الأسباب الكامنة وراء غيبة الإمام المهدي المنتظر
آية الله السيد محمد رضا الشيرازي
2017-05-13 07:27
(هنالك حكمةٌ كامنة وراء الغيبة لا نعلمها ولا يُشترط أن نعلمها ربما تظهر لنا في عهد الظهور) الفقيه الشيرازي
الغيبة ظاهرة عامة
يدور موضوعنا حول إمام زماننا وولي أمرنا الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، وهو يتعلق بالسبب الكامن وراء غيبته، هذه الغيبة التي يعدّها البعض تحدّياً كبيراً للقائلين بإمامة وبوجود الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، فلماذا كانت هذه الغيبة المحيّرة كما يقول هؤلاء؟
بدايةً ينبغي أن نعرف أن الغيبة ظاهرةٌ عامةٌ في حياة الأنبياء والأولياء، وهي ليست حالةً استثنائيةً تفرّد بها الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) حيث
يشير القرآن الكريم في مواقع متعددة إلى ظاهرة الغيبة في حياة الأنبياء والأولياء، فلعلّ الإنسان إذا قرأ القرآن الكريم بهذا المنظار يجد هنالك إشارات وتلويحات كثيرة في مواقع متعددة من القرآن الكريم تشير إلى فكرة وشؤون الإمام المنتظر.
فيبين لنا القرآن الكريم أنَّ هناك غيبة لنبي الله موسى بن عمران (عليه السلام)، كما تقول الآية الكريمة: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(1)، إذن فقد غاب موسى بن عمران (عليه السلام) عن قومه أربعين يوماً وهو نبيٌّ من الأنبياء العظام، حتى أنه لم يصطحب معه أخاه
هارون (عليه السلام) في هذه الغيبة، فكان وحيداً كما يبدو في هذه الغيبة القصيرة. ويثبت القرآن الكريم غيبةً أخرى، فإذا كانت غيبة موسى (عليه السلام) قصيرة، فهنالك غيبةٌ أخرى طويلة في القرآن الكريم، فقد غاب نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام) عن قومه بل غاب عن البشرية كلها، فقد مرّ على غيبة عيسى بن مريم (عليه السلام) حوالي ألفَي عامٍ.. وجاء في القرآن الكريم:
(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(2)، وجاء في آية أخرى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)(3)، ولا يزال عيسى بن مريم (عليه السلام) يعيش حالة الغيبة إلى الآن(4).
كذلك يثبت القرآن الكريم غيبة نبي الله يونس بن متّى (عليه السلام): (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(5)، فكم يوماً بقي في بطن الحوت؟ يقول بعض العلماء: بقي أربعين يوماً(6)، ومع أنه نبي مبعوث لكنه عاش أربعين يوماً في بطن الحوت، فهل قدح ذلك في نبوّته؟ وهل انْتَفَتْ عنهُ صفةُ النبوة بسبب هذه الغيبة؟ كلا..
ويثبت القرآن الكريم غيبة أهل الكهف: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)(7)، فقد غابوا ثلاثمائة عام حسب السنوات الشمسية وثلاثمائة وتسعة أعوامٍ حسبَ السنينَ القمريةِ، وكان هنالك كلام - كما أتذكر- هل يوجد أفراد بهذا الشكل أم لا؟ لأنه هناك أجيال عديدة تبدلت بعد مرور ثلاثمائة عام حيث يقول بعض علماء الحضارات: إنَّ الجيل يتبدل كل أربعين عاماً، ولذلك يوجد في الآية: (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ)(8)، حتى يتبدل هذا الجيل، فكم جيلاً تبدل في خلال هذه الأعوام الطويلة، لعلّ القضية نسيت أو اختلف فيها ولكن بعد هذه المدة الطويلة، (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)(9)، وإذا بأهل الكهف يعودون إلى الظهور بعد هذه الغيبة.
سبب الغيبة؟
إذا كانت ظاهرة الغيبة عامة فالسؤال عن علة الغيبة وسببها يكون سؤالاً عاماً أيضا، كما أن هذا السؤال لا يختص بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، إذ يجب أن يُقال لماذا غاب عيسى بن مريم؟ فالسؤال نفسه يرد، فهو إذن سؤال عامٌّ وليس سؤالاً خاصّاً، نعود بعد هذا المدخل إلى الأجوبة عن هذا السؤال بصيغته الخاصة، لماذا غاب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)؟
هنالك عدة إجابات في هذا البحث نتناول منها إجابتين ونَدَعُ بقيةَ الإجابات لمباحث قادمة:
الإجابة الأولى:
هي التي أجاب بها الشيخ الطوسي(10) (رحمة الله تعالى عليه) في كتابه (الغيبة (11) في ص85)(12)، ونحن نعتقد أن هذه الإجابة مفتاحٌ مهم من مفاتيح التعامل مع الدين ككل، ويمكن أنْ نُعَبِّرَ عنها بفكرة الحكـمة الـمجهولة -على الرغم من أنَّ الشيخ لا يستخدم هذا التعبير- هنالك في الحياة نقاط غموض تخص دائرة التكوين والتشريع، ونقاط الغموض هذه، أما أنّ عقلية البشر لا تستطيع فهمها، وأمّا أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل هذه النقاط غامضة لحكمة من الحكم..
في دائرة التكوين هنالك نقاط غموض، فأن يلاحظ الإنسان هذه النقاط بعيداً عن نظرية الحكمة المجهولة فربما يُبتلى بحالة من الإحباط والنكوص والارتداد.
ربما نُقل لكم قديماً، إنَّ رجلاً قال: مرةً ذهبت إلى أوربا فرأيت هنالك امرأة كانت تنكر وجود الله سبحانه وتعالى وتقول: لو كان الله موجوداً لما قامت الحرب العالمية الثانية، يبدو أنها اكتوت بنيران الحرب العالمية الثانية، وإنَّنا كبشر نعيش أحياناً مشكلات محيّرة في حياتنا، فلماذا يحدث هذا الشيء؟ فهو إما حدثٌ يتعلق بحياتنا الشخصية أو حدث يتعلق بالبشرية ككل، إنها نقاط غموض في الإطار التكويني، وهنالك نقاط غموض وإبهام في الإطار التشريعي، كم مثالاً لدينا؟ هنالك مئات الأمثلة على ذلك.
فكيف نواجه نقاط الغموض وفق نظرية الحكمة المجهولة، إنَّ هذه النظرية ترتبط ارتباطاً عضوياً مع مستوى الإيمان، أي كلما كان مُستوى الإيمان عالياً يكون الإيمان بالحكمة المجهولة أقوى، فنحن عندما آمنا بالله سبحانه وتعالى إيماناً يقينيّاً قاطعاً، وآمنا بأن الله سبحانه وتعالى حكيم ورحيم و ودود، (لاحظ مفردة (ودود) كم هي لفظة جميلة).
ويمكن كل انسان ان يبتلى مرةً بمشكلة مدمِّرة في حياته، والله تعالى يعرف كيف يبتلي الفرد في نقطة مدمرة من حياته، فكل شخص يبتليه الله تعالى بشكل أو طريقة ما، فيقول لماذا يا الله..؟ إن القضية تعد محلولة لأنك آمنت بالله وبحكمته، إنك تؤمن بأن الله ودود رحيم، وتؤمن بأن الله تعالى ما قدّر للمؤمن شيئاً إلا وهو خير له، إذن حُلّت المشكلة.
نعم إذا كان الشخص عديم الإيمان يجب أن يعود إلى الجذور، فإذا شعر أنَّ لديه شكّاً يجب أن يعود إلى إيمانه وجذوره.
العقيدة أولا
لا بأس أن ننقل لكم هذه القضية، ربما يكون مضمونها مفيداً، يقول العَمُّ (13)(حفظه الله): عندما جاءت الموجة الشيوعية إلى العراق قبل خمسة وأربعين عاماً تقريباً -كما أظن- قلت لوالدي (قدس سره)(14): ماذا نبحث مع الشباب؟ (لأننا كُنّا ندير هيئات شبابية) فقال والدي: ابحثوا معهم في أصول الدين فقط، ولا تبحثوا في أي شيء آخر، فلا تبحث معه لماذا حُرِّم خاتم الذهب على الرجل مثلاً، لأن هذه الأسئلة تبدأ ولا تنتهي، إنك وصلت إلى حل هذه المشكلة، لأن خاتم الذهب يحتوي على إشعاعات تؤثر على الكريات الحمر أو البيض لدى الرجال ولا تؤثر في النساء.
سؤال ثان: لماذا تشتمل صلاة الصبح على ركعتين وليست ركعة واحدة؟ ولماذا ليست ثلاث ركعات؟ كذلك لماذا يكون الطواف حول الكعبة سبعة أشواط وليس ثمانية أو ستة أشواط؟ قد يقول أحدهم: أنا اليوم مرتاح وصحتي جيدة ويعجبني أن أتوجه إلى الله سبحانه وأصلي صلاة الصبح أربع ركعات، لِمَ هذا غير ممكن؟! إن هذه الأسئلة التي تتعلق بالفروع تبدأ ولا تنتهي، لأنكم لا تصلون إلى نتيجة في هذا الجانب فينبغي عليك أن تثبّت قاعدة، والقاعدة هي: (الله، النبي، الإمام، المعاد) فإذا حُلَّت قضية العقيدة لدى الشاب فإن كل القضايا لديه تصبح محلولة، ولا يقتصر هذا الأمر على الدين بل في أمور الحياة الأخرى أيضا، فعندما آمنتم بأن هذا طبيب حاذق وفاهم ورحيم وودود، فكل ما سيقوله ستعملون به، إننا لا نفهم كثيراً من التعليمات التي يقولها لنا الأطباء، بل لا يمكن أن نفهمها، لأن الطبيب لا يتمكن من أن يُفهمنا إياها، كما لا يتمكن عالم من علماء الأصول أن يُفهم (المعنى الحرفي) لبقالٍ في رأس المحلة، لأن إفهام المعنى الحرفي لهذا البقال غير ممكن، ولكن عندما آمنت بالطبيب ستخضع لكل تعليماته، ولكن لماذا جاء قول الطبيب هكذا؟ إذن هي الحكمة المجهولة التي جاءت من خبيرٍ ودود، ولأنه عليم حكيم فقد حُلَّتْ المشكلة.
إذن النظرية الأولى التي يطرحها الشيخ الطوسي (رحمة الله عليه) في هذا المجال هي الحكمة المجهولة، فهنالك حكمةٌ كامنة وراء الغيبة لا نعلمها ولا يُشترط أن نعلمها، هل تظهر لنا هذه الحكمة في يوم من الأيام؟ ربما تظهر لنا في عهد الظهور، وإذا شكك أحد في هذا فيجب أن يشكك في إيمانه، إذن يجب علينا أن ننتقل إلى مرحلة متقدمة من الإيمان، فهل نؤمن بالله والنبوة والإمامة وبالإمام المنتظر؟ إذا انتهينا من هذه المرحلة فستكون جميع الفروع محلولة.
تعليق:
ويوجد هنالك تعليق مختصر على هذه النظرية، إننا مع امتلاكنا للإيمان ولكن قد نحاول تحويل الحكمة المجهولة إلى حكمة معلومة ولو في بعض أبعادها، يوجد كتاب لطيف (علل الشرائع)(15)حيث كان يأتي الناس إلى أهل البيت (صلوات الله عليهم) ويطرحون عليهم أسئلة تتناول الدين وأحكامه وفروعه، إن السؤال لا يتنافى مع الإيمان وربما يكون مُنكراً، إنني مؤمن ولكنني أحاول أن أفهم بعد الإيمان، فإذاً كانت الإجابة صحيحة وتامة، ولكن نحن نحاول أن نحوّل الحكمة المجهولة إلى حكمة معلومة، ونحاول أن نبحث في طرق استكشاف بعض الحكم وراء هذه الغيبة.
الإجابة الثانية:
إنها كالإجابة الأولى وقد وُوجِهت بالرفض والتشكيك وقد طرحها الشيخ الطوسي (رحمة الله عليه) أيضا في مكان آخر من (كتابه في ص91)(16) وهي الخوف من بطش الظالمين، ولكن هل الأنبياء والأولياء يخافون؟ الجواب: نعم، فقد ورد في القرآن الكريم أن الأنبياء يخافون، كما جاء في القرآن الكريم عن حكاية نبي الله موسى (عليه السلام): (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)(17)، إذاً لقد خاف النبي موسى (عليه السلام) وفرّ على أثر هذا الخوف، إن الفرار ليس عيباً، لأن نبي الله موسى (عليه السلام) فرّ لكي لا يُقتل.
إننا حين نصف شخصاً بأنه (خوّاف) فإن هذا يعد ذمّاً، لكن كيف يخاف نبي الله (عليه السلام) وهو يجب أن يكون قمة في الكمال الإنساني؟
والجواب على ذلك هو أن الخوف نوعان:
الخوف المحمود: وهو الخوف مما ينبغي أن يُخاف منه في موطن يعدّ الخوف فيه محموداً.
الخوف المذموم: وهو الخوف مما لا ينبغي أن يُخاف منه في موطن يعدّ الخوف فيه مذموماً.
إذن فالخوف ليس مذموماً مطلقاً، بل هو قضية فطرية أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرتنا نحن البشر لندافع به عن كياننا وذواتنا وأنفسنا وشؤوننا عند استشعار الخطر.
إن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف فإن هذا يعود إلى أحد عاملين:
إما يعاني من مشكلة شعورية.
وإما يعاني من مشكلة نفسية.
فإذا لم يَخَفْ الشخص في موطنٍ ينبغي أن يُخاف فيه ومن شيءٍ ينبغي أن يُخاف منه فإن هذا يدل على وجود خلل في أحد العاملين أعلاه.
العامل الأول: هو وجود خلل في الشعور والإدراك، وهو ما يذكره المحقق النائيني(18) (رحمة الله عليه) في فوائده، إذ يقول: (إنَّ هنالك وجوداً خارجيّاً ووجوداً عينيّاً، وبين الوجود الخارجي والوجود العيني وجه، قد يكون وجوداً خارجيّاً لا عينيّاً، وقد يكون وجوداً عينيّاً لا ذهنيّاً، وقد يجتمعان وقد يرتفعان).
فهنالك واقع خارجي مخيف لكنه قد لا ينعكس في الذهن، كما لو أنَّ شخصاً ما جالس في مكان ما ويأتيه أسد من ورائه ليفترسه ولكن هذه الوقائع الخارجية لا تنعكس في ذهنه فيبقى جالساً في مكانه ولا يفرّ منه، لأن هنالك إشكالاً في الصورة الذهنية لديه، حيث لم يستشعر الخطر المحيق به ولم يفهمه.
وأحياناً نرى بعض الأطفال قد يأخذ عقربة ويلعب بها وقد يأكلها أيضا، لأنه لا يدرك خطورتها، فهل هذا كمال يتحلى به هذا الطفل؟ كلا، إنه لا يخاف لأنه هنالك إشكال في الإدراك لديه وهنالك مشكلة في الشعور.
العامل الثاني: قد لا يعاني شخص ما من مشكلة شعورية وهو يدرك الخطر إذا حاق به، لكن قد لا يخاف مما ينبغي أن يُخاف منه، ومثل هذا الشخص يعاني من خلل في تركيبته النفسية، فإذا هاجم ثعبان شخصاً ما ورأى الشخص الثعبان وعرف بأنه قاتل ولم يفرّ منه ولم تكن مهمته الثبات، فإن هذا يدل على وجود خلل نفسي لديه ولا يعتبر إنساناً طبيعيّاً أو سويّاً.
إن الله تعالى جعل فينا غريزة الخوف لندافع بها عن أنفسنا ومصالحنا وذوينا وكياننا، فالخوف كمال، وإذا كان الشخص لايشعر بالخوف، فهو جدار!! أو قد يكون ملَكاً، فلعل الملَك لايخاف لأننا لا نعرف طبيعة الملَك، أما الجدار فلا يخاف، لأنه ليس لدينا إحاطة بواقع الجدار فهو لا يخاف كما يبدو لنا، إن الجماد لايخاف والنبات كذلك حيث يُخيّل إلينا أنه لا يخاف، إن من لا يخاف فهو جدار وليس بشراً، فإذاً الخوف كمال.
نعم، يجب على الفرد في بعض المواقف أن يُقدم ولا يُحجم، ذاك بحث آخر، وهنا نسأل هل الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان معرّضاً للخطر؟ بمعنى لو أن الإمام كان ظاهراً هل كان هنالك خطر يحيق به؟ الجواب: نعم، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، والدليل الأول هو أبوه، الإمام العسكري (عليه السلام) الذي قُتل بأيدي الظالمين، والدليل الثاني جدّه الإمام الهادي (صلوات الله عليه) الذي قُتل بأيدي الظالمين أيضا، أما الدليل الثالث فإن جميع آبائه الطاهرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مقتول لقوله: (ما منا إلا مسمومٌ أو مقتول)(19).
إن الظالمين ومجتمعات الظلم لم تتحمل الوجود الطاهر لأهل البيت، فالمجتمع لا يتحمل وجودهم وكذلك الحكومات، فتقتلهم واحداً واحداً، وفي هذا الأمر يقول الخطباء الكرام:
أما النبي فقد قضى وبقلبه
من قومه قبسات وجدٍ مُكمنِ
والبضعة الزهراء ماتت بعدما
ألقت بضرب سياطهم بالمحسنِ
والمرتضى أردوه في محرابه
بيمين أشقى العالمين وألعنِ
لقد قتلوا الأئمة واحداً واحداً، كذلك قتلوا أنبياء الله وشرّدوهم وطاردوهم. وكما جاء في بحار الأنوار عن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنه قال لعبد الله بن عمر: (يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن رأس يحيى أُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل)(20).
لماذا قتلوا نبي الله يحيى (عليه السلام)؟ لأنه وقف بوجه السلطان(21)، فقتله الحاكم، ووضع رأسه في طشت ثم أُهدي الطشت إلى بغيٍ من بغايا بني إسرائيل(22). في الحديث نفسه هذا يقول الإمام (عليه السلام): (أما علمت أن بني إسرائيل كانوا يقتلون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يغدون إلى أسواقهم كأنهم لم يفعلوا شيئاً، يبيعون ويشترون)(23)، إذن فجميع الأنبياء أو معظمهم قتلوا وطوردوا، لأن الحكومات والمجتمعات لم تكن تتحملهم.
وجاء في الآية الكريمة: (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)(24).
إن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) لا يشذ عن هذا القانون العام بل أن التهديد الذي كان معرّضاً له أكثر لأنه هو المُبشّر به، وهو الذي تواترت الأحاديث حوله بأنه سوف يُسقط جميع الظالمين، وينهي الظلم من على الكرة الأرضية.
فكم من مرة بعث المعتمد الحاكم العباسي(25) أفراداً لاغتيال الإمام المهدي (عليه السلام)، ففي إحدى المرات بعث ثلاثة لا يعرف أحدهم عن الآخر شيئاً حيث بعثهم متفرقين لكي يقتلوا الإمام (عليه السلام)، ثم بعث جيشاً لقتل الإمام (عليه السلام).. فلم يتركوه وشأنه، ولو كان الإمام (عليه السلام) ظاهراً لكان مهدداً من قبل الحكومات ولعله كان مهدداً من قبل كثير من المجتمعات أيضا.
إشكال وجواب
هنالك شخص مجهول كتب قصيدة طرح فيها الإشكال التالي -دقق قليلاً في هذا الإشكال- يقول بما معناه: إن الإمام الحجة (عليه السلام) يعلم بأنه الموعود وأنه سوف يظهر، وأن الله سبحانه وتعالى أدّخره لذلك اليوم، إذن ليس هنالك خطر على الإمام المهدي (عليه السلام) ولذلك فالإمام لا يخاف، فإذا قررت إرادة الله تعالى بأن الإمام المهدي سيظل إلى اليوم الموعود إذن فلا خطر عليه، بمعنى حتى لو كان الإمام ظاهراً فلا يمكن أن يمسّه سوء، إن من كتب هذه القصيدة تركها من دون توقيع وأشكل ضمن أبياتها على فكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، إن هذا الإشكال واضح وقد فصلّنا الإجابة عنه في مكان آخر.
هنالك قضايا حملية وقضايا شرطية، فإرادة الله تعالى قد تتعلق بظاهرة على نحو القضية الحملية، ولستم بحاجة إلى تهيئة مقدمات، فإرادة الله تعالى تتعلق بطلوع الشمس، فما هي وظيفتكم بشأن طلوع الشمس غداً؟ ليس لديكم وظيفة، تجلسون في أماكنكم وتنتظرون أن ينجلي الليل وستطلع الشمس غداً لأن إرادة الله تعلقت بهذه القضية على نحو القضية الحملية، ولكن أحياناً تتعلق إرادة الله بشيء على نحو القضية الشرطية، إن الله تعالى يريد أن يكون لكم أولاد ولكن بشرط أن تتزوجوا، إذن قد يقعد شاب ما في بيته ويقول إذا كانت قضية الأولاد تتعلق بإرادة الله فسأبقى في مكاني ولا أتزوّج فحتى لو تزوّجت لا يكون لي أولاد لأن القضية متعلقة بإرادة الله، ماذا يكون جوابنا؟
الجواب هو: إن إرادة الله قررت بأن يكون لك أولادٌ ولكن بشرط أن تتزوج.
فهل كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يعلم أن الله حافظه أم لم يكن يعلم؟ وهل كان النبي الأعظم يعلم بأنه يعود إلى مكة أم لا؟ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)(26)، إذن لماذا ذهب النبي إلى الغار؟ فكان يستطيع أن يقعد في بيته ويقول إن سلامتي مصانة بالضمان الإلهي، لكنه أخفى نفسه عن الأعداء، نعم، إن النبي مصان بالضمان الإلهي ولكن على نحو القضية الشرطية لا على نحو القضية الحملية، وبذلك يمكن أن نقول: إن هذا الإشكال أيضا غير وارد.
(أما علمت أن بني إسرائيل كانوا يقتلون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يغدون إلى أسواقهم كأنهم لم يفعلوا شيئاً، يبيعون ويشترون).
علة الخوف
لدينا تعليق مختصر حول هذه النظرية بعد توضيحها، هنالك علة لكل شيء ولكنها لا تكون العلة النهائية بل يكون وراءها علة أخرى هي السبب في ولادتها، فهي علل طولية مترامية، وكل علة لاحقة تستند إلى العلة السابقة.
إننا نقبل العلة التي ذكرها الشيخ الطوسي وهنالك رواية تؤيّد هذا المطلب أيضا مروية في كتاب كمال الدين: (باب44 حديث 8 و9 و10 ص281) حيث يرويها زرارة(27) إذ يقول: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: (إن للمهدي (صلوات الله عليه) غيبةً قبل أن يقوم)
- فيغيب قبل الظهور وقبل القيامة - فقلتُ: لمَ قال الإمام (عليه السلام):
(إنه يخاف؟)، فقال زرارة: يعني القتل.
لكن هناك احتمال آخر، على الرغم من أن فهم زرارة حجة لنا (28)، لأن هذا الأمر يدور بين الاجتهاد والحس، وأصالة الحس العقلانية محكّمة، فالمقام ربما يعني بإشارة من الإمام أن مراده القتل(29)، ولكن هناك احتمال آخر وهو الخوف على المهمة، إذن نحن لدينا خوفان وربما سنوضح هذا لاحقاً، فربما يخاف الشخص على نفسه وقد يخاف على مهمته وليس على نفسه.
نأتي بشاهد لذلك، إن الله تعالى يقول: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)(30)، فمن أي شيء خاف؟ عندما ألقى السحرة حبالهم وعِصيّهم وإذا بالصحراء تمتلئ بالأفاعي ويُقال كما أظن: إن الناس فرّوا، فقد وضع السحرة زئبقاً على هذه العصي والحبال وظهرت كأنها تتحرك بفعل حرارة الشمس(31)، فهل خاف موسى (عليه السلام) هذه الأفاعي الوهمية؟
جاء في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه خاف من غلبة الباطل وتضليل الجهلة(32)، إذ كيف يميز الناس بين المعجزة والسحر؟ فخشي الإمام أن لا يظهر الحق ويبدي الواقع وينجح في مهمته، وربما تؤيد الآية اللاحقة(33) هذا المعنى: (قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى)(34)، إن الأمر متعلق بالخوف من أن لا تكون حجته هي الأعلى، إنه كان خائفاً من هذا الأمر، نعم يوجد احتمال في صحة هذا القول، إن الإمام لم يكن يخاف من القتل كما فهم زرارة(35)، وإنما كان خائفاً من عدم تمكنه لأداء المهمة، وسنشرح هذا الموضوع في أحاديث قادمة.
وقيل في رواية أخرى: إن الإمام (عليه السلام) كان (يخاف على نفسه الذبح)(36)، فهؤلاء الذين فجروا المراقد في سامراء، لو كان الإمام الحجة (عليه السلام) ظاهراً هل كان يردعهم مانع من قتل الإمام الحجة؟ قطعاً كلا، فقد قتلوا آباءه من قبل، وهؤلاء هم أولاد أولئك أو أتباعهم.
إذن فنظرية الخوف مقبولة، ولكن هنالك ملاحظة، وهي قد تكون للشيء علة ووراءها علةٌ أخرى طولية لا عرضية، أي علتان ليستا في مستوى واحد، بل علة تولد عنها علة ظاهرة، فلماذا غاب الإمام (عليه السلام)؟ هل بسبب الخوف؟ ولكن لماذا يخاف؟ إن الخوف واقع نفسي وهو انعكاس لواقع خارجي.
الإجابة الثانية والواقع الخارجي:
وهنا يلزم أن ننتقل إلى الكلام عن ذلك الواقع الخارجي:
في أحد الأيام سيظهر الإمام الحجة (صلوات الله عليه)، فلماذا لايخاف ذلك الوقت؟
ولماذا تنتفي علة الخوف في ذلك الوقت؟
لأن الشروط الموضوعية تغيرت، إن تلك الشروط الموضوعية التي ستوجد في عصر الظهور غير متوفرة الآن، وكما يبدو أن تلك الشروط هي علة الخوف، وبعد أن انتقلنا إلى الإجابة الثانية هذه، يجب أن ننتقل إلى العلة الكامنة وراء هذه العلة، فما هي تلك الشروط الموضوعية التي تسبب الخوف؟
وهنالك سؤال آخر، هل هذه الشروط الموضوعية اختيارية أو جبرية؟
فإن كانت تلك الشروط الموضوعية جبرية، فليس لنا حول ولا قوة، ولكن إذا كانت تلك الشروط الموضوعية اختيارية فإذن يمكن لنا أن نسهم في تغييرها.
وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.