هوية كربلاء العلمية

محمد علي جواد تقي

2025-07-01 05:04

ما علاقة الدم بالقلم؟! وما علاقة الشهادة والموت في سبيل الله بالعلم؟! وكيف تجمع مدينة تاريخية مثل؛ مدينة كربلاء المقدسة، بين طقوس العزاء واستذكار مصاب الإمام الحسين، عليه السلام، طيلة أيام السنة بلا انقطاع، ومنذ استشهاده، مع طقوس طلب العلم في المدارس والحوزات والمكتبات؟ 

الحواضر العلمية (الدينية) عديدة في البلاد الاسلامية، من جامعة الزيتونة في تونس غرباً، مروراً بجامعة الأزهر في مصر، ثم الحواضر العلمية في ايران والعراق، وحتى الحواضر العلمية المندثرة في بلاد ما وراء النهر في مدن مثل؛ سمرقند، وبخارى، وترمذ، وخوارزم، الى جانب حواضر علمية في البلاد الافريقية مثل؛ مدينة تمبكتو في دولة مالي، كلها حملت مشعل العلوم الدينية، وخرجت أجيال من العلماء والفقهاء والمفسرين، إنما المميّز في مدينة كربلاء المقدسة؛ التقاء العلم كمشروع حضاري، مع التضحية كمشروع انساني. 

مدرسة الإمام الصادق الى جوار مرقد سيد الشهداء

تؤكد المصادر أن الحركة العلمية في كربلاء انطلقت من جوار مرقد الامام الحسين منذ عهد الامام الصادق، عليه السلام، فبعد الفترة التي قضاها في مدينة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، ينشر العلوم والمعارف كما فعل أسلافه، استثمر فترة وجوده في العراق بسبب إحضاره من قبل المنصور الدوانيقي في ظنه تحديد النشاط العلمي للإمام، وإبعاده عن المحورية العلمية للمدينة المنورة، بيد أن الخيبة ملازمة لمحاولات الطغاة العباسيين في تحديد تأثير الأئمة المعصومين في واقع الأمة، فقد لبث الامام الصادق فترة من الزمن في الحيرة (الكوفة) التي تحولت الى مركز استقطاب لأهل العلم من مختلف البلاد الاسلامية، و تضافرت المصادر على الاعداد الهائلة للمحدثين والفقهاء من كان يقول: "حدثني جعفر بن محمد"، وجاء في بحار الانوار أنه "في سنة 144 هجرية قدم الامام الصادق لزيارة جده أمير المؤمنين، عليه السلام، فلما أدى مراسم الزيارة خرج وسكن شمال كربلاء"، وحسب المصادر فان الأراضي التي حلّ بها الإمام، عليه السلام، في كربلاء المقدسة، تسمى بالجعفريات، وهي نفس المنطقة التي تم تشييد المقام عليه فيما بعد باسم "مقام الامام الصادق". 

وفي كربلاء المقدسة، نلاحظ أن الإمام الصادق، عليه السلام، قرن بين حرصه على زيارة جدّه الحسين، عليه السلام، واهتمامه المتزايد بنشر علوم جدّه المصطفى، ينطلق من شاطئ الفرات، يغتسل فيه ثم يفد على الروضة المباركة، ولا أدلّ على هذا من الزيارات التي دوّنها المقربون من لسانه، عليه السلام، أبرزها؛ زيارة وارث، وزيارة عاشوراء، وزيارة أبي الفضل العباس، وفي كتابه "ذلكم الامام الصادق" لآية الله السيد هادي المدرسي، يشير الى تأسيس الامام الصادق لمنظومة معرفية عن عاشوراء والنهضة الحسينية، من التشجيع على كتابة شعر الرثاء للإبقاء على جذوة القضية متّقدة، والحثّ على الجزع، والحثّ أيضاً على زيارة المرقد الشريف، حتى أنه خاطب شيعته ذات مرة بأن "مالكم لا تأتونه...؟! فان اربعة آلاف ملك يبكون عند قبر الامام الحسين الى يوم القيامة"، والاكثر من هذا؛ التوصية بالتداوي بتربة المرقد الشريف بأن "في طين قبر الحسين شفاء من كل داء وهو الدواء الاكبر".

فالامام الصادق الذي تنقل عنه العلوم الباهرة، يعد تربة قبر الامام الحسين مادة علاجية، وهو ما يدعونا للتأمل والتفكّر في علاقة الامام الحسين ونهضته الاصلاحية والتغييرية بمشروع العلم.

النهضة العلمية الثانية في كربلاء المقدسة

احتفظت كربلاء بالبصمات العلمية للامام الصادق، بفضل الروايات والاحاديث التي رواها عنه، عليه السلام، المئات من المحدثين والفقهاء والمفسرين ممن يشهدون بالفضل للإمام، عليه السلام، بدعوتهم لأول مرة في التاريخ الاسلامي، للتأليف والتصنيف لمختلف العلوم، لاسيما العلوم الدينية مثل الفقه والحديث، والعقائد، وهذه كانت البذرة الأولى لنشوء حوزة علمية بكامل المواصفات، ولكن على مراحل زمنية عديدة، كانت البداية "في مطلع القرن الرابع الهجري على يد استاذ الشيخ الكليني، الشيخ حميد بن زياد النينوي، واستمرت الحوزة نشاطها على يد خلفه؛ محمد بن علي، المُكنى ب"ابن حمزة"، ثم استمرت هذه الحوزة العلمية على مدى قرون، وتألق فيها في فترات متعاقبة فحول العلماء والزهاد منهم: محمد بن فهد الحلي، صاحب الفضائل والكرامات المعروفة، ومزاره مشهودٌ بالقرب من مرقد الامام الحسين، عليه السلام". (في رحاب الامام الشيرازي).

وما يؤكد محورية الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة، منذ القرون الماضية، وجود مدرسة فقهية لتعليم ونشر الاحكام الدينية، بعنوان: "المدرسة الاخبارية" التي كانت تعتمد حصراً على المصادر الروائية في معرفة الاحكام، وكان يحمل لوائها حتى الفترة المتأخرة؛ الشيخ يوسف البحراني، وهو من أكبار علماء عصره، ومعروف بصاحب "الحدائق الناظرة".

بيد أن القابلية على التطور العلمي في الفقه الشيعي أتاح الفرصة لظهور مجدد بارع يقدم الفقه الشيعي خطوات الى الامام من خلال فكرة "الأصول" كمنهج علمي جديد يبحث قواعد استنباط الاحكام الشرعية، لمواكبة التطورات والمستجدات على مر الزمن، ألا وهو؛ الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، مؤسس المدرسة الأصولية في الفقه في القرن العاشر الهجري، ونظراً للحجج العقلية والمنطقية لجدوائية الفكرة الجديدة، فقد تراجعت المدرسة الاخبارية في نهاية مطاف طويل من البحوث والنقاشات في الجلسات العلمية، وكان الرجحان للمدرسة الأصولية التي انطلقت بهذه الرؤية الجديدة والثاقبة لتخرّج كبار العلماء في تاريخ الحوزة العلمية، مثل: محمد شريف العلماء، والشيخ الانصاري، والشيخ جعفر كاشف الغطاء.

الحوزة تدخل البيوت لأول مرة

استمرة المسيرة العلمية في كربلاء المقدسة بوجود الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي قادماً من سامراء بعد وفاة استاذه وزعيم الحوزة العلمية آنذاك؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، ونظراً لقصر فترة زعامة الميرزا محمد تقي الشيرازي، و تأثر فترة زعامته بالاحداث السياسية في العراق، وفي مقدمتها؛ اندلاع ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، فان محورية الحوزة العلمية انتقلت الى النجف الأشرف بزعامة المرجع الديني السيد ابوالحسن الاصفهاني، بيد أن بريق الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة انقدح مرة اخرى بوجود شخصية علمية طموحة قادمة من ايران هو؛ المرجع الديني السيد حسين القمي، الذي دعا الميرزا مهدي الشيرازي المقيم في النجف الأشرف للقدوم الى كربلاء المقدسة و بعث الحياة من جديد الى هذه الحركة الحضارية، وكان ما كان من انطلاقة جديدة لنشاط علمي اتخذ منحىً جديداً ومتطوراً في تاريخ الحوزة العلمية بأن بدأ العمل على التثقيف الديني في اوساط المجتمع، وجعل الحوزة العلمية، وما تضم من طلبة وعلماء، ومباني مشيّدة، جزءاً من الحياة الاجتماعية لأهالي كربلاء المقدسة، وهو المنهج الذي سار عليه المرجع الديني الراحل، والابن الأكبر للميرزا مهدي الشيرازي؛ السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-.

ومعروف عن كربلاء المقدسة احتضانها لعديد المدارس الدينية القديمة منذ قرون مثل؛ المدرسة الحسنية، ومدرسة سردار حسن خان، والمدرسة الهندية، ومدرسة باكوبة، وغيرها الكثير من المدارس التي كانت تدور في فلك الحوزة العلمية الناهضة آنذاك، وفي عهد المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في نهاية الخسمينات ومطلع الستينات، بادر الى مشروع حضاري مبدع لبعث الروح في الدور الإصلاحي والتغييري في هذه الحوزة، وهو تأسيسه لمدارس "حفاظ القرآن الكريم" للبنين والبنات، يكون دورها استقطاب الاطفال الصغار لتعليمهم القراءة والكتابة، وايضاً؛ دروس في الفقه والقرآن الكريم، ومن ثم يكونوا مؤهلين لدخول الحوزة العلمية بأرضية دينية وأخلاقية، أغلب هذه المدارس الدينية ومدارس الحفاظ طالها الهدم بداعي التوسعة خلال العقود الماضية، ولم يبق إلا المدرسة الهندية الى جوار مرقد الامام الحسين، في محلة باب الطاق، وايضاً مدرسة حافظات القرآن الكريم للبنات الكائن حالياً بجوار "طاق الزعفراني" في نفس المحلة.

والخطوة العلمية الاخرى التي بادر اليها الامام الشيرازي الراحل؛ تأسيس مدرسة رديفة للمدارس الحكومية بأشراف ديني –مرجعي، تقوّم المناهج الدراسية بشكل يدرس الطالب فيها العلوم الحديثة والعلوم الدينية والأخلاق ايضاً، وحملت اسم "مدرسة الامام الصادق" الكائنة في شارع الامام علي، عليه السلام، والمبنى قائم على وضعه حتى اليوم.

العلم الذي يقود الحياة

هكذا يجب ان يكون لنعرف مصداقية المقولة: "العلم نور والجهل ظلام"، والتأكيدات الوافرة من المعصومين بنشر العلم، وأن "زكاة العلم نشره"، و"على العالم أن يظهر علمه"، والحثّ المشدد على "العالم العامل" الذي يتسلّح بعلمه لمواجهة ما يهدد المجتمع والامة من الهجمات الفكرية والثقافية، وفي نفس الوقت يحافظ على سلامة المجتمع ديناً وأخلاقاً، بل ويسعى لخلق أفضل البدائل لحياة سعيدة. 

وهذا ما تميزت به الرسالة العلمية لكربلاء المقدسة منذ ارتفاع رايتها، فمن الزوايا العلمية لهذه الحوزة خرج الشيخ محمد المجاهد ليقاتل الغزو الروسي لايران في نهايات القرن التاسع عشر، ومنها خرجت أول فتوى في التاريخ الشيعي تبيح حمل السلاح بوجه قوة استعمارية غاشمة في العراق، ومنها خرجت أول فتوى صادعة ضد الغزو الفكري –الماركسي، من المرجع الديني في كربلاء السيد ميرزا مهدي الشيرازي، وعاضدت فتوى المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد محسن الحكيم بحرمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، وخرجت من هذه الحوزة كبار الخطباء والعلماء والأدباء الذين أغنوا الثقافة الاسلامية والانسانية بعطائهم الثرّ. 

ليس على صعيد الحوزات العلمية فقط، وإنما على صعيد التعليم الحكومي ايضاً، فقد كانت كربلاء المقدسة متميزة منذ تأسيس المدارس في بدايات تأسيس الدولة العراقيية، وحتى اليوم، بالمستوى العلمي المتألق الذي خرج العشرات من العلماء في شتى الاختصاصات، قدموا خدمات جليّة لشعبهم وأمتهم، مثل المهندس المعماري المرحوم محمد علي الشهرستاني.

ذات صلة

النهضة الحسينية.. سلطة القيم في مواجهة أوهام السلطةالمقاربات الاسرائيلية اتجاه قطاع غزة بعد المواجهة العسكرية مع ايرانلماذا يجب أن نشارك في الانتخابات البرلمانية المقبلة؟حرب الـ 12 يوماً.. صمتت المدافع وتعالى ضجيج الأسئلة والتساؤلاتثورة العشرين أمّ الثورات