العنف والدول المتشددة
د. ميثاق بيات ألضيفي
2018-12-30 07:08
أن الدولة ونظامها السياسي مطالبين بحل التناقضات فيما بين الحاجة إلى نوع النظام وما بين تنوع المصالح في المجتمع المرتبطة بالصراعات والعلاقات وفي هذه الحالة لن يعتمد أحد على "ضمير" المواطنين ولن يقنعهم أحد بالتنازل عن حقوقهم ومصالحهم من أجل الآخرين إلا بالقسوة والعنف، ولذا وفي ظل كل نظام سياسي توجد تدابير وآليات لمنع ومعاقبة الجرائم الجنائية والمؤسسات الإستغلالية مما يؤكد وبشكل وثيق على طبيعة الحال المؤكدة لترابط الدولة والحكومة ارتباطًا وثيقًا بالعنف لدرجة إننا نكاد إن نميز السمة الرئيسية للدولة بأحتكارها للإكراه والعنف. ومن المثير للاهتمام أن الحق في العنف يخص الدولة حصرا، لكن لا يتم تطبيقه في حياتنا من قبل الدولة فقط بل أيضًا من قبل الوالدين فيما يتعلق بأطفالهم ورؤساء ومدراء المنظمات والمؤسسات والوزراء فيما يتعلق بمرؤوسيهم.
والعنف هو وسيلة شائعة يستخدمها الناس والحكومات في جميع أنحاء العالم لتحقيق أهداف سياسية، فيعتقد العديد من الجماعات والأفراد أن نظمهم السياسية لن تستجيب أبدا لمطالبهم السياسية ولذلك يعتقدون أن العنف ليس مبررا فحسب بل ضروري أيضا من أجل تحقيق أهدافهم السياسية، وعلى ذات المنوال تعتقد أنظمة وحكومات كثيرة في جميع أنحاء العالم أنها في حاجة إلى استخدام العنف من أجل ترويع شعبها بالقبول والخنوع، كما وتستخدم الانظمة القوة للدفاع عن بلادها من غزو خارجي أو تهديدات أخرى بالقوة.
وهناك سياق آخر للعنف السياسي يحدث عندما تسيطر القوات المسلحة أو غيرها من المجموعات المنظمة على السلطة التنفيذية في بلادهم فتتسبب بتكرر الانقلابات السياسية والعسكرية العنيفة في بعضها وقد ينطوي ذلك على قدر كبير من العنف وإراقة الدماء والإصابات الخطيرة أو حتى خسائر في الأرواح، وهنا يجب أن يقال بأن العنف والتهديد والإكراه ليس الوسيلة الوحيدة لإرساء النظام من قبل الدولة إذ هي تخضع لتنظيم صارم للغاية بموجب القانون غير أن رجال الدولة يتحدثون عن حق شرعي في استخدام العنف في مصادرة وتطبيق السلطة.
واحدة من الآليات المعروفة لاستخدام العنف هي القوة العسكرية وإن دورها في حياة المجتمع والسياسة مهم جداً لدرجة أنه يعتبر مرادفاً لقوة الدولة، ويفسر ذلك حقيقة أن القوة العسكرية تنفذ مختلف وسائل سلطة الدولة وتمثل أيضا أكثر الوسائل استبدادية لأنها تستخدم في الحالات القصوى وفي اللحظات الحزينة في حل التناقضات داخل البلاد وحتى على الصعيد الدولي، وبالرغم من أن القوة العسكرية يمكن أن يكون لها طبيعة وشخصية وأهداف مختلفة لكنها دائما وفي كل مكان تفرض نظاما عنيفا لا جدال فيه ولا تتسامح مع أي معارضة وتقوم بقمع المجتمع المدني عنفيا وتنتهك حقوق الفرد وحرياته وكرامته وهنا لا يكون العنف جسديًا فحسب بل فكريًا وروحيًا أيضًا. وان القيود والذل والعبودية تنتج مجتمعات مهانة وأن المجتمع الغير حر تستخدم تجاهه الدول العنف بغير حدود ولذلك يفسر بأوجه انعدام المساواة في توزيع السلطة بين الشعب وأجهزة الدول الحكومية التي لا تأتي إلا بالعنف وتزيده. وتجدر الإشارة إلى أن أية سلطة تنطوي على العنف وتلك واحدة من وظائفها إللا طبيعية لان السلطة الغير المحدودة هي التي تستند إلى القوة وليس على القانون، وذلك هو المفهوم العلمي والفعلي للدكتاتورية الذي يعني أن لا قوانين ولا قواعد مطلقة وانتهاج للعنف بشكل مباشر عبر الاعتماد على السلطة التنفيذية حصريا.
ولا ننسى انه وفي اغلب حالات الانظمة التسلطية هناك تركيز للسلطة على ابراز العنف السياسي والتعسف الحكومي ولذا يمكن القول أن السلطة الدكتاتورية غير المحدودة وغير الخاضعة للسيطرة متأصل فيها العنف، وان حقوق الإنسان لا تنتهك فقط بل تنتهك أيضا جميع القوانين والسلطات وحتى دستور البلاد فلذا لا يتوقف القساة عن انتهاج القسوة في التعامل والتفاعل والتعبير عن مطالب الانظمة المتجبرة بمنهجية العنف اللا محدود. وعادة ما تكون حاملات وساندات أنظمة ودول العنف على شاكلة مجموعات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة لكن يتم تمثيلها من قبل شخص واحد أو مجموعة قليلة من الفاعلين المؤثرين، وأن وصوله للعنف إلى السلطة مرتبط تاريخياً بفترات تكثيف حاد للنضال الطبقي.ويكاد إن يكون ابرز مثالا على تسلط العنف وانتهاجه هو الاستبداد في دول المنطقة العربية إذ فيها تتجذر السياسات العنيفة وتتأصل في الهيمنة المطلقة للدولة على المجتمع، وفيها لم تكن ولن تكون هناك محكمة قانونية مستقلة يخضع لها الجميع ولا يمكن أن تكون لشعوبها أية ضمانات ضد تدخلات السلطات بعنف في حياتها الشخصية، كما ولا توجد حقوق وفرص للدفاع عن حرمتها الشخصية أو الملكية، وهذا ببساطة جوهر أنظمة العنف والتعسف.
قد أظهرت التجربة التاريخية للبلاد العربية المختلفة أن مفهوم العنف السلطوي والطبقي يمكن استخدامه لإضفاء الشرعية على السلطة لفترة قصيرة فقط ومن غير الممكن أن يكون هدفا على المدى الطويل للعدالة وشاكلة الحياة الاجتماعية باعتبارها مخالفة ومناقضة، إلى درجة انه أحيانًا وحتى في الروايات والاشعار يمكنك العثور على تصريح بأن أي عنف هو شر مطلق ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى الموت تعسفا، وحتى العنف القائم على القوانين والعهود الدولية لربما قد يكون شرطا وشرا لا بد منه ولا غنى عنه، ونحن هنا لا نتحدث عن العنف ضد بعض الفئات الاجتماعية كما هو الحال في الاستبداد العربي او حتى الاستبداد الشرقي انما عن معاقبة المجرمين والمنظمات الاجرامية والارهابية التي تنتهك القانون، ومع ذلك فإنه من الممكن للدول المستهترة إن تقدم على ارتكاب العنف بموجب القوانين التي تقرها وبذلك تغير اسمه للعنف ومحتواه نوعيا فيبدو أعلاميا وظاهريا انه ليس العنف الممنوع دوليا، لكننا يجب إن نفهم ونعلن إن سلطات الدول ليست مطلقة وليست بلا حدود انما لها حدود معينة وليس لها ولا لأية سلطة الحق في تجاوزها، وهذه الحقوق بحقيقتها هي غير قابلة للتصرف مطلقا لا في الحياة ولا في حرية الفكر والعيش الكريم ولا في ابداء الرأي، غير انه وبالرغم من ذلك كله فأن العنف في ظل ظروف وأشكال أنظمتنا المستهترة أمر لا مفر منه لاستمرارها حتى لو كان عنفها يتسبب ضرراً لأخلاق المجتمع ومؤديا إلى الصدمات النفسية والروحية وحتى إلى تدمير الافكار وإلى موت الناس فعليا ووجوديا وعلى نطاق واسع، فمع أنظمتنا المستهترة ألى اين نحن سائرون؟ والى متى نبقى كشعوب خانعين للعنف ومصمتين؟؟؟.