الإمام الصادق وبناء الجامعات في مقابل بناء القصور الرئاسية
محمد علي جواد تقي
2021-06-05 04:55
"ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين". ربما يكون هذا النوع من الكلام، أشدّ وأمضّ ما نُقل عن إمام معصوم يخاطب فيه الموالين والمؤمنين –على حدّ علمي-، وقد جاء عن أمير المؤمنين، عليه السلام، من قبل، الكثير من التقريع والتأنيب للمسلمين في عهده، وهم لم يكونوا أصحاباً مقربين كما قصدهم الامام الصادق، فما مدى أهمية التفقّه في الدين ليفضّله الامام على التفقّه في السياسة –مثلا- او الاقتصاد، في وقت كان أحوج ما يكون في تلك الفترة لخوض غمار السياسة وعدم السماح للعباسيين للصعود الى قمة الحكم؟
الدين الحِصِن الداخلي
قبل الاجابة على هذا السؤال، تجدر الاشارة الى بعض الاحداث السياسية والاجتماعية التي رافقت حياة الامام الصادق، عليه السلام، ورسمت نهايات الحكم الأموي، فقد كانت الأمة آنذاك على صفيح ساخن بسبب طغيان الأمويين وفسادهم وعنصريتهم المقيتة واستغلالهم البشع للثروات، وإمعانهم في الملذات والفجور على مرأى ومسمع من المسلمين في كل مكان، فاجتمعت كلمة المسلمين، بكل توجهاتهم الفكرية والمذهبية للتخلّص من هذا الصنم الجاثم على صدورهم مهما كلف الثمن.
وهذا ما كان يخشاه الامام الصادق، كما تحفّظ عليه جدّه أمير المؤمنين من قبل، فالحكم والسياسة وسيلة لتحكيم القيم والمبادئ في الحياة، فلابد بالأول؛ الاطمئنان من سلامة هذه القيم السماوية التي ضحى من اجلها رسول الله، وأصحابه وأهل بيته، ومن ثم التفكير في تشييد هيكل القيادة السياسية على اساسه، لذا عكف الامام الصادق على نشر العلم والثقافة والمعرفة بين أوساط الامة، وتعريف المسلمين بأحكام دينهم، وما يتضمنه الاسلام من قوانين ونظم وآداب وأخلاق كما سنّه النبي الأكرم، وبينه القرآن الكريم.
بمعنى أن الامام الصادق، عليه السلام، بدأ مشروعاً عظيماً لنشر الوعي والثقافة في الامة يمكنها من مراقبة ومحاسبة كل فاسد ومنحرف من الحكام، بل وتكون لها اليد الطولى في ترشيح الولاة والحكام ليكونوا ممثلين صادقين عنهم، يستشعرون آلامهم، ويستجيبون لمطالبهم.
أما عن أهمية التفقّه في الدين فهو يأتي من شموله على كل النظم والقوانين والاحكام التي تسهل حياة الانسان في الحياة، الى جانب ما تضمنه من الفلاح والنجاح في الحياة الآخرة، يكفي مراجعة بسيطة لكتب الفقه، وتحديداً الرسائل العملية لمراجع الدين لنجد أن هذه الكتب عبارة عن منهج حياة متكامل، فهي الى جانب العبادات وتنظيم العلاقة بين الانسان وخالقه –سبحانه وتعالى- تنظم حياته في البيع والشراء، والعلاقات الزوجية، والتجارة، والقضاء، "وبهذا يكون لعلم الفقه أهمية كبرى في جميع الأمم والمجتمعات والأديان، لانه اذا لم تُنظم حركة الانسان والمجتمع فان الفوضى ستحكم الحياة، والحياة بلا ضوابط قانونية مصيرها الفوضى"، (الامام الصادق، مناهجه ومعالمه وتراثه- الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي).
يقول محمد بن مسلم، وهو من كبار رواة الشيعة، ومن اقرب المقربين الى الامام الصادق، ومن قبله، الامام الباقر، عليهما السلام: "سألت جعفر بن محمد الصادق عن ستة عشر ألف مسألة"، علماً أن محمداً هذا، واحد من مئات التلاميذ حول الامام الصادق ممن عدّتهم المصادر بنحو عشرين الف تلميذ، "وقد ذكر الشيخ المفيد أن الثقاة منهم أربعة آلاف فقط".
ويقول زرارة بن أعين، وهو علم آخر من الأعلام حول الامام الصادق، "كنت أسأل الامام الصادق، عليه السلام، اربعين عاماً عن مسائل الحج، فقلت له يوماً: ألا تنتهي مسائل الحج وأنا اسأل عنها منذ اربعين عاماً، فقال له الامام، عليه السلام: بيت يُحجّ إليه قبل آدم بألفي عام، فهل تريد أن تفنى مسائله في أربعين سنة"؟
ونحن هنا نسأل إن كان في العالم اليوم، او فيما مضى، أن توجه هذا العدد من الاسئلة لعلم من العلوم التي بحث فيها الانسان منذ فجر التاريخ، وحيث وعى وتعرف على حقيقة نفسه وحياته، غير العلوم الدينية؟
وهنا تحديداً نقف على جانب من شخصية الامام الصادق، ودوره الحضاري العظيم، و السرّ في اهتمامه بالعلوم الدينية، وايضاً بسائر العلوم في الحياة، فاذا كان قد ربّى إبّان بن تغلب ومحمد بن مسلم في مدرسة الفقه وعلم الكلام، فقد ربّى جابر بن حيان في مدرسة الكيمياء، وجاء في كتاب "الامام الصادق كما عرفه علماءالغرب"، أن الامام الصادق، عليه السلام، سبق العالم في علوم الرياضيات والفلك والطب، ويذعن علماء الغرب الى أن العالم مدينٌ في معظم المنجزات العلمية –إن لم نقل جميعها- الى الامام جعفر الصادق، عليه السلام، ولتلاميذه البارعين ممن ألفوا وكتبوا وسجلوا الملاحظات المحفوظة حتى اليوم في بلاد الغرب.
الاجتهاد بالسياسة قبل الاجتهاد بالدين
فيما كان الامام الصادق، عليه السلام، ماضياً في طريق نشر العلم والمعرفة في اوساط الامة، وتقوية قاعدتها الفكرية والثقافية، كان طلاب السلطة من العباسيين يبحثون في كل مكان عن الوسائل التي يتعكزون عليها للوصول الى قمة الحكم، ولما كانوا مدركين لعمق جروح العلويين من الحكم الأموي منذ واقعة عاشوراء، فقد عملوا لاستغلال شعار الثأر لدماء الامام الحسين وابنائه في كربلاء "يالثارات الحسين" لتكون في مقدمة جيوشهم الضاربة لاركان الحكم الأموي، وقبلها؛ تكون خير وسيلة لتعبئة الرأي العام وتحشيد الناس، وإضفاء الشرعية على تحركهم السياسي، ومن أقرب من الامام الصادق، عليه السلام، وهو من ابناء الامام الحسين،عليه السلام، ليكون الواجهة المقدسة لحركة الانقلاب على الأمويين؟!
كتب أبا سلمة الخلال، وكان من قادة الحركة العباسية، الى الامام، عليه السلام، أن "يابن رسول الله، كنا ندعو الى الرضا من آل محمد، والرضا من آل محمد هو أنت، وإنا ندعو اليك والأمر قريب وقد نصّبنا أبا مسلم الخراساني في مختلف الامصار...". و"لأن ابا سلمة كان يعلم رفض الامام الصادق لما بعث به اليه، كتب نسخة ثانية من الكتاب ووجهها بيد نفس الرسول وهو محمد بن عبد الرحمن بن اسلم، وكان جده مولاً لرسول الله، صلى الله عليه وآله، الى عبد الله بن الحسن المثنى بن الامام الحسن السبط، عليه السلام". (التاريخ الاسلامي، دروس وعبر- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، وهذا يكشف معرفة العباسيين بموقف الامام الصادق ومعرفته وافق تفكيره، لذا كتبوا الى ابن عمّه؛ عبد الله بن الحسن المثنى، وكان شيخاً كبيراً ومن وجهاء العلويين، وبعد أن ردّ الامام على رسول الخلال بحرق الرسالة والقول: "وما أنا وأبو سلمة؟! وابو سلمة شيعة لغيري"، جاء عبد الله بن الحسن المثنى الى الامام الصادق، ليخبره بوصول الكتاب المشابه اليه، وهو متفاعل مع هذه الدعوة و"أن ابي سلمة يدعوني الى ما اقبله وقد قدمت عليه شيعتنا من اهل خراسان"، فسأله الامام بكل هدوء عن مدى معرفته بأهل خراسان مما أثار انزعاجه ودفعه للقول: "والله ما يصنعك من ذلك إلا الحسد"! يقصد أن الامام الصادق يحسده على تقدمه الى قمة الحكم دونه، بينما كان الامام ينصحه بكل ودّ وشفقة، بل وكشف له عن آفاق المرحلة، وأن الحكم لن يكون له ولا لابنيه؛ محمد وابراهيم، رغم نواياهما الصادقة في الثورة على الأمويين، وتحكيم شرع الله في الامة، وحذره من غدر العباسيين وتفتكهم بعد استتباب الأمر وسيطرتهم على مقاليد السلطة، وهو ما حصل تماماً.
هذه الرؤية الحضارية والأفق البعيد في بناء الأمة هو الذي دفع بالعباسيين للتضييق على الامام الصادق واستفزازه ومحاولة تصفيته جسدياً عدة مرات، لاسيما في عهد المنصور الدوانيقي، بيد أن ذكاء الامام الصادق وحنكته وطريقة تعامله الحكيم مع الاحداث جعله في مأمن من شرورهم لسنوات طويلة، ولكنهم أصروا على محاربة العلم والمعرفة، وقتل الوعي في نفوس الامة باغتيال الإمام الصادق بالسمّ في مثل هذه الايام من سنة 148للهجرة، لتخسر الامة منذ تلك الايام وحتى اليوم قاعدة الانطلاق نحو التقدم العلمي والحضاري، وتكون نموذجاً يحتذى به للأمم، بينما ربح العباسيون السلطة والجواري والذهب والمغنين والشعراء المتزلفين، ويحتفظون بالدجالين والملحدين والالتقاطيين ليعيثوا في فكر الأمة وعقيدتها فساداً مايزال نشهده آثاره حتى اليوم.