انهيار الليبرالية

لماذا أصبحت الديمقراطيات القوية سابقاً هشة في الوقت الحالي؟

هاف بوست

2016-07-12 06:23

فتح تصويت البريطانيين على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي الباب أمام التفكير في أن الليبرالية التي تؤمن بها أغلب دول أوروبا الآن هل أصبحت في خطر؟ وأنها على وشك الانهيار وصعود أيديولوجيات أخرى.

خلال تسعينات القرن المنصرم كان الناس يعتبرون أن الأنظمة السياسية الليبرالية هي الموجة القادمة في المستقبل التي بلاشك ستطير على العالم أجمع، ولكن بعد نحو ربع قرن من تلك التوقعات باتت النتيجة مغايرة بل باتت الليبرالية أحد عوامل التفكك لهذه الدول، بحسب مقال لستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الأميركية في صحيفة "فورن بوليسي" الأميركية.

الأكاديمي الأميركي يعتبر أن المشكلة الأولى تكمن في أن المدافعين عن الليبرالية قد صدّروا فكرة غير واقعية عن منتجهم، وهي إذا سقطت المزيد من الديكتاتوريات وتمكنت المزيد من الدول من الوصول لانتخابات حرة، ودافعت عن حرية التعبير وانضمت إلى تحالفات مثل الاتحاد الأوروبي أو الناتو، فستنشأ منطقة سلام واسعة النطاق، وسينتشر الازدهار، كما سيتم معالجة الخلافات السياسية العالقة بسهولة في ظل نظام ليبرالي، لكن في الوقع هذا التصور لم يكن صحيحاً.

وإلى نص المقال:

في وقت من الأوقات –وتحديداً في تسعينات القرن الماضي- كان الكثير من الناس الأذكياء والجادين يؤمنون بأن الأنظمة السياسية الليبرالية هي الموجة القادمة في المستقبل، وأنها ستسيطر حتماً على أغلب أنحاء العالم. تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون من هزيمة الفاشية ثم الشيوعية، ليصلوا بالبشرية إلى ما يفترض أنه "نهاية التاريخ".

بدا الاتحاد الأوروبي كتجربة جريئة في تقاسم السيادة، إذ أبعد خطر الحرب عن جزء كبير من أوروبا. في الواقع، رأى الكثير من الأوروبيين أن الاتحاد الأوروبي هو مزيج فريد من الكيانات الديمقراطية، والأسواق المتكاملة، وسيادة القانون، وأن "الحدود المفتوحة" بين دول الاتحاد جعلت من قوة "السلطة المدنية" الناعمة التي تستخدمها أوروبا مساوية –إن لم تكن متفوقة- على "القوة الصلبة" للولايات المتحدة.

من جانبها، تعهدت الولايات المتحدة بتوسيع رقعة الحكم الديمقراطي، وإنهاء الحكم الاستبدادي، وترسيخ السلام القائم على الديمقراطية، وبالتالي الوصول إلى نظام عالمي صالح وثابت.

وكما لاحظتم على الأرجح، فقد فتح التفاؤل المتهور في تسعينات القرن الماضي الطريق أمام شعور متزايد من التشاؤم – بل وناقوس خطر- حول النظام الليبرالي القائم. يرى روجر كوهين، الكاتب والصحفي المخضرم بصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية والليبرالي الكبير، أن قوى التفكك والتفرقة قادمة في الطريق، وأن الأسس التي قام عليها العالم بعد الحروب تهتز حالياً.

وفي تقرير صدر في أبريل/نيسان الماضي عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حذر التقرير من أن النظام الليبرالي العالمي يواجه مجموعة من القوى، مثل الحكومات الاستبدادية القوية، والحركات الأصولية المعصبة المعادية للديموقراطية. وفي مجلة نيويورك أيضاً، حذر أندرو سوليفان من أن الولايات المتحدة نفسها ربما تكون عرضة للخطر لأنها أصبحت "ديموقراطية أكثر من اللازم".

مثل هذه المخاوف تعد أمراً مفهوماً. في دول مثل روسيا والصين والهند وتركيا ومصر، بل وحتى في الولايات المتحدة أيضاً، يمكن رؤية تصاعد السلطوية، أو التطلع إلى "زعيم قوي" الذي يمكنه التخلص من حالة السخط الحالية من خلال قراراته الجريئة.

ووفقاً للخبير الديموقراطي لاري دايموند، فقد انهارت الديموقراطية في 27 دولة حول العالم في الفترة من عام 2000 إلى عام 2015، في حين أن العديد من الأنظمة الاستبدادية القائمة أًضحت حتى أٌقل انفتاحاً، وشفافية، واستجابة لمواطنيها.

حالياً، صوتت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما تسير دول مثل بولندا والمجر وإسرائيل في اتجاهات غير ليبرالية، في الوقت الذي يقف فيه أحد الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة على وشك ترشيح مرشح رئاسي يشجب فكرة التسامح بشكل علني، وهي الفكرة التي تمثل أساس المجتمع الليبرالي، كما أنه عبر مراراً وتكراراً عن معتقداته العنصرية، ونظريات المؤامرة التي لا أساس لها، بل وشكك في فكرة وجود نظام قضائي مستقل. وبالنسبة لمن يؤمنون بالقيم الليبرالية الأساسية، فهذه ليست أوقاتاً سعيدة على الإطلاق.

ربما تكون تلك نظرة واقعية للسياسة الدولية والخارجية، إلا أن التطورات الناتجة عن ذلك الوضع ربما لا تسر إطلاقاً.

أرى أنني مثل روبرت غيلبين، والذي يصف نفسه بأنه ليبرالي في عالم واقعي، والذي يقصد به أنه يؤمن بفضائل المجتمع الليبرالي، ويمتن بالعيش فيه، ويرى أن العالم سيصبح مكاناً أفضل إذا انتشرت المؤسسات والقيم الليبرالية على نطاق واسع، إلا أنه متشكك بشدة حول القدرة على تسريع تلك العملية، خاصة في مواجهة القوة العسكرية، ولكن هذا موضوع آخر. لذلك، أرى أن الأمور على ما يرام تماماً إذا كانت الآمال المبكرة لليبراليين قد تحققت، إلا أن ذلك لم يحدث، ومن المهم معرفة السبب.

المشكلة الأولى تكمن في أن المدافعين عن الليبرالية قد صدروا فكرة غير واقعية عن منتجهم. نحن نعلم أنه إذا سقطت المزيد من الديكتاتوريات وتمكنت المزيد من الدول من الوصول لانتخابات حرة، ودافعت عن حرية التعبير، ونفذت سيادة القانون، وتبنت أسواقاً تنافسية، وانضمت إلى تحالفات مثل الاتحاد الأوروبي أو الناتو، فستنشأ منطقة سلام واسعة النطاق، وسينتشر الازدهار، كما سيتم معالجة الخلافات السياسية العالقة بسهولة في ظل نظام ليبرالي.

عندما لم تسر الأمور على نحو سلس، وعندما تعرضت بعض الفئات في تلك المجتمعات الليبرالية لضرر ناتج عن تلك التطورات، كان رد الفعل العكسي أمراً لا مفر منه. ما زاد الطين بلة كان وقوع النخب في بعض الدول الليبرالية في أخطاء حاسمة، ومن بين ذلك إيجاد عملة اليورو، وغزو العراق، والمحاولات الخاطئة لبناء هوية الدولة الأفغانية باستخدام القوة، بالإضافة للأزمة الاقتصادية في 2008. مثل تلك الأخطاء وغيرها ساهمت في تقويض شرعية أنظمة ما بعد الحرب الباردة، وفتحت الباب أمام القوى غير الليبرالية، كما دفعت بعض شرائح المجتمع إلى المطالبة بالتغيير.

واجهت الجهود لإنشاء نظام ليبرالي عالمي معارضة متوقعة أيضاً من قبل قادة وجماعات كانت تحت تهديد مباشر أمام تلك الجهود، حيث لم يكن من المفاجئ أن كلاً من إيران وسوريا فعلوا ما بوسعهم لإحباط الجهود الأميركية في العراق على سبيل المثال، لأن إدارة الرئيس السابق جورج بوش ذكرت بشكل واضح أن هذه الأنظمة على قائمة أهدافها أيضاً. بالمثل أيضاً، يجد زعماء الصين وروسيا أن الجهود الغربية لنشر القيم الليبرالية يمثل تهديداً بالنسبة لهم، وإلا فلماذا اتخذوا خطوات عديدة لإحباط تلك الجهود؟

نسي الليبراليون أيضاً أن المجتمعات الليبرالية الناجحة تتطلب ما يفوق المؤسسات الديموقراطية الرسمية، حيث تعتمد على التزام واسع وعميق بتطبيق القيم الأساسية للمجتمع الليبرالي، وعلى رأسها التسامح. ما حدث في العراق وأفغانستان وغيرها من الدول يؤكد أن كتابة دستور وتشكيل أحزاب سياسية وعقد انتخابات حرة ونزيهة لا ينتج نظاماً ليبرالياً في النهاية إذا لم يكن الأفراد والجماعات بداخل ذلك المجتمع يتبنون القيم الليبرالية أيضاً. هذا النوع من الإلتزام الثقافي والمعياري لا يمكن أن يتطور بين عشية أو ضحاها أو أن يتم حقنه من الخارج، وبالتأكيد لا يمكن نشره بالطائرات والقوات الخاصة وغيرها من أدوات العنف.

من الواضح بشدة أيضاً أن الليبراليين بعد الحرب الباردة أساءوا تقدير دور القومية وغيرها من صور الهوية المحلية، بما فيها الطائفية، والعرقية، والروابط القبلية، وما شابه ذلك، حيث افترضوا أن مثل تلك الأمور الرجعية ستموت تدريجياً، وأن تقتصر فيما بعد على تعبيرات ثقافية غير سياسية، أو أن تحقق التوازن وتُدار تحت مظلة المؤسسات الديموقراطية.

ومع ذلك، تبين أن الكثير من الناس في أماكن متفرقة يولون اهتماماً أكبر للهوية الوطنية، والعداوات التاريخية، والرموز الإقليمية، بالإضافة إلى القيم الثقافية التقليدية أكثر من إهتمامهم بـ"الحرية" وفق تعريف الليبراليين.

وإذا كان استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يخبرنا بشيء، فسيكون هو أن بعض المصوتين (أغلبهم من كبار السن) قد وضعوا مثل هذا الاعتبارات بالأساس أكثر من الاعتبارات الاقتصادية البحتة (على الأقل إلى أن يواجهوا عواقب اختيارهم).

ربما نظن أن القيم الليبرالية صالحة للتطبيق عالمياً، ولكن الحقيقة هي أنه في بعض الأوقات تتغلب عليها قيماً أخرى. تظهر تلك المشاعر التقليدية –الهوية الوطنية والتاريخ وغيرها- في الأفق مع أي تغير اجتماعي سريع وغير متوقع، وخاصة عندما تضطر المجتمعات التي شهدت تجانساً دائماً في الماضي إلى دمج واستيعاب آخرين من خلفيات مختلفة، وأن يكون عليهم فعل ذلك في فترة قصيرة. يمكن لليبراليين التحدث عما يريدوه من قيم التسامح ومميزات التعدد الثقافي، ولكن الحقيقة هي أن دمج الثقافات في بوتقة واحدة لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق أو بسيطاً، كما أن التطورات الناتجة عن ذلك تمثل مادة خصبة يتغذى عليها القادة الشعبويون الذين يتعهدون بالدفاع عن القيم التقليدية للبلاد (أو إعادة البلاد إلى مجدها السابق).

الأمر الأكثر أهمية هو أن المجتمعات الليبرالية تمر بأزمة اليوم نظراً لكونها عرضة للاختطاف من قبل مجموعات أو أفراد يستغلون الحريات ذاتها التي تقوم عليها المجتمعات الليبرالية، وهو ما أثبته دونالد ترامب على مدار العام الماضي (ومن قبله جان ماري لوبان، وأردوغان، وخيرت فيلدرز، وغيرهم من الرموز السياسية في الماضي)، حيث أقصى ما يلتزم به هؤلاء تجاه المبادئ الليبرالية هو استغلال المجتمع المفتوح في حشد قاعدة شعبية، في ظل عدم وجود شيء في النظام الديموقراطي يضمن فشل جهود هؤلاء.

ربما يفسر هذا الأمر رغبة الكثير من الناس في الولايات المتحدة وأوروبا بوجود العم سام بشكل كامل في أوروبا، ليس خوفاً من روسيا، ولكن خوفاً من أوروبا نفسها. يرغب الليبراليون في أن تظل أوروبا في سلام، وتسامح، وديموقراطية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، كما يرغبوا في دفع دول مثل جورجيا وأكرانيا بصورة أكبر نحو دائرة الديموقراطية الأوروبية.

ولكن أيضاً في أعماقهم، هم لا يثقون في إدارة أوروبا للموقف، كما يخشون مما سيحدث في حال غياب الولايات المتحدة. وبالحديث عن القيم المفترضة لليبرالية، لا يمكن في نهاية المطاف أن ينكر المدافعين عنها أن النسخة الأوروبية من تلك الليبرالية حساسة للغاية، وتتطلب دعماً أميركياً لأجل غير مسمي. ربما يكون ذلك صحيحاً، ما لم يعتقدوا بأن الولايات المتحدة لديها موارد لانهائية، ورغبة لا محدود في دعم دفاعات دول غنية بالأساس، لذلك، يصبح السؤال: ما هي الأولويات الأخرى على الصعيد العالمي التي يمكن لليبراليين التضحية بها للحفاظ على ما تبقى من النظام الأوروبي؟

* هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Policy الأميركية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا