عقد الزهراء (ع) المبارك
شبكة النبأ
2022-12-06 08:15
كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على جانب كبير من الزهد، ومعنى الزهد: التخلّي عن الشيء وتركه وعدم الرغبة فيه، وكلّما ازداد الإنسان شوقاً إلى الآخرة ازداد زهداً في الدنيا، وكلّما عظمت الآخرة في نفس الإنسان صغرت الدنيا في عينيه وهانت، وهكذا كلّما ازداد الإنسان عقلاً وعلماً وإيماناً بالله ازداد تحقيراً واستخفافاً لملّذات الحياة.
أرأيت الأطفال كيف يلعبون، ويفرحون، ويحزنون ويتسابقون ويتنازعون على أشياء تافهة يلعبون بها، فإذا نضجت عقولهم وتفتّحت مشاعرهم تراهم يبتعدون عن تلك الألاعيب، ويستنكفون من التنازل إلى ذلك المستوى ويعتبرونه منافياً للوقار، ومُخلاًّ للشخصية، كل هذا بسبب تطوُّر مداركهم، وانتقالهم من دور الصبا إلى مرحلة الرجولة والنضج.
نعم، هكذا كان أولياء الله، كانوا ينظرون إلى حطام الدنيا نظرة تحقير واستهانة، ولا تتعلّق قلوبهم بحب الدنيا وما فيها، ولا يحبّون الدنيا للدنيا، بل يحبّون الدنيا للآخرة، يحبّون البقاء في الدنيا ليعبدوا الله تعالى، يريدون المال لينفقوه في سبيل الله عزّ وجل، لإشباع البطون الجائعة وإكساء الأبدان العارية وإغاثة الملهوف وإعانة المضطر.
بعد هذه المقدّمة يسهل عليك أن تدرك أُسس الزهد عند السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي عرفت الحياة الدنيوية، وأدركت الحياة الأخروية، فلا عجب إذا قنعت باليسير اليسير من متاع الحياة، واختارت لنفسها فضيلة المواساة والإيثار، وهانت عليها الثروة، وكرهت الترف والسرف.
فلا غرو، فهي بنت أزهد الزهّاد، وحياتها العقائدية ملازمة للزهد وحياتها الاجتماعية أيضاً تتطلّب منها الزهد، فهي أولى الناس بالسير على منهاج أبيها الرسول الزاهد العظيم (صلى الله عليه وآله).
وحياتها الزوجية تبلورت بالزهد والقناعة، فلقد كان زوجها الإمام علي (عليه السلام) أوّل الناس وأكثرهم إتباعاً للرسول في زهده، ولم يشهد التاريخ الإسلامي رجلاً من هذه الأُمّة أكثر زهداً من علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وهو الذي كان يخاطب الذهب والفضّة بقوله: يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري. وقد أمر علي (عليه السلام) لأعرابي بألف. فقال الوكيل: من ذهب أو فضّة؟ فقال علي: كلاهما عندي حَجَران، فأعطوا الأعرابي أنفعهما له. وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا الموضوع في كتابنا: (علي من المهد إلى اللحد) وإنّما تطرّقنا هنا إلى زهد علي (عليه السلام) بمناسبة حديثنا عن زهد السيدة فاطمة الزهراء، وقد مرّ عليك -فيما مضى- بعض الأحاديث عن زهدها وإنفاقها في سبيل الله في باب زواجها ونزول سورة هل أتى وغيرهما.
بركة عقد فاطمة
في السادس من البحار عن كتاب (بشارة المصطفى)، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:
صلَّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة العصر، فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب، عليه سمل قد تهلّل وأخلق (1) وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فارشني (2).
فقال (صلى الله عليه وآله): ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.
وكان بيتها ملاصقاً بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يتفرّد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة.
فانطلق الأعرابي مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين.
فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمَن أنت يا هذا؟
قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا -يا بنت محمد- عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.
وكان لفاطمة وعلي -في تلك الحال- ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شأنهما.
فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ (3) كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيّها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.
فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ (4)
قال: فعمدت فاطمة - لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.
فأخذ الأعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبي (صلى الله عليه وآله) جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.
قال: فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيّدة بنات آدم.
فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربّي، ودينار يبلغني إلى أهلي.
وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.
فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيّها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.
وعاد الإعرابي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأُمّي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللّهمّ أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللّهمّ أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت... وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فادفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنت له.
فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.
فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربّه أي إلى صاحبه.