مسؤولية الامة الشاهدة
قراءة في كتاب: الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي للسيد مرتضى الشيرازي
باسم حسين الزيدي
2021-01-09 07:51
الوسطية والاعتدال هي الأصل في الفكر الإسلامي، اما ما سواها من عقائد وأفكار تميل نحو الغلو والتطرف والافراط والتشدد فلا تمت للإسلام بصلة، بل ان الإطار النظري والعملي الذي بني عليه الدين الإسلامي يتطابق تماماً في تبني الفكر والسلوك الوسطي بعيداً عن الأصوات النشاز والأفكار المنحرفة التي حاولت وتحاول ان تحرف الأمور عن سياقاتها الطبيعية خدمة لمصالح دنيوية او شخصية ضيقة، ما اثر سلباً في طريقة فهم جوهر الإسلام الحنيف، الذي بدوره ولد صراعاً فكرياً مع الاخر (الذي يعتنق غير الإسلام)، وصراعاً بين المسلمين أنفسهم.
لذلك وجدت الحاجة الفعلية الى استقراء بحثي فكري يعتمد الموضوعية والعلمية في تبني الأدلة النقلية والعقلية لتنزيه الفكر الإسلامي عن أي فكر منحرف او عقيده فاسدة، وهو ما اجاد في تقديمها للمتلقي المسلم وغير المسلم، السيد "مرتضى الشيرازي" في كتابه الموسوم (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي) والذي أشار فيه الى حقيقة مفادها: "أن الأصل في الإسلام هو اللين والرفق والاعتدال والمداراة لخلق الله والتسامح والاغضاء عن السيئة، وعدم التشدد في أمور الدين وأن الطغاة والجبابرة والإرهابيين والمتطرفين يقفون بالاتجاه المضاد لهذا الأصل الإسلامي تماماً!".
وهي حقيقة تشارك فيها جميع المنصفين ممن نهج الاعتدال وامن بالوسطية في الفكر الإسلامي، وعنها يقول الشيخ محمد عبده: "لقد ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، يأخذ من كلٍ بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره.. ولذلك سمي: دين الفطرة".
وتعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي فليست معنى مجرداً بل سلوكاً ومعاملة ومنهجاً فكرياً ينبغي التعامل به، ولعلنا اليوم أحوج اليها من أي وقت آخر، ذلك أن التعصب والتطرف أبعد البعض عن فهم المعنى الحقيقي للإسلام.
لقد تناول السيد المؤلف في كتابه البحثي القيم عدة أمور تسلط الضوء على بيان وسطية الفكر الإسلامي واعتداله في التعاملات المختلفة والتي قام من خلالها الباحث باستنطاق المحكمات القرآنية في مبحث (الوسطية والاعتدال) والتي تمحورت حول آيات أربع:
1ـ آية الرحمة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (و) وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، باعتبارها الحكمة والفلسفة الكلية وراء الخلقة ولكونها مقصداً من أهم مقاصد الشريعة ومنشأً من أهم مناشئ التشريع.
2ـ آية الوسطية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، نظراً إلى كونها التي تحدد التموضع الاستراتيجي للأمة الإسلامية والصفة العامة التي تتميز بها بين الأمم.
3ـ آية التعاون (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، كونها التي ترسم المنهج العام في حياة المؤمنين كافة.
4ـ آية الإمضاء والإلزام (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، حيث إنها التي تحدد الإطار القانوني والحقوقي العام للتعامل مع الآخرين من الأديان الأخرى.
اما الامور التي تهدف الى بيان وسطية الفكر الإسلامي واعتداله في التعاملات المختلفة بحسب ما اوضحها السيد مرتضى الشيرازي فهي:
الامر الأول: يطرح فيه أسئلة جوهرية توصلنا الى حقيقية الاعتدال والوسطية في الإسلام أولها يتمحور عن: الهدف من الخلقة؟ والذي بين فيه أن الهدف من وراء الخلق هو الرحمة، (إلا من رحم ربي ولذلك خلقهم)، (ومن انعكاساتها): التراحم فيما بين المخلوقات، إذ الرحمة منشأ من مناشئ التجليات الإلهية على خلقه وفي خلقه، وذات أبعاد محورية، ومن صور التراحم: التعاون والتآزر بين أبناء المجتمع، والتعارف لا التناكر والتحارب.
وفي سؤال ثان عن: كيف خلقنا الله تعالى؟! يقول سماحته انه: "استناداً إلى النص القرآني أيضاً لقد خلقنا شعوباً وقبائل لكي نتعارف بيننا أولاً لا أن نتناكر ونتحارب ونتناحر، ولكي نتعاون على البر والتقوى ثانياً، فلقد حدد الله تعالى المنهج السليم والنهج القويم في التعامل مع الآخرين بقوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)".
اما السؤال الثالث عن: كيف جعلنا ولماذا؟، يجيب سماحته: "من منظور قرآني أيضاً جعلنا أمة وسطاً لكي نكون شهداء على الناس، وهذه الآيات الشريفة تعتبر من أقوى الأدلة على أن الوسطية والاعتدال هي الأصل والقاعدة في الإسلام بل هي الأساس والمحور وهي الجوهر والمخبر، وذلك لأن (الأمة الوسط) لا تكون متطرفة ولا تكون قاسية ولا تصادر حقوق الآخرين أبداً، بل يكون شعارها ودثارها ودستورها الخالد قوله تعالى: (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، و(الذين رحمهم ربهم) لا يكونون قساة ولا جبابرة ولا مستبدين ولا فراعنة إذ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)".
ويضيف: "كما أن الذين يؤمنون بالقرآن الكريم ويعلمون أن الله خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، يذعنون بقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، كإطار دستوري يرسم أسس العلاقة مع الآخر وقد استنبطنا من هذه الآية الكريمة في بعض البحوث قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام، وبكلمة فإن الاعتدال من منظور قرآني وإسلامي يعني أن نكون الأمة الوسط، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)".
الامر الثاني: دلالات الأمة الوسط في الآية الشريفة (جعلناكم أمة وسطاً)، والتي فسرت بتفاسير متعددة:
ا: الأمة المتوسطة في الاعتدال البعيدة عن الإفراط والتفريط والغلو والتقصير.
ب: الأمة الوسط بين الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) وبين الناس على امتداد الزمان.
ج: الأمة الوسط تعني نخبة النخبة.
الامر الثالث: من بصائر آية اللين والاستشارة في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، أن الرحمة هي مقصد المقاصد للشريعة، والرحمة شاملة للجميع، إذ إن مبدأ الرحمة مبدأ تكويني وتشريعي، فاللازم تطبيقها وتكريسها في الحياة والتقنين والاستنباط الى أقصى الحدود.
"وهذه الآية الكريمة تحتضن مجموعة من بصائر النور التي يمكن استلهامها منها بالتدبر، كما يمكن استنباط العديد من الحكم والأحكام والقواعد والدروس منها، كما أنها تشكل أساساً من أهم أسس الحكم الرشيد وترشد إلى دعامة من أهم دعائم تقوية النسيج الاجتماعي واستحكامه وإقرار الوسطية والاعتدال فيه" ومن هذه البصائر:
البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد: إن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد أخرى، وبعبارة أخرى إن للشريعة مقاصد عظمى تنشعب منها مقاصد أخرى، فمثلاً: حقن الدماء وصيانة الأعراض وحفظ الأموال تعد من مقاصد الشريعة (...) ثم إن تلك الثلاثة هي مقاصد متفرعة عن المقصد الأسمى للشريعة وهو الرحمة الإلهية".
البصيرة الثانية: الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً: يقول سماحته ان: "الرحمة حسب المستفاد من الآية الشريفة وغيرها، هي مع (الحكمة) المنشأ للتشريعات الإلهية كما أنها وراء عالم التكوين أيضاً فقد قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، وقال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة).
البصيرة الثالثة: العفو واجب وكذا الاستشارة: "ومن البصائر في آية العفو والاستشارة: إن المستفاد من ظاهر الآية الكريمة أن العفو واجب وكذا الاستغفار للمؤمنين العصاة، وأيضاً الاستشارة مع الأمة".
الامر الرابع: باعتبار أن الوسطية والاعتدال جوهر الإسلام، فقد سلط سماحته الضوء على إمكانية بلورة الوسطية والاعتدال إلى واقع عملي ومعاش، وانعكاس ذلك على عموم المجتمع إيجابياً على كافة الصعد والمجالات، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل والمقصد السامي اقترح السيد مرتضى الشيرازي مجموعة من التوصيات حول "الآليات التي تضمن لنا جميعاً السير على حسب منهجية الأمة الوسط تحت راية الوسطية والاعتدال وصولاً إلى العدل والحرية والإيمان والاخوة والاستقرار والازدهار" وهي:
أولاً: إقامة المؤتمرات وعقد الندوات العامة والخاصة والتخصصية التي تضطلع بمهمة بلورة مفاهيم الوسطية ورؤى الاعتدال والتي تبحث أيضاً عن الآليات للوصول إلى ذلك.
ثانياً: عقد ندوات ومؤتمرات حوارية تجمع كل الأطراف والأطياف والتوجهات وتكون مهمتها الأساس البحث العلمي والموضوعي عن أسس وأدلة وبواعث شرعنه العنف وعن صحتها أو سقمها، وعن الأسباب الكامنة وراء دورات العنف في حياة الأمم والشعوب.
ثالثاً: تأسيس مراكز دراسات ومراكز فكر تتخصص في البحث عن آليات مكافحة الفقر والبطالة والتضخم والفساد الإداري والمالي، وعن سبل النهوض بالبلاد وإعمارها لتصل إلى مصاف الأمم المتطورة، بل إلى أرقى درجات العدل والإحسان وأعلى مراحل الاستقرار والازدهار، وذلك لأن الفقر والبطالة والتخلف والفساد تعد من أهم أسباب التطرف الديني والعنف الاجتماعي.
اعتبر سماحة السيد مرتضى الشيرازي ان "العدالة بشتى تجلياتها والاعتدال والوسطية في مختلف أبعادها، هي الحلم الأسمى للبشرية المعذبة على مر التاريخ، بل لقد كان العدل هو الهدف من رسالات الأنبياء جميعاً بصريح القرآن الكريم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وكانت الوسطية هي الطريق الآمن الوحيد للوصول إلى رضا الرب وإقرار الحق والعدل، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
وقد استهدف المتطرفون، من كل الملل والنحل، الاعتدال والوسطية وحاولوا تدمير بنيتها الأساسية بكل عنف وضراوة سواء أكانت الوسطية في العقيدة أم في الشريعة، وسواء أكان الاعتدال في السياسة والاقتصاد والاجتماع أم في الفكر والثقافة أم في غير ذلك، وكان طريقهم إلى ذلك مصادرة العقل السليم بإثارة نوازع البهيمية وتحكيم مرجعية القوة الغضبية من جهة، وتجاوز النقل بإغفال المحكمات العقلية والقرآنية والتشبث بالمتشابهات من جهة أخرى".
فيما خلص البحث إلى أن "التطرف لا ينمو إلا في حواضن طبيعية أو مفتعلة، ومنها: (الجهل والغفلة والتجهيل والتضليل، والفقر والبطالة والتضخم، وسوء الإدارة والاستبداد وزيادة القيود الكابتة والعنف والإرهاب)، باعتبار أن العنف يولد العنف في حركة دورية متسلسلة، والعلاج هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المفكرين والعلماء والجامعيين كما تقع على أعناق المسؤولين ومنظمات المجتمع المدني جميعاً".