقل ما أفكار محددة، ويرغب صاحب الافكار بنقلها الى الآخر، فسوف تكون أمامه وسيلة اللغة، هي التي ستساعده على نقل افكاره من عقله الى الورق، وعندها يمكن أن تكون واضحة وقابلة للتطبيق، لذلك تعد اللغة مصنع الافكار، ولا يمكن الاستغناء عنها في أي حال، لسبب واضح أن تطور الانسان محكوم باللغة، فإذا أصبحت الاخيرة تعاني من العلل، سوف يؤدي هذا بدوره الى ندرة وصعوبة في توصيل الافكار، لذلك حمل عنوان هذه المقالة، تساؤلا واضحا وخطيرا في الوقت نفسه، هل الكتابة في مجتمعنا بطريقها الى الموت، واذا جاءت الاجابة بالنفيّ، فهل تعيش حالة التأرجح بين الموت والحياة؟، واذا كان الامر كذلك، فالامر يغدو اكثر تعقيدا، كوننا مجتمع لم يعش بعد سوى حالات الحرمان والعوز والتجهيل.

أن المؤشرات التي يمكن استنباطها مما يجري في المجتمع من علاقات متنوعة، تدل على ضعف الكتابة الفكرية، فضلا عن غياب المفكرين بسبب العزلة التي ضربوها حول ذواتهم، وهناك دلائل تشير الى ضعف الكتابة وهبوط مستويات التعبير من خلالها، منها على سبيل المثال ما نطّلع عليه من كتابات مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي ومنها الفيس بوك، إننا من خلال هذه الكتابات نستطيع أن نستدل على مستوى كتابي هابط، وهذا دليل على تراجع الكتابة، وعجزها عن اداء دورها المفترَض أو المخطط له أو الدور المطلوب من اللغة.

وقد يعزى السبب الى قلة التدريب على الكتابة وما شابه من اسباب، ولكن المشكلة بالأساس تكمن في ضعف الرغبة على التدريب وليس غياب التدريب او المدربين، فحتى لو توافرت دورات تدريبية على الكتابة نادرا ما نلاحظ اقبالا كبير واندفاعا الى ذلك، وعندما تغيب الرغبة في التعلم، تصبح المشكلة ذات بعدين، الاول في الكتابة. والثاني في العزوف عنها، أما الأسباب فهي تتعلق بالفرد والمجتمع، وحتى الذين يتقنون الكتابة أخذت أفكارهم بالهبوط والاضمحلال، وهذا بعد آخر يضاف الى الابعاد التي تجعل الكتابة متأرجحة بين الموت والحياة.

وثمة ملاحظة اخرى تتعلق في هذا الجانب وهي سيطرة الصورة على وسائل التعبير والتوصيل المختلفة، اذ بات الانسان اكثر تقبلا للصورة والتعامل معها بدلا من التعامل مع الكلمة والافكار!، ولعل الامر يتعلق بسهولة وسرعة التعامل والاستيعاب، فالانسان مثلا يفضل أن يشاهد شاشة التلفاز ساعات متواصلة، لكنه غير مستعد ان يصرف ربع هذا الوقت مع الكلمات والقراءة والكتابة والافكار، لذلك يفضل الصورة في الشاشة وفي المطبوع ايضا، لما لها من تأثير سريع على ذائقته، من دون أن تتطلب منه بذل سلسلة من التفكير بالكلمات للفهم والتفسير والاستيعاب.

ولعلنا نتفق على أن هناك معادلة لا يمكن إهمالها، تنص على ما يلي: (كلما تحسّنت لغتنا تحسنت أفكارنا)، هذه العلاقة بين اللغة والأفكار، قلما نتنبّه لها، ونعني بذلك الذين يتعاملون مع الكلمة والذين يرسمون افكارهم من خلال الحروف كي يقدموها لمن يحتاجها، فحتى هؤلاء باتوا أقل إهتماما بتحسين وسيلتهم اللغوية، فباتت الافكار تعاني من الضعف، وأحيانا من الشحة، لينعكس ذلك على الواقعين الثقافي والفكري، والنتيجة بدورها سوف تنعكس على المشهد العملي للمجتمع، لنصل الى نتيجة مؤداها، عندما تضعف الكتابة تضعف الافكار، ويشحّ التجديد، وتأخذ حياتنا طابعا واحدا، يفتقر للتنوع والطموح والتجديد، وقد يعزو بعضهم تأرجح الكتابة بين الموت والحياة الى مشكلة عدم معرفة المجتمع او معظم مكوناته كيفية التعامل مع اللغة، وربما يصح هذا الرأي الى حد بعيد، فهناك مشكلة فعلية في معرفة اللغة بصورة جيدة، او حتى مقبولة، ولكن السبب هنا يتعلق بالافراد أنفسهم وبالمجتمع ايضا.

فهناك عزوف عن تعلم اللغة، وعدم طموح ورغبة في إتقانها والتعامل معها، والعيب هنا ليس في اللغة، وإنما بالمجتمع نفسه، لذلك ينبغي أن يعاد النظر فرديا وجمعيّاً في هذه الظاهرة، ونعني بها ظاهرة عدم الاهتمام باللغة والكتابة، ولابد أن يتم التخطيط على أعلى المستويات المسؤولة والمهتمة بهذا الامر، من اجل النهوض معا وبقوة لمعالجة هذا النقص الخطير من خلال إقامة الدورات اللغوية بصورة متواصلة، لكي يتمكن المجتمع (وكل من يحتاج الى لغة متطورة وسليمة) من الدخول في هذه الدورات التعليمية، وان تنتشر ثقافة جديدة يمكن ان نطلق عليها ثقافة تعلم اللغة والكتابة.

وبهذه الطريقة تكون علاقة الفرد والمجتمع مع اللغة متواصلة، إذ يتاح للجميع أن يعبروا عن افكارهم بوضوح من خلال اللغة وكتابة افكارهم ورسمها بالحروف وطرحها للآخر، لكي تكون محط الاهتمام والتداول، وهكذا يمكن للجميع ان يشترك في هذه المهمة، أما فيما يتعلق بالمفكرين الذي يمتهنون كتابة الافكار وعرضها كسلعة ربحية، فهذه الشريحة مطالبة ايضا، بالتعامل مع الكتابة باندفاع اكثر وادق، حتى يكونوا نموذجا للآخرين باعتماد منهج كتابة الافكار من اجل تطوير الفرد والمجتمع.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي