الإمام الحسن المجتبى والنزال التاريخي بين الذكاء والدهاء

محمد علي جواد تقي

2020-09-26 07:03

"أيها الناس! لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، إلا أن لكل غدْرة فجْرة، ولكل فجْرة كَفْرة، ألا وأن الغدر والفجور والخيانة في النار"
أمير المؤمنين، عليه السلام

في ميزان الانتصار او الهزيمة، تحتاج المعارك الفاصلة الى خطط دقيقة واجراءات سريعة قبل تلقي الرد من الجانب الآخر فتكون الخسائر كبيرة لا تعوّض، وفي معظم حروب العالم كان التخطيط –وما يزال- يرتكز على الدهاء والخديعة لتضليل العدو، او مباغتته وإحراز النصر عليه في وقت قياسي، وهذا ما فعله رسول الله، صلى الله عليه وآله في قبل صلح الحديبية عندما أسر المشركين جمعاً من المسلمين وكانوا مرسلين وحسب، وهو خلافاً للاعراف المتبعة، فكان الرد من النبي الأكرم أن بعث بسرية خاصة يقودها أمير المؤمنين، لأسر مجموعة من المقاتلين المشركين بغية مقاضاتهم بالأسرى المسلمين، فكان اعتراض عمر بن الخطاب، فجاءه الجواب منه، صلى الله عليه وآله: أن "يا عَمر! إنما الحرب خديعة".

وفي عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، بلور مفهوم "الحرب خديعة" للأمة بأنها لن تخرج عن إطار القيم السماوية، وبما أنه قاتل على التأويل كما قاتل رسول الله على التنزيل، فانه أمين حفيظ على القيم والمبادئ التي ضحى من أجلها رسول الله، وغير عابئ بما لديه من مكانة سياسية واجتماعية (الحكم)، فهو قد وزنها بإحدى نعليه، إنما الهدف الرسالي له، عليه السلام، هو بناء الإنسان والتربية والتنشئة على الالتزام بقيم الحق، وتفضيلها على المصالح الآنية والشخصية.

وعلى هذا النهج سار الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، في مواجهة المارقين في الشام بقيادة معاوية، وقبل الدخول في البحث عن نمط تفكير الامام الحسن في الحرب مع معاوية، أرى اللازم التذكير بأنه، عليه السلام، إنما واجه أناس يدينون بدين الاسلام؛ يصلون ويصومون ويحجون، إنما التضليل والخداع والمكر هو الذي ملأ هذا الإطار الاسلامي الظاهري، ول أدلّ على ذلك، لقائه بذلك الشامي في المدينة، وقد ابتعد، عليه السلام، عن السياسة والحكم، وبقي إماماً على الأمة يعيش بهدوء في مدينة جدّه، فما أن رآه أنهال فوراً بالسباب والشتم له لأبيه أمير المؤمنين! فلم يكن الرد سوى الابتسامة، والإرشاد، ثم الإهداء اليه بمال سخي أذهل الشامي وجعله يغير تفكيره وموقفه كاملة من الباطل الى الحق، ولذا كان الإمام الحسن، شديد الحذر والتحسس من اسلوب الدهاء المعروف في الحروب، بل كان يفضل الذكاء عليه وإن كلفه ذلك سمعته وحياته ومختلف الضغوط الشديدة التي تعرض لها طيلة فترة حياته من بعد أبيه أمير المؤمنين.

جاء في مصادر اللغة العربية أن الدهاء هو "المكر والاحتيال"، و"الدهاء: العقل" وهو "جودة العقل". وجاء عن الامام الصادق، عليه السلام، في سؤاله عن العقل قال: "ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان" قال الراوي: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل".

أما الذكاء فهو "ذَكاءُ النَّارِ: شِدَّةُ وَهْجِها"، و "ذَكاءُ الإِنْسانِ : قُدْرَتُهُ على الفَهْمِ والاِسْتِنْتاجِ والتَّحْليلِ والتَّمْيِيزِ بِقُوَّةِ فِطْرَتهِ وَذَكاءِ خاطِرِهِ"، و "ذَكَتِ الحَرْبُ : اِشْتَدَّتْ".

ويتضح لنا من المعنيين أن الدهاء ربما يفضي الى الباطل اذا صدر من انسان غير سليم الطوية، وغير نظيف القلب والنفس، بينما الذكاء لا يصدر إلا من صاحب فطرة سليمة وقلب ناصع ونفس أبية، لذا تكون مكلفة لصاحبها، مثمرة في قادم الأيام، وهذا كان خيار الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام.

كيف حقن الإمام الحسن دماء المسلمين؟

من بين الإجابات على اللوم المرير من مقربين على توقيعه معاهدة الهدنة مع معاوية أنني "ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَباطُؤَ أصحابي ونُكولَهم عن القتال"، وهذا يثير التساؤل: أوليست الحرب قتل وقتال؟!

ممن كتبوا وبحثوا في سيرة الإمام الحسن، وتحديداً في تلك الظروف العصيبة، سلطوا الضوء على الظروف الاجتماعية والنفسية لأهل الكوفة، الحامية العسكرية الاولى للإمام الحسن، والمنطلق نحو قتال جيش معاوية، فقد كانت الكوفة، ومنذ نشأتها مقسمة على ولاءات وانتماءات عدّة لم يجمعها سوى إطار الإسلام، وهذا ما أرهق أمير المؤمنين من قبل، لذا فان الجيش المتمخض من هذا المجتمع يكون بالضرورة صورة طبق الأصل له، فقد "قسّم المؤرخون جيش الإمام الحسن إلى أقسام:

1- الشيعة المخلصون الذين اتَّبعوه لأداء واجبهم الديني، وإنجاز مهمتهم الإنسانية، وهم قلّة.

2- الخوارج الذين كانوا يريدون محاربة معاوية والحسن، فالآن وقد سنحت الظروف فليحاربوا معاوية حتى يأتي دور الحسن، عليه السلام.

3- أصحاب الفتن والمطامع الذين يبتغون من الحرب مغنماً لدنياهم، من أمثال الأشعث الكندي.

4- شكَّاكون لم يعرفوا حقيقة الأمر من هذه الحرب، فجاؤوا يلتمسون الحجة لأيٍّ تكون، يكونون معه.

5- أصحاب العصبية الذين اتبعوا رؤساء القبائل على استفزازهم لهم على حساب القبيلة والنوازع الشخصية". (الامام الحسن قدوة وأسوة- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

هذا التشضّي القاتل في المجتمع الكوفي هو الذي حال دون تنفيذ الإمام الحسن خطة استيعاب الناس كما فعل جدّه المصطفى مع افراد المجتمع المكّي بعد دخولهم الاسلام، رغم الكم الهائل من الترسبات الجاهلية، بل وحتى الاحقاد والضغائن على النبي وعلى الاسلام، كما كانت في نفوس أبي سفيان وابنه معاوية، و رؤوس الشرك والفساد في الجاهلية، فكان يغدق عليهم لاستمالتهم واستيعابهم في كيان المجتمع الاسلامي الأول، ولتقوية شوكة الإسلام أمام من تبقى من المعاندين والمشركين.

وهذه النقطة الدقيقة كانت محط تسليط الضوء في كتاب "ثورة الامام الحسن" لسماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي –طاب ثراه- حيث بين أن "معاوية كان يقود جيش له خبرة رومية تعود لـ 500 سنة من التنظيم والتسليح، فكانوا يقاتلون مطيعين منظمين، وعندما جاء الاسلام تغير لون هذا الجيش، و اصبح اسلامياً بالظاهر. بينما الكوفة، فهي مدينة حديثة النشوء حضرياً، وحديثة النشوء اجتماعياً، فقد كانت موزعة بالولاءات والانتماءات ولذا لم تكن صالحة للحرب مع علي، ولم تكن كذلك مع الحسن، وايضاً؛ مع الحسين، ولا مع المختار، ولا حتى مع مصعب الزبير، حتى الامويون لم يتمكنوا من الاستفادة من جيش الكوفة، فقد جاء في التاريخ ان الحجاج لم يقاتل بأهل الكوفة، وانما بجيش الشام، حتى العباسيين قاتلوا بجيوش من خراسان لانها كانت واضحة المعالم في الولاء والنتظيم".

هنا نجد عبقرية الامام الحسن في السياسة وادارة المجتمع والأمة في أروع صورها عندما اختار لأهل الكوفة، وليس فقط لأفراد الجند، عملية الغربلة والهزّة النفسية الداخلية ليختبروا بانفسهم قدراتهم في فهم الدين وفي استيعاب القيم والمبادئ مثل؛ طاعة الإمام المعصوم، والاستقامة، والصبر، "فالثورة تحتاج لانتفاضة تهزّ المجتمع، ومن فوائدها: استقطاب العناصر الخيّرة، وكشف ثغرات وزيف العدو"، (ثورة الامام الحسن)، ثم إنه، عليه السلام، فطن الى سر قوة معاوية، الى جانب تماسك جبهته الداخلية، فقد كان يحظى "بجبهة ثقافية طائلة، فعندما تصطدم بشخص له جبهة ثقافية وعقلية خداع ومكر وتمويه فهذا انتحار معنوي وهدم للاسلام". وبذلك؛ ضمن الإمام الحسن المجتبى بقبوله الهدنة، والتخلّي عن الحكم، أرواح المسلمين، وإبقائهم على ولاءاتهم المتنوعة، والأهم من هذا؛ الحفاظ على كيان الإسلام ومستقبله مما يخطط له الأمويون للقضاء عليه.

بين الدهاء والذكاء.. الغباء يقرر المصير!

احياناً يكون التحدي خارجياً وحسب، كأن تكون هنالك مخططات ومكائد، ولكن؛ بالامكان مواجهتها وتفنيدها بخطط وهجمات مضادة، كما يحصل اليوم في ميادين الحرب النفسية، والحرب الاقتصادية، والحرب السياسية، فضلاً عن الحرب الساخنة، أما اذا كان ثمة تحدي من الداخل، على شكل هشاشة في العقول، وقصور في الإدراك والفهم مما يخلق مواقف واحكاماً قاتلة، فهي المحنة الأكبر.

لنتصور قائد جيش مثل عبيد الله بن العباس الذي ولاه أمير المؤمنين على البصرة، وقد قدم الكوفة بعد تولّي الإمام الحسن الخلافة والحكم بعد أبيه، فمحضه، عليه السلام، الثقة العالية وسلّمه جيش قوامه ثلاثة آلاف جندي بين فارس وراجل مدججين بالسلاح لمواجهة جيش الشام، وكان يناديه "يا ابن العم"، ولكن هذا القريب اللصيق يكون معرضاً بشكل مذهل لاهتزاز في القلب لمجرد خبر يرد من شخص مثل معاوية في رسالة يدّعي فيها أنه يكاتب الامام الحسن على الصلح، وأن لا حاجة للقتال، فيتغير موقفه فوراً! طبعاً؛ هذا علاوة على تغريره بمليون درهم، و وعود معسولة بالمناصب والامتيازات مقابل التخلّي عن معسكر الامام الحسن، وهو ما فعله "ابن العمّ"!

والغريب أن هذا الشخص ينصح الإمام الحسن في كتاب له بأن يستخدم الدهاء "فإن المسلمين ولَّوك أمرهم بعد علي، عليه السلام، فشمّر للحرب وجاهد عدوك، وقارب أصحابك واشترِ من الظنين دينَه بما لا يلثم لك دنياه، و ولِّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة، فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق، وكانت عواقبه تؤدّي إلى ظهور العدل وعزّ الدين؛ خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور، وذلّ المؤمنين وعزّ الفاجرين، واقتدِ بما جاء عن أئمة العدل، فقد جاء عنهم أنه لايصلح الكذب إلاّ في حرب أو إصلاح بين الناس، فإن الحرب خُدعة، ولك في ذلك سعة إذا كنت محارباً ما لم تبطل حقّاً. و اعلم أن عليّاً أباك، إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء، وسوَّى بينهم في العطاء فثقل عليهم".

لقد غاب عن ابن العباس مقولة أمير المؤمنين، وقد كان من المعاصرين له، هو وإخوته؛ عبد الله، والقثم بن العباس، ولكن حسبنا النفوس وتقلبها، فقد قال، عليه السلام: "والله! لو أعطيت الأقاليم السبع على أن أسلب نملة جلب شعير ما فعلت"، فما بال ابن العباس ينصح الامام الحسن ليكون أكثر دهاءً ومكراً من معاوية لكسب الحرب والهيمنة على البلاد الاسلامية التي لم تكن سوى نقطة صغيرة مما وصفه أمير المؤمنين بالأقاليم السبع.

وحسناً قال أحد العلماء بأن سبطي رسول الله، الإمامين؛ الحسن والحسين، عليهما السلام، قدما للعالم أرقى سلام، وأفضل حرب في التاريخ، ما تزال الانسانية تنظر اليهما بإجلال واحترام، وتشع للاجيال الدروس والعبر في كل زمان ومكان. ولكن!

هل نأخذ السلام ونطبقه في كل زمان ومكان، او نأخذ الحرب ونطبقه في كل زمان ومكان بذريعة الاقتداء بالإمامين؛ الحسن والحسين، عليهما السلام؟

إنها "الأسوة" التي عرفها سماحة الامام الشيرازي بأنها "أن نعمل عمل رسول الله ثم نطوره، بمعنى أن علينا ان نذهب الى الحج كما فعل النبي، ولكن اليوم باستخدام الطائرة، وليس بالجمال والبغال"، وعليه؛ نحن مدعوون لأن نفكر كما كان يفكر الامام الحسن المجتبى، وكما كان يفكر أئمة أهل البيت، عليهم السلام، وقبلهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، وننتصر بالذكاء مثلهم، لا بالطرق الملتوية، ثم لنتطلع الى البناء الحقيقي في الحاضر والمستقبل، ونوقف مسلسل الخسائر الفادحة مادياً ومعنوياً.

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة