معطيات الانفتاح وشروط التوازن
مرتضى معاش
2017-05-14 04:54
لاشك أن الانفتاح بحد ذاته قادر على منح الإنسان الكثير كي يستطيع أن يتعلّم ويثري نفسه عبر تلقيه ما يقوده نحو بناء نفسه، وإحداث التقدم في حياته، إذ إن التواصل مع الآخرين يجعل الفرد والمجتمع في ناصية الاحتكاك المباشر الذي يثير روح الحركة والحيوية؛ لذلك فإن أغلب الحضارات المتقدمة هي التي كانت على طول الخط في دائرة الاحتكاك المباشر مع الآخرين، وهي التي تستطيع أن تسترجع باستمرار عناصر النمو والتقدم والفاعلية؛ ومن هنا فإن الانفتاح يمكن أن يثمر مجموعة من المعطيات الإيجابية.
1- القدرة على فهم الآخر والتجاوب الفعال معه، فالإنسان هو أخو الإنسان، ليس من ناحيته البشرية والخلقية فقط وإنما من ناحية الانعكاسات المتبادلة والتأثيرات المشتركة، فالحضارة الإنسانية هي مجموعة تفاعلات مشتركة تعتمد على التفاهم والتعايش البشري، تقود إلى غايات إنسانية تتفق عليها الفطرة الإنسانية ويسير نحوها العقل لبلوغ الكمال والتكامل.
ومع انقطاع خطوط التواصل الإيجابي، تنقطع الغايات الإنسانية، وتنشأ حالات من سوء الفهم وعدم القدرة على فهم الآخر بصورة سليمة، مما ينعكس على شكل عداء مبطن بسوء الظن وظاهر بأشكال عدائية عنيفة مختلفة. وإذا أردت أن تكتشف اغلب الصدامات والنزاعات تظهر لك صورة واضحة عن عدم وجود انفتاح مسبق يستمد إيجابيته من حوار متبادل يسعى لفهم الآخر وأهدافه ومصالحه.
إن فهم الآخر عبر الانفتاح عليه، يزيل الكثير من التشوهات التي خلّفها الزمن المنقطع فحولها إلى جبال متراكمة من الحقد والعداء، وكذلك فان الانفتاح على الحضارات الأخرى يعطينا الأسباب المعرفية للوقوف على روح التقدم الذي تعيشه، ويثرينا بتجارب ايجابية بناءة كما انه يفتح علينا أبواب السلام والتعايش معها؛ وبالتالي يمكن تجاوز الكثير من الصراعات التاريخية القديمة عبر الانفتاح عليها وإيصال وجهات نظرنا الصحيحة والتي ينقلها البعض بصورة مشوهة ومغلوطة. يقول الإمام الرضا (ع): (رحم الله عبدا أحيا امرنا، فقلت (الهروي) له: فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا).
2- الانفتاح قوة؛ إذ كيف تستطيع الأمة أن تدخل معترك الصراع الحضاري، وهي لا تمتلك تجارب غنية تساعدها على التعامل باستقلالية مع الآخرين؟، وهي في ذلك إما أن ترتمي في أحضان الأقوياء وإما أن ترجع إلى داخلها متحصنة منغلقة وفي كلتا الحالتين تزداد ضعفاً وهشاشة، لكن الانفتاح المتوازن يعطيها القدرة والتجربة على التعامل النّدي وتساهم في تقوية البنية الفكرية والاجتماعية العامة.
3- الانفتاح يقود إلى آفاق جديدة، تتحقق عبر الهجرة الجغرافية والنفسية والفكرية إلى عوالم أخرى يمكن أن تمد الفرد والأمة بالكثير، وكذلك يمد الفرد المؤمن الآخرين بالكثير من المعطيات الإيمانية التي يمتلكها عبر تجسيد الرسالة التي يحملها سلوكياً وفكرياً، فالغرب اليوم متمثلاً بشعوبه؛ يمتلك أسباب القوة التقنية والمدنية، ولكن يحمل عداءً كبيراً للمسلمين نتيجة لعدم وجود قنوات التواصل الثقافي والحواري؛ مما يخلّف تراكمات سلبية تنعكس بأشكال عدائية.
لكن الانفتاح يخلق آفاقا جديدة نكتشف فيها أبعاداً جديدة من الحيوية والتطور، وفي نفس الوقت يحرك عملية التبادل الثقافي التي تتحقق عبر فهمه للإسلام كدين حضاري يحمل الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية التي يفتقدها. لذلك نرى أن الإسلام قد انتشر بشكل كبير في الغرب نتيجة لهجرة المسلمين وتعرف الناس على حقيقة الإسلام، وان كان الانتشار ضعيفا على مستوى الطموح الكبير لعدم تنظيم المسلمين أنفسهم بشكل اكثر تكاملية وجدوائية، ولكن المستقبل قد يحدثنا عما قريب عن انتشار الإسلام في الغرب بشكل واسع، خصوصا عندما يستثمر المسلمون عنصر الانفتاح الايجابي والتواصل الحواري.
4- الانفتاح يثير الإبداع ويحقق الجديد، فكيف يمكن توقع الإبداع من الفرد دون وجود عوامل تستثير الإنسان وتحركه نحو العطاء الخلاق؟، فالانغلاق يميت الروح الإبداعية ويوقفها عن النشاط الحيوي بعد أن تفقد مستثيراتها؛ لذلك نرى أن أغلب الحضارات أبدعت وأعطت عندما واجهت تحديات وإبداعات الآخرين، فالتواصل الفكري يغني بالأفكار الجديدة، وعندما تواجه إبداعات الغير مواجهة استنكارية، فهذا يقود إلى قتل الإبداع في داخلي لأنه بنكران إبداع الآخرين اقتل روح التنافس في فكري وروحي(1).
وكذلك فإن الحاجة الإنسانية المستمرة لإيجاد التكيف السليم والصحي في الحياة تستدعي من الأمة والفرد البحث عن الجديد لتنشيط كيان الأمة، فليس كل جديد هو أمر مرفوض -كما يرى البعض ذلك- بل لابد من متابعة الجديد ووضعه في دائرة النقد والتمحيص من أجل استخراج العناصر النافعة منه. وقد وردت روايات كثيرة من التراث الإسلامي الشريف تحث الإنسان على طلب الحكمة من الآخرين والتزود من علومهم ومعارفهم؛ منها ما ورد عن رسول الله (ص) قوله: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها). وعن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال: (الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها). وكذلك عنه (ع): (خذ الحكمة ممن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال). وعن المسيح (ع): (خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقاد الكلام).
شـــــروط الانفتـــاح
قد يتحول الانفتاح إلى سلاح ذي حدين عندما يكون هذا الانفتاح متجسداً باستيراد القيم الفاسدة والاخلاقيات المريضة والاستهلاكية النهمة والتبعية الاقتصادية والسياسية، وعندما لا تتوفر فيه الشروط الموضوعية التي تحقق التوازن الواعي في عملية التبادل الثقافي، لذلك لابد من تحقيق تلك الشروط في كل فرد ومن ثم في الأمة للاستفادة من هذه الحالة بشكل إيجابي؛ ومن هذه الشروط:
1- الثقة والإيمان الوثيق؛ فمع الروح الانهزامية، وفقدان الثقة بالنفس، التي هي نتيجة أساسية لعدم الثقة بالله والثقة بحضارتنا وتراثنا، يتحول الفرد إلى مجرد تابع مطلق للآخرين، لكن إيمان الإنسان بالله وبنفسه وقدرته، بعد أن يتسلح بالعلم والمعرفة الواعية يجعله قادرا على فهم عملية الانفتاح بشكل متوازن دون إفراط أو تفريط، فعن الإمام الصادق (ع): (ثق بالله تكن عارفا).
2- التوازن في الانفتاح؛ إذ إن عملية الانفتاح هي عملية تبادلية تعتمد على الأخذ والعطاء، فلا يمكن القبول بكل ما يفرزه الآخرون من نتاجات دون وجود انعكاس مباشر، ودون عملية تمحيص ونقد، وبنقدنا للآخرين نقداً موضوعياً نستطيع أن نفهمهم بشكل واضح، وان نتعامل معهم على ضوء هذا الأفق النقدي التبادلي؛ لذلك نرى أن الغزو الاستعماري لم يكن مجرد عملية اتصال استعماري، أو عملية تبادل تأثير قيمي حُر، أو تفاعل متكافئ بين مجتمعين يقفان على مستوى متماثل أو متقارب من حيث السيادة وحرية القرار واستقلالية المواقف، بل إنه انعكاس دقيق لعملية غزو حضاري في محاولة لفرض قيمها على هذه المجتمعات(2).
إن ما نراه اليوم في الكثير من المناطق في عالمنا الإسلامي، هو انفتاح سلبي غير متوازن يعتمد على التلقي فقط من الآخرين دون وجود استجابة انعكاسية تعتمد على النقد والحوار، وهذا النوع من الانفتاح خطير يؤدي إلى مسخ هوية الأمة حضارياً ويقضي على روحها الإبداعية، ويوقف نشاطها الحيوي المتبادل.
3- المؤسسات كبنية للانفتاح، يمكن أن تؤدي دوراً كبيراً في عملية الانفتاح المدروس، حيث يحصن الفرد بشكل جيد على النقد الواعي في عملية التبادل؛ فالفرد عندما ينمو في مؤسسات تربوية ناضجة ينمو وهو يمتلك الأسس والثوابت التي تجعله قوياً في معترك الاتصال، واللقاء مع الآخرين، وهذه المؤسسات التي يجب أن تكون ديمقراطية في سلوكها وتوجهها، وتعتمد على التنوع الإبداعي الفعال تستطيع أن تربي الفرد على قيم متنوعة ومختلفة ومناهج معرفية شاملة بحيث يمتلك الفرد ثقافة نوعية أساسية تكون في جوهرها ثقافة انفتاحية على الآخرين وفي أسلوبها هي مواجهة ندية وموضوعية.
لا يمكن لنا أن نبقى نجتر التخلف، ونسكن خلف الكواليس، فالانغلاق لا يزيدنا إلا بؤسا وجهلا وتبعية، والانفتاح يفتح أمامنا آفاقا جديدة يمكن أن تتمخض في المستقبل التاريخي المنظور عن ولادة نهضوية متوازنة تتمسك بالأسس والثوابت وتتطور وتتقدم بالجديد والحديث.