سلطة السلاح أم سلطة الكلمة؟

علي حسين عبيد

2019-02-05 05:00

كنا نتصور بأننا تجاوزنا محطة تكميم الأفواه، إلى مرحلة إطلاق حرية الرأي، لكننا – كما يبدو- لازلنا نعيش في مرحلة استهداف الرأي بغض النظر عن كونه وسطيا أو متطرفاً، تُرى ما هي حدود سلطة الكلمة وهل بإمكانها أن تتجاوز في قدراتها وإمكانياتها غير المادية سلطة السلاح وقدرته على التهديد والقتل والدمار؟!

لقد وعى الإنسان قدرات الكلام منذ زمن سحيق وكان الفكر والأدب بكل أجناسه ولا زال وسيبقى أحد أهم الركائز التي تسند الإنسان في مسيرته الحياتية والكونية وهو يحثّ الخطى نحو عالم أكثر حرية وأمنا وإنسانية، فلقد دأب الأدباء والصحفيون والمفكرون والعلماء والمثقفون عامة على رسم المدن الفاضلة التي تليق بإنسانية الإنسان على مدى التأريخ، وخططوا لها وأشبعوها بحثا وتصميما شكليا وجوهريا بما يتناسب وسمو النفس البشرية وطموحاتها التي تمضي قُدُما، ولذلك غالبا ما ينتمي الأديب أو المثقف بوجه عام إلى المساحة المسالمة في النفس البشرية وهو في كل الأحوال لن يشكل خطرا على كائن ما إلاّ في حالة انتماء هذا الكائن فكرا وسلوكا لمساحة الشر في النفس البشرية.

إذاً متى تُستهدَف الكلمة ومن الذي يستهدفها؟

تساؤل يجدر بنا طرحه على أنفسنا وعلى غيرنا ونحن نمر الآن عبر مضيق سياسي يمتلئ بالمتناقضات وأكثرها وضوحا ظاهرة مستفحلة في الواقع العراقي والعربي أيضا وهي ملاحقة الصحفيين والأدباء وقتلهم، وهنا يبرز تساؤل مفاده من المستفيد الأول إذا ما تم وأد الكلمة أو تحجيمها ومن المستفيد في حالة تسيّد الجهل والضبابية على المشهد الكلّي في العراق، وقبل أن نبحث عن المستفيد من ملاحقة الصحفيين والأدباء والمبدعين عموما نقول إن الفكر والإبداع على وجه العموم لا يلتقي مع القتل المجاني ولن يصطف إلى جانب القمع بكل أنماطه المعلنة والمبطنة لسبب واضح هو افتراق الجانبين من حيث الوسيلة والهدف، فهدف الإبداع غالبا ما يكون إيجابيا بنزوعه وتطلعاته أما هدف التكميم فهو إجبار الآخرين على الانضواء تحت خيمة الأحادية التي لا تقبل الآخر مطلقا سواء على مستوى الحوار أو غيره، وعندما نعود ونسأل من المستفيد من قتل المبدعين سوف لا يتردد أحد لحظة بالقول إن أعداء العراقيين وأعداء الإنسان هم المستفيدون من اعتماد هذه الظاهرة في حل مشكلاتهم مع الآخرين.

يلتقي العلماء، والمفكرون، وبسطاء الناس في رفض ظاهرة القتل العشوائي واستهداف المبدعين غدرا، كونها ظاهرة تتنامى في العراق، ولن يتفق أحد من العراقيين سواء أكان فرداً بعينه أو جماعة سياسية أو ثقافية ناشطة أو غيرها على تجذّر هذه الظاهرة في البنية السلوكية للشعب العراقي على مدى تأريخه القديم والحديث، كما أن ثقافة العراقيين القائمة على نبذ العنف والانخراط في النشاط الإنساني عموما وتقديم كل ما من شأنه أن يدعم المسيرة الإنسانية الخلاّقة، ما هو إلا دليل على حيوية هذا الشعب ونزعته الدائمة صوب حومة الإبداع والتجدد ودعم المشاريع التي تصب في صالح الإنسانية، والدلائل كثيرة في هذا الصدد ابتداء من مسلة حمورابي بإنجازه التشريعي الشهير وليس انتهاءً بإنجازات المبدعين العراقيين المعاصرين الذين أثروا الساحة العربية والإسلامية والعالمية، بإسهامات أدبية وفكرية وفلسفية لا تقل عن المنجز العالمي للقامات الإنسانية الأخرى التي أسهمت في بلورة ودعم هذا النشاط المائز، ليشكل بالتالي الوجه الأكثر إشراقا للحضارة البشرية بأروع صورها وأكثرها تطورا، إذاً سنتفق على أن شعبا من هذا الطراز لا يمكن أن تنبت في تربته بذرة الإرهاب ولا يمكن أن يشكل مثل هذا الشعب أرضا خصبة لمثل هذه الظواهر المريضة، ولذلك نخلص إلى القول بأن هذه الظاهرة غير أصيلة في تشكيل البنية السلوكية للعراقيين وإن مبدأ اللاّعنف هو الوسام الذي يتحلى به صدر العراق والعراقيين وان مساحة الحوار تتسع للجميع، مع الاحتفاظ التام بالخصوصية الفكرية والمعتقد والانتماء المختلف في الدين أو القومية أو الجغرافية.

تُرى من الذي يستهدف الصحفي أو الأديب أو المبدع بشكل؟

وإذا ذهبنا إلى أن العراقي ينأى بنفسه عن الانسياق في موجة القتل المجاني ويرفضها جملة وتفصيلا، وهي تتعلق بعامة الناس دونما تحديد مسبق، فكيف إذا تعلق الحال بأرباب الكلمة ومدبجي الأفكار في فضاءات الورق وفي رحبة الحياة الواسعة على حد سواء؟

إن من يعتمد القيم الإنسانية يأبى قطعا أن يسفح دماء الكلمة، ولكن ما هذه الحالات التي رصدتها ووثقتها وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة أيضا؟

ولماذا ذهب ضحية هذه الظاهرة عدد من أدباء وصحفيي ومبدعي العراق، ولماذا أزهقت أرواحهم ظلما وأطفئت أقلامهم أو إبداعهم تجاوزا على كل الأعراف البشرية أنى كان منشؤها؟

إنها سلسلة من التساؤلات التي لا تجد من يشفي غليلها، وما أصعب أن تذهب أرواح المبدعين سدى وما أبشع أن تذهب أرواح الناس بلا أدنى مبرر، ولا نستطيع مجرد التفكير بأن هؤلاء المبدعين الذين ينتموا إلى صناعة الكلمة أزهقت أرواحهم بقوة السلاح لمجرد الاختلاف مع الآخر أو السلطة أيا كان شكلها أو مصدرها.

إن العراق الذي يسعى لبناء نظام سياسي ديمقراطي يعوض العراقيين عما لحق بهم من ظلم وإجحاف خصوصا في علاقة القوي مع الضعيف، والمواطن مع السلطة، والمثقف مع من يخرج على القانون، يجب أن يتخذ الخطوات اللازمة للحد من ظاهرة ملاحقة أو ابتزاز أو تصفية المبدعين، وليكن القانون هو الفيصل بين الجميع، حينئذ سوف تسود قيم العدالة والحوار ومحاصرة العنف وأصحابه، لنصل إلى دولة مدنية يحكمها الدستور والقانون والعدالة الاجتماعية والحرية.

وأخيرا لا يسعنا سوى القول إن من يطلع على تفاصيل حياة المغدورين من المبدعين المذكورين في أعلاه أو غيرهم، سوف يصاب حتما بالذهول إزاء عشوائية اغتيالهم وسوف يتوقف كما توقفنا كثيرا عند هذه الظاهرة التي أقحمت نفسها في النسيج السلوكي المتوازن للعراقيين عبر تأريخهم الطويل، الأمر الذي يحتم تطويق هذه الظاهرة وفضح من يقف وراءها أمام الملأ، مع وجوب إسهام المنظمات الإعلامية والفكرية والحركات الدينية والسياسية في تعميق ثقافة الحوار، مع إطلاق حزمة من التشريعات التي تسعى للحد من استهداف صناع الكلمة بمختلف توجهاتها، فالدستور العراقي يكفل حرية الرأي، أما من يتجاوز الحدود المقبولة، فإن هنالك قضاء يمكن أن ينصف المغبون وليس الرصاص هو المنصف أو الحل.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي