حل النزاعات من خلال ثقافة اللاعنف عند الشيرازي
باسم حسين الزيدي
2019-05-29 08:34
"العنف يولد العنف والعنيف يجد من هو أعنف منه"
يقول الباحث جين شارب في كتابه (سياسة العمل اللاعنفي) بأن "السبب وراء الغياب الملفت للبحوث والدراسات المتعلقة باللاعنف عن الساحة الثقافية إلى أن النخب لن تحقق أي منافع من انتشار أساليب النضال اللاعنفي التي تعتمد على القوة الجمعية للمواطنين لا على الثروة والأسلحة.
ولعل هذه العبارة تبرز قوة وعظمة "مبدأ اللاعنف" الذي سار عليه الأنبياء والاوصياء والعظماء والصالحين على مر التاريخ، وقدموا من خلال هذه المسيرة أروع الأمثلة على قوة الاخلاق والصبر والسلم للوقوف امام العنف والاستبداد والقتل، بل والانتصار على اقوى الامبراطوريات والدكتاتوريات والدول الاستعمارية في العالم، وكما قال احد أعمدة المقاومة اللاعنيفة أيام غاندي، "عبد الغفار خان"، لأنصاره "سأقدم لكم سلاحاً فريداً لا تقدر الشرطة ولا الجيش علي الوقوف ضده، إنه سلاح النبي، لكن لا علم لكم به، هذا السلاح هو الصبر والاستقامة، ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده".
وينظر إليه على أنه بديل لموقفين آخرين هما الرضوخ والانصياع السلبي من جهة، أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى. لذلك فإن اللاعنف يدعو إلى وسائل أخرى للكفاح الشعبي منها العصيان المدني أو "المقاومة اللاعنفية" أو عدم الطاعة وعدم التعاون.
اللاعنف والاديان
اللاعنف هو "ممارسة شخصية لا يؤذي الفرد فيها ذاته والآخرين تحت أي ظرف"، وتظهر الأفكار الأساسية لمنهج اللاعنف بجلاء في كل من الأديان السماوية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، بل وحتى في تقاليد الأديان الوضعية الأخرى (الهندوسية والبوذية والسيخية)، إن الحركات اللاعنفية والقادة اللاعنفيون والمدافعين عن اللاعنف في مختلف الأزمان والأماكن استقوا واستفادوا من الكثير من تلك المبادئ الدينية لدعم عملهم اللاعنفي في كفاحهم من أجل التغيير.
في القران الكريم يقول الله (عز وجل): (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، فدفع العداوة بالحسنة وعدم رد الإساءة بمثلها هو الأسلوب الذي اكدت التعاليم الإسلامية اتباعه من قبل المؤمنين بها، ولم تحدد الآية الكريمة فئة خاصة دون أخرى بل عممت استخدام اسلوب اللاعنف امام الجميع واعتبرته جزء من القيم الأخلاقية التي يجب ان يتحلى بها الجميع.
ولعل قصة ابني آدم مثال اخر على التعامل مع العنف، حيث ذكر القرآن جواب ابن آدم حينما توعده أخاه بالقتل، فقال له: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، وفي سيرة الرسول محمد (صل الله عليه واله وسلم) ما يكفي في كفاحه اللاعنفي ضد قريش طوال 13 عاماً من دعوته، لم يمارس خلالها أي شكل من أشكال العنف، حتى تمكن الرسول من إجراء التغيير الاجتماعي والفكري المنشود.
ودلت أحاديثه الشريفة على ما يؤمن به من سلوك طريق اللاعنف في التغيير وحل النزاعات كقوله (صل الله عليه واله سلم): "ان الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"، وقوله: "من يحرم الرفق يحرم الخير"، "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وقول امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام): "من عامل بالعنف ندم"، وقوله: "رأس السخف العنف"، وقوله: "راكب العنف يتعذر مركبه".
وقد انتقل هذا التأثير الديني الى الكثير من المناضلين من اجل مكافحة الاستعمار او مناهضة الدكتاتورية وتحرير اوطانهم من الجهل والتخلف والتبعية من أمثال المهاتما غاندي، الذي قاد كفاحاً سلمياً طوال عقود ضد الاستعمار البريطاني في افريقيا والهند، والذي يعتبر مؤسس حركة اللاعنف التي نشرت مفهوم أهيمسا (كلمة سنسكريتية تعني "لاعنف") من خلال حركاته وكتاباته، والتي بدورها كانت قد ألهمت نشطاء لاعنيفين آخرين، وتتلخص أفكار غاندي حول اللاعنف بعبارته المعروفة "بوسعي القول بثقة إنّ العالم إذا كان عليه أن يصل إلى السلام فاللاعنف هو الوسيلة إلى تلك الخاتمة، وليس هناك من غيرها".
أنماط النزاع والتواصل اللاعنفي
بحسب طروحات الدكتور "مارشال روزنبرغ" ثمّة خمسة أنماط للتعامل مع النزاع، وهذه الأنماط هي مشتركة بين كل البشر، ويمكن فهمها عبر تحليل مسألتين: مدى رغبتي كمتنازع في تحقيق هدفي أو مصلحتي التي يدور حولها هذا النزاع، ومدى حرصي على الحفاظ على علاقة إيجابية مع الشخص المتنازع معه، إذا كنت أهتم بتحقيق هدفي فقط ولا أهتم بالعلاقة، فسوف يكون سلوكي تنافسياً، وإذا كنت أهتم بالعلاقة ومستعداً أن أضحي بالهدف في سبيل الحفاظ على هذه العلاقة، فسوف يكون سلوكي تنازلي، أما إذا كنت أفضل أن أتفادى الموقف كله، أي أن أضحي بالهدف والعلاقة كليهما، فسيكون أسلوبي هروبي، وطبعاً أفضل الأنماط على الإطلاق هو التعاون، ويتجسد عندما أحرص على هدفي وأسعى للحفاظ على علاقة ايجابية مع الشخص المتنازع معه في الوقت عينه، أما المساومة فهي وسطية بين كل ما سبق، تختلف هذه الأنماط الخمسة في مقارباتها ونتائجها، فنتيجة التنافس ستكون (رابح – خاسر)، والتنازل (خاسر – رابح)، والهروب (خاسر – خاسر)، والمساومة (رابح وخاسر – رابح وخاسر)، أمّا التعاون فـ(رابح – رابح).
أحد أهم المهارات التي تمكننا من اعتماد مقاربة التعاون هي مهارة التواصل اللاعنفي، التواصل اللاعنفي هو لغة عالمية لحل النزاعات بطريقة تعاونية وسلمية، وهذه اللغة تستند إلى التعاطف والإصغاء الفعال والثقة، ولا تقبل بالأحكام والاتهامات والتهديدات، في التواصل اللاعنفي لا أكون (أنا) ضد (الآخر)، بل أكون (أنا والآخر) ضد (المشكلة).
اللاعنف عند الشيرازي
يعرف المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي اللاعنف كالتالي: "أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة البلسم الذي يوضع على الجسم المتألم حتى يطيب".
ويحتاج اللاعنف إلى "نفسٍ قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابةٍ، ولا تردها، وإن سنحت الفرصة. واللاعنف يتجلى في كل من اليد، واللسان، والقلب، وأحدها أسهل من الآخر... نعم.. ليس من اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية لا عنف، والوقاية من اللاعنف".
ويتناول الدكتور "اسعد الامارة" هذه الرؤية الى اللاعنف وتقسيمها بالقول: "يتناول الإمام الشيرازي في نظريته عن اللاعنف بعدي الكم والكيف، ويؤكد على اللاعنف الذي يجب أن يجعله الإنسان شعاراً وهو اللاعنف الملكي (نسبة إلى الملكة -القدرة) لا القسري، ثم يقسم اللاعنف إلى ثلاثة أقسام:
الأول: اللاعنف الملكي:
ويقصد به، أن تكون نفسية بحيث تظهر على الجوارح عن ملكة، كما في الشجاعة والكرم والعفة والعدالة وأشباهها كذلك.
الثاني: اللاعنف القسري الخارجي:
أي أن الضعف أوجب ذلك، فإن الضعيف -عادة- يلتجئ إلى اللاعنف للوصول إلى هدفه.
مثال: إذا ضعفه ظالم جبار ولم يتمكن أن يقابله بالمثل يصبر، وهذا أسوأ أقسام اللاعنف، فهو كالإنسان الذي يعفو عن مقابلة السب، بالسب لأنه أبكم.
الثالث: اللاعنف القسري العقلائي:
أي أن يرجح اللاعنف على العنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، لا كسابقه، وهذا لا ينبع اللاعنف فيه عن ضمير فضيلة، وإنما يرجحه حيث أنه يراه طريقاً للوصول إلى هدفه.
ووقف السيد محمد الشيرازي بالضد من جميع الفصائل والحركات الإسلامية وغير الاسلامية التي انتهجت سياسة العنف والخطف والاغتيالات وغيرها من الأعمال، معتبراً ان طريقها يخالف الشرع والمنطق والأخلاق، وقد افتى المرجع محمد الشيرازي في كتابه (فقه المرور)، تحت عنوان: لا لعمليات الاختطاف، بما يلي: "لا يجوز لإنسان أن يختطف طائرة أو سيارة أو قطار أو غواصة أو ما أشبه، فإنها من أعمال العنف والإرهاب وهو محرم أشد الحرمة في الشريعة الإسلامية".
وبصيغة أخرى يقول السيد الشيرازي: "يحرم الإسلام الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين"، ويضيف: "كيف لا والإسلام مشتق من السلم والسلام، والقرآن الكريم يأمر بالرفق والمداراة، يقول الله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.
حل النزاعات
يمكن حل النزاعات من خلال ثقافة اللاعنف بدلاً من مواجهتها بعنف او صدام متبادل، فالعنف لا يولد الا عنف ودمار، وبالتالي يعم الخراب على الجميع، وعلى هذا الأساس اعتمد دعاة اللاعنف، وفي مقدمتهم المرجع الشيرازي، على مجموعة من الأهداف التي من خلالها يمكن حل النزاعات او تضييقها في اقل نطاق على اقل تقدير:
1. الإيمان بالإسلام من خلال اسلوب المسالمة واللاعنف: اذ يرى الإمام السيد محمد الشيرازي "إن الإسلام كدين ونظام كوني ومنهج حياتي يقف من العنف والعدوان والتعسف والإرهاب موقف المضاد، فكرة وسلوكاً، فقد كان الرسول (صل الله عليه واله وسلم) يدعو الناس إلى الإيمان بالإسلام باسلوب المسالمة واللاعنف".
2. رفع مبدأ اللاعنف كشعار عالمي: يقول المرجع محمد الشيرازي ان "مبدأ اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً كما أن من شعار الإسلام السلام، قبل أن يتبناه بعض دول العالم صدقاً أو كذباً".
3. نبذ النزاع واعتباره من الامراض النفسية: "إن الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع من أمراض النفس، وانحراف في الذات".
4. من يستخدم العنف يدمر نفسه قبل ان يدمر الاخرين: "إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر الآخرين".
5.التطبيق العملي لمنهاج اللاعنف في كل نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها ومع الجميع: "على المسلمين أن ينهجوا منهج السلم واللاعنف في اللسان والقلم والعمل، فعليهم أن لا يسبوا أحداً، ولا يجرحوا شخصاً باللسان والقلم، كما ينبغي أن لا يتخذوا مواقف حادة، كالمقاطعة والحصار الاجتماعي وشبه ذلك".