العباس بن علي (ع) نموذج وعي القيادة

محمد علي جواد تقي

2019-04-10 04:45

كان يصغر أخاه الحسين، بنحو؛ اثنين وعشرين عاماً، فهو ولد في السادس والعشرين من الهجرة، بينما الامام الحسين، ولد في الرابع للهجرة، حسب الروايات. وفي مطلع وعيه على الحياة وما يحيط به، كانت أمه؛ أم البنين، توصيه بأن عندما يلتقي أخاه الحسين، يجلس أمامه جلسة القرفصاء، أي "يتربّع" كما في اللهجة العراقية، كناية عن التتلمذ بمنتهى الأدب والخضوع، والسبب في ذلك؛ "أن الجالس أمامك يا ولدي.. ليس انساناً عادياً، إنما هو ابن بنت رسول الله"، وهو الذي نصّ على إمامته جدّه المصطفى بالحديث المتواتر والشهير: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".

"ليس هذا فقط؛ بل عليك أن تناديه دوماً بالسيادة وليس بالأخوة". فالعباس أخٌ للحسين من أبيه، بيد إن وعي القيادة تجده، هذه السيدة العظيمة، ذو أولوية وأهمية قصوى، فقد قرأت على يد أمير المؤمنين، آفاق المستقبل وما سيحصل ويجري للأخوين يوماً ما.

ولذا كان العباس ملازماً لأخيه الحسين، الى جانب العلاقة الودية والأخوية الاخرى مع الامام الحسن المجتبى، فقد ذكرت بعض الروايات أنه كان منذ الطفولة سريع الاستجابة لطلبات أخيه الحسين، فإذا أبدى العطش، انطلق العباس مسرعاً الى كأس ماء ويأتي به ويقدمه اليه.

وفق هذا المنهج التربوي نشأ العباس الى جانب أخيه الحسين، وفي مرحلة الفتوة والشباب، حيث تظهر علائم القوة والاقتدار، فان التطور الجديد فسيولوجياً هو الآخر كان في خدمة الامامة والقيادة، فقد كان السيف البتّار بين يدي أبيه أمير المؤمنين، في حروبه الثلاث، وهو فتىً يافع، وحسب الروايات التاريخية انه شارك في الحروب الثلاثة المفروضة على أمير المؤمنين، وهو في سن الرابعة عشر من العمر.

ومع تقدم العمر يزداد حبّاً ويتعمّق ايماناً وولاءً بأهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقبل ان يشهر سيفه في كربلاء، كانت يده على مقبض سيفه في المدينة، عندما شاهد نبال الفتنة والارهاب الأموي ترشق جنازة الامام الحسن المجتبى، بدعوى عدم الموافقة على دفن الامام الى جوار جدّه المصطفى، فجاءت إشارة التهدئة من الامام الحسين، والتسامي على الجراح حفاظاً على مستقبل الامة وكيان الاسلام، وهو المنهج الرسالي الذي لم يحد عنه الأئمة المعصومون، رغم الضغوطات الشديدة والتضحيات حتى الموت.

إن البطولة التي يستعيرها الأدباء والخطباء والمؤرخين لشخصيات عدّة في التاريخ، ربما تنحصر في مشاهد القوة البدنية، وايضاً الشجاعة والاقدام في سوح المعارك ومواجهة التحديات. كل هذا وغيره، كانت متجسدة في العباس بن علي بن أبي طالب، إنما المائز الذي جعله منارة للبطولة عبر التاريخ، هو البطولة مع البصيرة والوعي، وإلا ما الذي يمنع قائد عسكري مثل العباس في معركة ضروس مثل معركة الطف، وقد أجهده كثرة الاعداء ومن سقط بين يديه بين قتيل وجريح، من أن يشرب من الماء الذي صار بين يديه بفضل هذه البطولة والشجاعة، سوى هذه البصيرة، وهذا الوعي للقيادة السماوية التي كانت نصب عينيه أينما حلّ وارتحل، وفي كل الظروف والاحوال، حتى وإن كان في أشد حالات العطش، ولذا نجد أن الفاصلة بين غَرفَة الماء وفم العباس بعيدة جداً جداً، ربما لا يمكن حسابها وفق المقاييس الوضعية لانها تحمل قيماً ومفاهيم وتعاليم صنعت من العباس قائداً يجمع بين البطولة والشجاعة والوعي والايمان بما يتعذر على شخص آخر –من غير المعصومين- ان يحظى به.

وفي الختام؛ أجدني ملزماً بتوضيح مسألة مهمة تتعلق بشخصية ابي الفضل العباس، عليه السلام، ونحن نحتفل بذكرى مولده الشريف، وهو المولد الذي سرّ أمير المؤمنين، وأحزنه في وقت واحد، فهناك من يتحدث عن سبب عدم وجود ذكر للعباس في زيارة عاشوراء، وهي الزيارة ذات المضامين العالية والخاصة بالولاية والايمان، فنحن نسلّم، كما علّمنا الامام الصادق، عليه السلام، على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى اصحاب الحسين، وقبل أن ينعقد ايماننا بمنزلة العباس عند الله –تعالى- وعند النبي وأهل بيته، فان العباس هو نفسه، عليه السلام، عقد أوثق وأعمق الايمان بأهل البيت، عليهم السلام، ونذر نفسه وإخوته معه، في خدمتهم والموت بين يديهم.

يكفي أن نقرأ زيارة العباس كما علمنا إياه الامام الصادق، عليه السلام، لنعرف بالتحديد طبيعة العلاقة بين العباس وأخيه الحسين: "أشهد لك بالتصديق والتسليم والوفاء والنصيحة لخلف النبي"، كما نقرأ الفقرة الاخرى عند رجل العباس، عليه السلام، كما في آداب زيارته: "أشهد وأُشهد الله أنك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله المناصحون في جهاد أعدائه المبالغون في نصرة أوليائه الذابّون عن أحبائه". فالعباس قمة أصحاب الامام الحسين، عليه السلام، في الشجاعة والقيادة والبطولة في كل شيء، لذا احتفظ به، عليه السلام، ليكون آخر من يبقى معه من الابناء والأنصار في واقعة الطف، فبقي خالداً مع الزمن، شامخاً بصرحه واسمه وبطولاته الى جانب أخيه الامام الحسين، عليه السلام، وما أعظمه من خلود!

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي