بناء اقتصاد رحيم
بروجيكت سنديكيت
2015-01-27 07:46
تانيا سنجر
دافوس ــ إن النماذج الاقتصادية السائدة اليوم تقوم على افتراضين أساسيين: الأول أن البشر في الأساس مجموعة من الفاعلين الأنانيين الذين يتصرفون بعقلانية لتعزيز منفعتهم الخاصة ــ أو ما يسمى الإنسان الاقتصادي ــ ولكن الافتراض الثاني، وكما كان المقصود من الاستعارة التي استخدمها آدم سميث، "اليد الخفية" أن تقترح، يزعم أن السلوك الأناني القائم على المصلحة الذاتية من الممكن أن يعزز الصالح العام من دون قصد. ولكن كلا الافتراضين مضلل بوضوح.
فمن أجل معالجة مشاكل عالمية مثل تغير المناخ والتفاوت بين الناس، لابد من إعادة النظر في النماذج الاقتصادية السائدة، ودمج أنظمة تحفيزية أخرى قادرة على استحثاث سلوكيات بشرية مختلفة. ومثل هذه النماذج الواقعية، التي تقوم على بحوث تجريبية في علم النفس وعلم الأعصاب، من شأنها أن تسمح للمجتمعات بغرس الشعور بالتعاطف وبناء نوع جديد من "الاقتصادات الرحيمة" التي تعكس بشكل أكثر اكتمالاً معنى كوننا بشرا.
وقد أظهرت دراسات علم الأعصاب أن البشر يمكن تحفيزهم وتحريكهم من خلال الرعاية وأنظمة الانتماء بنفس القدر من سهولة تحفيزهم من خلال السلطة والإنجاز أو الاستهلاك والرغبة. فقد تطورنا في نهاية المطاف حتى أصبحنا قادرين على تكوين علاقات مستقرة، وبناء الثقة، ورعاية الأطفال، وكل هذا يتطلب القدرة على التراحم والتعاطف. وبمجرد أن ندرك أن أنظمة الرعاية التحفيزية هذه شائعة بين جميع البشر ــ بل إن أغلبها مشترك مع حيوانات أخرى ــ فإن العالم يبدأ في التحول إلى هيئة مختلفة تماما.
ولكن من المهم أن نميز بين الاستجابات المتعاطفة الأساسية والقدرة الأكثر شمولاً على التراحم. فالتعاطف وحده لا يفضي بالضرورة إلى سلوك داعم اجتماعيا؛ والتعاطف مع معاناة الآخرين قد لا يدفعك إلى مساعدتهم. والواقع أن التعاطف قد يؤدي إلى محنة، والتي قد تؤدي بدورها إلى الانسحاب والإجهاد.
والتراحم على النقيض من ذلك هو اهتمام بأشخاص آخرين يرتبط بدافع قوي لتخفيف معاناتهم. فإذا رأت أم طفلها يبكي بعد سقوطه على سبيل المثال، فإنها قد تتعاطف أولاً مع الطفل، وتشعر بألمه وحزنه، ولكنها بدلاً من الاستسلام لمشاعر الأسى، سوف تأخذ الطفل بين ذراعيها لتهدئته وتعزيته.
وكل من التعاطف والتراحم يصدر عن البشر بشكل طبيعي. ولكن كلا الاستجابتين تتسم بالهشاشة، وقد يؤدي عدد كبير من العوامل إلى قمعها أو عكس اتجاهها ــ بما في ذلك درجة ارتباطنا بالشخص الذي يعاني.
إن البشر يميلون بسهولة إلى التعاطف والاهتمام بأعضاء "جماعتهم" ــ الأشخاص الذين يشتركون معهم في المقومات، سواء كانت هذه المقومات حقيقية أو مبنية اجتماعيا، مثل العرق، أو الجنس، أو العمر، أو الانتماء الديني. ولا يأتي التعاطف والرعاية تجاه أعضاء المجموعات الخارجية بنفس السهولة. والواقع أن مثل هذا التراحم الشامل أو العالمي ــ الاهتمام بالأشخاص الذين يختلفون تماماً عنا ــ قد يتطلب إشراك وظائف إدراكية أعلى، وبالتالي فربما يتفرد به البشر.
كما قد يتطلب بعض التدريب. ذلك أن الحياة في عالم يفترض أننا بشر اقتصاديون من الممكن أن تشجع عادات أنانية. ومن حسن الحظ أن البحوث تشير إلى أن مثل هذه العادات يمكن كسرها.
ولعل أكبر هذه الدراسات مشروع الموارد (ReSource project)، الذي قمت في إطاره أنا وزملائي بإخضاع نحو 300 شخص، على مدى 11 شهرا، لبرنامج تدريب ذهني مكثف قام بإعداده فريق من معلمي الوساطة المخضرمين، والعلماء، والمعالجين النفسيين. وكان الهدف زرع مجموعة واسعة من القدرات الذهنية والمهارات الاجتماعية، بما في ذلك الانتباه، والاهتمام، والوعي الذاتي، وتناول الأمور من منظور الآخرين، والتعاطف، والتراحم، والقدرة على التعامل مع المشاعر الصعبة مثل الغضب أو الإجهاد. وكان تقييم التقدم يتم من خلال قياس التغيرات في أدمغة المشاركين، وهرموناتهم، وصحتهم، وسلوكهم، وشعورهم الشخصي بالرفاهة.
وتعزز النتائج الأولية للمشروع النتائج الرئيسية التي توصلت إليها دراسات سابقة مماثلة: فكما يمكننا تعزيز وتحويل عضلاتنا من خلال ممارسة الرياضة البدنية، نستطيع أن نطور أدمغتنا وقدراتنا السلوكية ــ من الاهتمام والتنظيم العاطفي إلى الثقة وسلوك المنح والتبرع ــ من خلال التدريب المنتظم.
بطبيعة الحال، لابد من شحذ التمارين الذهنية لتطوير مهارات وسلوكيات معينة؛ فممارسة الاهتمام وحده لا تكفي لتحسين المهارات الاجتماعية والإدراكية على سبيل المثال. ولا تحدث التغيرات الدائمة إلا بعد فترة طويلة من التدريب المنتظم. ولكن بالاستعانة بالنهج الصحيح، فربما يكون من الممكن تعزيز ذلك النوع من السلوكيات الإيثارية والداعمة للمجتمع اللازمة لتحسين التعاون العالمي.
وعلى أساس هذه النتائج وغيرها من دراسات نفسية وعصبية واقتصادية أخرى، نعمل أنا وزملائي الآن مع رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمي، دينيس سنور، على صياغة نماذج حسابية جديدة قائمة على التحفيز لاتخاذ القرار الاقتصادي. وسوف تمكننا هذه النماذج من الخروج بتنبؤات واضحة وقابلة للاختبار والتحقق حول سلوك التبادل النقدي المتوقع في سياق اقتصادي، بما في ذلك معالجة المشاكل المرتبطة بالصالح العام. والواقع أن العديد من هذه التجارب تجري الآن بالفعل.
ومن الممكن تطبيق تمارين التدريب الذهني الأخلاقي المستخدمة في مشروعنا هذا في الشركات والمؤسسات السياسية والمدارس (على المعلمين والطلاب)، ومؤسسات الرعاية الصحية ــ باختصار، في كل المجالات التي يشهد فيها البشر مستويات عالية من الإجهاد وما يرتبط بذلك من ظواهر. ومن الممكن أن يستفيد الأطفال الصغار بشكل خاص من برامج التدريب هذه إلى حد كبير، وهي البرامج التي قد تمكنهم من استخدام المهارات العقلية والذهنية والتراحم لتنظيم الضغوط والعواطف.
ويتعين على صناع القرار أن يأخذوا زمام المبادرة في الترويج لهذا النهج القائم على العِلم للتعلم والعمل، كما يحدث من خلال إعادة تصميم المؤسسات للتأكيد على التعاون. والواقع أن العديد من الحكومات ـ بما في ذلك حكومة المملكة المتحدة ــ عملت على تطوير ما يسمى "وحدات الدفع"، التي تسعى إلى تشجيع الناس على اتخاذ قرارات أفضل لصالح أنفسهم والمجتمع عن طريق توفير لمحات خفيفة، وقرائن، وغير ذلك من الاقتراحات والإيحاءات.
لعلنا نستطيع أن نقول إن الافتقار إلى التراحم هو سبب العديد من أعظم إخفاقات البشر تدميرا. وسوف يعتمد نجاحنا في التصدي للتحديات الهائلة التي تواجهنا ليس فقط على استعدادنا للعمل بنشاط وبشكل تعاوني لتعزيز الصالح العام، بل وأيضاً على قدرتنا على تعزيز السمات اللازمة لتحقيق هذه الغاية.